البشير الأزمي
أتذكر.َ.
أتذكر يومَ حدثتني عن الموت وعن الخوف، فاغْتَمَمْتُ..
السكون سكون مقبرة وأنت تحدثني، حدثتني بهمس كأنك تخشى أن تزعج الموتى وينهضون من قبورهم ويحيطون بك ويأخذونك إلى عالمهم. قلتَ إنك لا تخشى الموت، بل تخشى المجهول القابع خلف الموت.
أتذكر أنك ظللتَ الوقت كله تثرثر في أمور كثيرة لا رابط يجمع بينها. حدثتني عن أحلامك وآمالك وآلامك كما كنت تسميها، عن حلمك بشمس لا تغرب.. عن الموت وعن تفاوت القبور.. عن …. حدقتُ في وجهك.. أطلَّ منه ظِلٌّ من حزن وأسى.
أتذكر..
أتذكر أننا مشينا في دروب ضيقة متعرجة، هَفَتْ، يومها، نفسك للغناء، غنَّيتَ.. عرفتُ لحظتئذ أن حِسَّ الألم ينتابك.. كلما أحسستَ بالألم يجثم على صدرك تغني. غَنَّيتَ.. تَمَدَّدَ صوتك شجياً يخرق الصمتَ.. تطلَّعْتُ إلى وجهك، في عينيك ذعرٌ ودمعٌ مُحْتبِسٌ. قلتُ لك إن الغناء لا يردُّ الموت. نظرتَ إليَّ، ارتمى الصمتُ أمامنا.. قلتَ في إيطاليا واجه الناسُ الموتَ بالغناء الجماعي من شرفات منازلهم. صَمَتَّ للحظة، تجهَّم وجهُك وقلت بحدة:” هيا نجرب الموت هيا[1]“، وتابعتَ غناءك.
كلامك شبيه بحد المُدية كلما فُهْتَ بكلمة أحسُّ بنصلها يخترق جسدي وينغرز عميقاً..
توقفت عن الغناء، صمتَّ.. وشْوشتَ للسكون فردَّ الفراغُ الصدى. أومض البرق.. ازداد إيماضاً، كشف الوميضُ عن دمع محتبسٍ في عينيك.. بدأت تبكي، عيناك تَسِحَّان دمعاً.. حاولتُ أن أستدعي من ذكرياتنا ما يُرَمِّم أحزانك، لم أفلحْ.. لم أستطع أن أخفف من الوطأة التي تجثم على قلبك.. أو ما اعتقدت أنهت تجثم على قلبك. بكيتَ إلى جفَّتْ مقلتا عينيك..
قلتَ من غيابة الذاكرة تأتيك صورٌ.. صورٌ ممزقة.. لم تحدثني عن تلك الصور، اكتفيتَ برفع عينيك إلى السماء.. السماء تبشِّرُ بسيلٍ غاضب وأنينٌ صامتٌ في صدرك يطرد الطمأنينة من قلبك..
أتذكر..
أتذكر أنك اقتربتَ مني، سحبتني من يدي وقدتني إلى المقبرة.. جلست القرفصاء وبدأت تنكث التراب بعصا. حدثتَني عن أحلامك وعن الكوابيس التي مزَّقَتْ أحلامك. بصوتٍ واهن قلت لي أحلم أن أوضع في قبر مبني من أجور وإسمنت.. أخشى إن أنا متُّ يودعونني في حفرة وينهلون عليَّ التراب، لا أريد أن تسقط الأمطار وتسري مياه كثيرة تبعدُ التراب وتكشف ما تبقى منِّي، لا أريد أن تكشف عظاماً وتعبث بها كلاب ضالة، أريد أن أدفن في قبر من أجور وإسمنت..
بدأت تلوح على وجهك آلامٌ كانت غافيةً. ” أريد أن أدفن في قبر من أجور وإسمنت..”. قلتَ ذلك والعرقُ ينز من جبينك، قلتَ ذلك ومشيت تحتَ خباءِ الليل.. في هُلامِ الظلمة ضِعْتَ..
أتذكر..
أتذكر وأنا أمرُّ بالفلاة تعَثَّرت قدمِي، اعتقدتُ أن حجراً وقف عثرة في طريقي، انتبهت.. كان ذلك عظماً جرفته سيول أمطار، من ركام التراب عرفتُ أنه قبرٌ.. تذكرتُ حُلمك بقبر من أجور وإسمنت.
………………..
[1] – من قصيدة” في ظل وادي الموت” لأبي القاسم الشابي