أحمد هلالي
كانت طفلة قصيرة القامة بالنظر إلى أقرانها، لكنها تفوقهم حيوية وحركية وذكاء. تذرع الساحة جيئة وذهوبا، ثم تقفز قفزتها الصغيرة وتدور حولـي مثل فراشة لتنتهي معلقة بـي. شعراتها الشديدة السواد وابتسامتها الحذرة تحيلاني على سواد عباءات النساء الشيعيات في نشرات الأخبار والحروب القادمة أخبارها من الشرق الأوسط. نساء يشين بحزن أبدي ورثنه من صفحات تاريخ أسود وأبـى أن يفارقهنّ أو يفارق أوطانـهن. لم تكن من صنف الأطفال الشُّقر الذين يظهرون في المسلسلات السورية أو برامـج التلفزيون. بشرتها داكنة تميل إلى السواد الـخفيف، تفيض بالحركة والنشاط لا تتوقف إلا والعرَق يسيل خطوطا على وجهها.
الجو بارد هذا الصباح، الشمس تطل من حين لآخر خـجولة وباردة من بين السحب. لـمحتني في ساحة المدرسة، جرت نحوي مثل خروف صغير وقفزت باتجاهـي قائلة:
- تتْكلم عربي؟
- نعم.
- طيب، قديش عمرك؟
مازحتها:
- الكبار ليس لهم أعمارا، الأعمار فقط للأطفال.
لكنها أصرَّت، وأعادت طرح السؤال بصيغة أخرى:
- أنت صار لك كم سنة في هاي الدنيا؟
- نسيت عمري في البيت … سأخبرك في المرة القادمة…. ههه
- أنت عندك أطفال؟
- نعم.
- إذن أنت بعمر بابا … أنت عمرك خمسة وأربعين سنة.
تعود لزميلاتـها في ساحة الألعاب، تشاركهن للـحظة لُعبَتُـهن، ثم تعود مثل فراشة متمايلة في الهواء. تمسك بيدي وكأني بها اشتاقت لأبيها الذي طحنته آلة الحرب الرهيبة على هامش معركة شرسة في ضواحي حلب دون أن يكون أحد طرفيـْها. تحول إلى رقم من الأرقام التي تفيض بها نشرات الأخبار كل يوم. كلما حاول طفل أو طفلة الاقتراب مني تطارده، قائلة:
- هذا مو أستاز الآن، هذا مثل أبويا.
يضحك الأطفال من كلامها، غير أنها لا تبالي بضحكاتهم. تجري وراء حمزة الطفل الريفي الذي طوحت به هو الآخر الأوضاع الاجتماعية بشمال المغرب لينتهي رقما من أرقام وزارة الهجرة واللجوء هنا في بلجيكا. يشاكسها قائلا: “مي سيبا طون بيغ زاهية[1]؟”. لم تكن زاهية الوحيدة في هذا الفصل الدراسي المخصص للأطفال حديثي الوصول لبلجيكا قبل دمجهم في الفصول الدراسية العادية. أوكتافيو من البرازيل وإيرزا من ألبانيا وجونسون من غانا وبان من فلسطين ومحمود وعمار من سوريا.
- أنا ما قلت أبويا يا أحمق، أنا قلت مثل أبويا. أبويا مات في الحرب … قتلوه الشبيحة.
ما إن نطقت بكلمة حرب حتى صمت الأطفال من حولها. وصارت حدقاتهم أوسع من كأس من فعل المفاجأة. عيون ملآى بالأسئلة الباعثة على الحيرة. لم يفهموا كيف أن طفلة بينهم فقدت أعز شخص في حياتها وهي الآن تمرح بينهم وتشاركهم الجلوس على مقاعد الفصل. بل كيف خرجت من هذه اللعبة المفضلة عند الكبار سالمة. بالمقابل لم تأبه زاهية بوقع الكلمة التي نبست بها شفاهها الصغيرة، فهي لا تعرف ما تعنيه الكلمة رغم أنها تحتفظ بكثير من الصور والمشاهد في مخيلتها الطرية من سنواتها الأولى قبل مغادرة وطنها. عويل نساء فقدن أحباءهم ومتاريس في الطرقات وسيارات محطمة هنا وهناك، ومنازل مهدمة وحفر تنتشر في كل مكان من حيها بهامش مدينة حلب.
“مات في الحرب … آهن الحرب … تلك لعبة ممتعة جدا، لقد جربتها”، قال جونسون، ثم أضاف: ” لدي لعبة بلاي ستايشين في البيت … حصلت عليها بمناسبة عيد ميلادي … يمكنني أن أطلق النار على الأعداء وأرديهم برصاصة واحدة، أحب كثيرا أن أقضي عليهم بأشعة اللايزر الزرقاء، سريعا … تش تش تش … هكذا، فيتساقطون. هل مات أبوك بفعل هذا؟”.
“أنت لا تعرف شيئا … الحرب هذه ليست لعبة على الجهاز تبعك، هذه لعبة فيها أشخاص حقيقيون بأسلحة معبأة بنار حقيقية، يطلقون النار على بعضهم البعض وقد يموت أحدهم. هذا ما حصل مع أبي رغم أنه لم يكان مشاركا فيها. أبي كان رجلا جيدا يشتري لنا أنا وأخواتي مايا وسما الحلويات وكثير من الهدايا والأشياء الجميلة. كان عندما تحل العطلة المدرسية يجول بنا على متن سيارته عبر أرجاء سوريا ومرة سافر بنا إلى تركيا”.
تفرق الأطفال بعد جرس نهاية فترة الاستراحة، أخذت زاهية مكانها في الصف فيما طار جونسون سريعا ليفرغ مثانته الصغيرة بعد أن امتص عبوة الكوكاكولا خلسة، فهي ممنوعة داخل فضاء المدرسة حسب تعليمات مديرها من أجل تشجيع الأطفال على اكتساب عادات غذائية سليمة. في طريق عودته من المرحاض طار على بِـتيـم[2] الهادئ بقرصة في العنق، لمحته فنهرته ونبهته لعدم تكرار ذلك.
خلت الساحة من الجميع وسيطر الصمت عليها سوى من حفيف الأشجار الطويلة وهي تسابق منارة كنيسة سان جون بابتيست المنتصبة في الساحة لصق المدرسة. غمست يداي الباردتان في جيب سترتي الإسبري[3] الدافئة وانعطفت جهة السلم حيث كان آخر طفل يختفي عبر الباب الرئيسي. كانت أدراج السلم تختفي ورائي الواحد تلو الآخر فيما بسمة زاهية تتقطع صورتها في خيالي معجونة بصور الحرب القادمة من جهات الأرض، وتختفي بعيدا مخلفة في مخيلتي مايشبه لوحة من لوحات كانديسكي.
…
2018.12.11
بروكسيل
[1] « Mais, c’est pas ton père Zahia »
[2] Betim
[3] Esprit