محمد فرحات
صارت المندرة البندارية خلية نحل لا يهدأ طنينها ولا يصمت، ففي الصباح يباشر الشيخ أبو جمالة مهام مراجعة القرآن وتحفيظه للصبية والرجال ولكل من أراد، إلا أن شغله الشاغل كان مُنْصَبًا على كِرَام البصر، ففي تلك الأيام لم يكن طب العيون كما هو عليه الآن من تقدم، ولم تكن الرعاية الطيبة كما ينبغي خاصة في الأرياف والقرى، فكان أقل مرض عيون من رمد أو مياه بيضاء كفيلا بإصابة صاحبه بفقدان البصر، فقام الشيخ بإحصاء كل من فقد بصره، ودعاهم للمندرة وعرض عليهم أن يحفظهم القرآن، يكرمون به أنفسهم ويزكونها، ويكفيهم عز القرآن سؤال الناس.
تجمع لديه الكثير منهم كل منهم قد نهل من القرآن بما قد قسمه الله له، ولم يداوم على ذلك غير ثلاثة؛ الشيخ حسين البسيوني، والشيخ حامد، والشيخ فايد، كلهم في سنوات معدودة قد أتم حفظ القرآن تِلَاوَةً وتَجْوِيدًا، وبلغ من الأداء مَبْلَغًا عَظِيمًا، كلهم مَنَّ الله عليه برخامة الصوت وحسنه، فكانت تتخطفهم البلدان المجاورة لإحياء الليالي ومواساة أهل الموتى بما تيسر من آي كريم.
وأقام كل منهم بناحيته كُتَابًا للتحفيظ والقراءة فانتشر الحفظة، والمجيدون المهرة بالقرآن.
وكان سيدي الشيخ فايد آيه من آيات الله بصيرة وذكاء ومهارة، حتى أنه كان يفطن لمقالب الفلاحين ومداعباتهم فيفسدها عليهم، وكان يستطيع “لضم” الإبرة حتى شك الكثير في مسألة فقده للبصر، وأقسم البعض على أن الله كان يرد عليه بصره بأوقات الشدة والحاجة، فكان بجانب القرآن مُرِيدًا مُخْلِصًا للطريقة، فما فاتته حضرة من حضرات البندارية، وكان له دعوة مستجابة لاترد. ويلوح الآن على حدود القرية مسجده المبارك المسمى باسمه فما دخلته إلا تنسمت فيه السكينة، والمحبة، وانشراح الصدر.
وكان الشيخ حسين بسيوني قَارِئًا ندي الصوت، وبجانب ذلك كان مُنشِدًا، ومداحًا لا يُشق غباره؛ فتصدر منه أَلْحَانًا فطرية بديعة. والغريب أنه كان يعدد المقامات الموسيقية بما يناسب ما ينشده، فتراه يتنقل كأمهر العازفين من السيكا للصبا للنهاوند بكل براعة على آلته الموسيقية التي لم تتعد الكوب الزجاجي والملعقة، ولا يدانيه في عذوبة صوته غير الشيخ حامد، وكان صيت الشيخ حامد كقارئ، ومنشد قد انتشر لخارج حدود القرية حتى وصل لحدود طنطا، فكانت العائلات الكبرى تتخطفه في شهر رمضان ليصلي بهم القيام ويحيي ليالي الشهر الفضيل بإنشاده، ومدحه خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم.
***
موكب من فرسان أربعة، تعلوهم مهابة قواد جيش، لينة قسماتهم رحمة وعطف، تلمحها ولا تخطئها، تتغشاهم موجات متلاحقة من ضباب كثيف، وسماء تدثرت نجومها بجبال غيم يطارد بعضها البعض، وتلاحقها بلا هوادة أسواط ريح صارخة، تجيبها أوراق أشجار الجازورين إبرًا خضراء قائمة، بصفير حاد يداعب الآذان كناي لا يملك غير نغمة واحدة لا يحيد عنها لوعة وشَوْقًا لحبيب رحل بعد دوام هجرانه.
ولسبب ما تتداخل الأزمان في مشاهد متلاحقة فتشاهد عُقُودًا تتقدم، وتتأخر أخرى، ربما لكسر رتابة السرد، ربما لوله الكاتب وإخلاصه لمدرسة التفكيك التي راح زمانها، ربما للتأكيد على فكرة ما تظهر لتسارع في الاختفاء؛ أن الزمن بوحداته محض تركيب مُتَخَيِّل، يمارسه العقل الإنساني كأداة وضعية للتصنيف ليس إلا، فلا نصيب للزمن من واقع حقيقي، أو لأن ظهور هذا الموكب من أولياء القرية القدامى قد أثر في تدفق الثواني، فهامت في جَذْبَة شديدة سلبتها ما جُبِلَت عليه من تراتب صارم، ربما كان هذا هو أقوى الأسباب بَعِيدًا عن ضرورات السرد، أو مقولات الفلسفة، أو انتماءات مدارس النقد.
سيدي حمزة، سيدي الجويني، سيدي المنسي، سيدي العراقي..كلهم يتجه نحو مبتغاه، هم على موعد مع الأحباب في حضرتهم، فلا حديث منذ أن فتحت مقبرة عم إبراهيم عبده، وكان ذلك في التسعينات- لاحظ أننا مازلنا في منتصف الأربعينيات-ولكنها جذبة الزمن، إلا عما رآه الناس وتناقلوه حتى تغشت الأخبار ما جاور من قرى وكفور، فالبرغم من مرور الزمان، فكان انتقاله في الثمانينيات، فما زال جثمانه كما هو، غَضًّا طَرِيًّا وكأنه مازال ينبض حياة، وتتدفق شرايينه برجع قلبه المسبح. ففضلًا عن جواز ذلك شَرْعًا بما تواتر من أحاديث، وما سبق سرده من تبشير الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وآله بذلك، إلا أن الناس كانوا على عادتهم بين مصدق ومكذب، فلاَ تَثْريبَ على هؤلاء ولا على أولئك، ولا لوم على معتقد أو نافر، كلهم تحت سحائب الرحمة وأقلام القدر.
وحين انتهاء الحضرة تسرع فتاة صغيرة تهمس في أذن السيد العيساوي، فيتهلل وجهه الوسيم الأبيض، تجرى من أثر إنفعاله دماء السعادة في وجنتيه…
يعرف الجميع ما قد بُشِرَ به بعد ثَوَانٍ معدودة فقد وُلِد له لتوه غلام، يصل ما قد مضى بما هو آت.
-ماذا سوف تسميه ياشيخ؟
-نَسَبْتُه لسيدنا الإمام أبي عبدالله الحسين؛ فهو حسيني.
وكان سيدي أبو المعارف العيساوي قد زار ولده السيد، وبشره بذلك، وقرر في سرعة من قد حزبه موعد قد آن، فقدر الحسيني السيد العيساوي البحث، سيبحث طيلة حياته كجده، وسيكون له شأن لايُنكر، وأوصاه به خَيْرًا، وأعطاه ورده، وكان نصيبه من ورده كأبيه؛ أي طلب العلم، إلا أن جدران خلوته ستكون من الكتب لا من الحجر، وكان الحسيني مازال يتعثر في جلبابه، يتلقاه الجد مُرْحِبًا به في خلوته فما كان لأحد أن يدخل عليه خلوته إلا حفيده المحبب، فيرحب به الجد ضَاحِكًا مداعبًا، وربما أنبت الله أعواد قصب السكر داخل الخلوة، ليختار أبوالمعارف منه ما يشاء، يقشر لحفيده الحبيب عقلة أو اثنتين، أو يمتطي الطفل عودا كحصان يعدو، فيتعجب الناس كيف دخل خلوة جده خالي الوفاض، وكيف يخرج بعود من القصب الأحمر!
فكبر المجلس وصدح سيدي أحمد الصعيدي بمنظومة البندارية، كان قد غادر عتبة الطفولة لباكر شبابه الغض الأخضر، وعلت صوته غلظة خشنة محببة ضاعفت من ذلك الشجن الملازم لأدائه، يصل مشايخ البندارية بعضهم ببعض، لينتفض المجلس بآهات ولِهةٍ، هائمة يصدرها من الحين للحين سيدي إبراهيم عبدة.
وكان أكثر الحاضرين إنصاتًا الأولياء الفرسان الأربعة، فسوف يغادرون بعد قليل إلى الديوان فهم أَيْضًا في عجلة من أمرهم.
***
ولم يكن من شغل يشغل عم سليمان الصعيدي إلا أن يزوج ولده الشاب أحمد، فجد في البحث حتى وجدها، فتاة من أصل طيب، ذات خلق ودين، وتدبير وإخلاص، لم يكن لسيدي أحمد إلا أن يفرح بإختيار أبيه، ويسعد.
قاموا على عجل بالاتفاق على صندوق العروس من خشب مغطى بأوراق جرائد لونت بالأحمر والأصفر، وحصيرة، ووسادتين صغيرتين، وأخرى طويلة، فلن يتغير مكانه ولا مستقره، فهي ذات الحجرة بذات الدار الكبيرة التي يجتمع فيها الأب سليمان وأسرته، والجد محمد وأسرته، والأعمام وزوجاتهم وأولادهم، وكان للشاب أمنية أسر بها لأبيه وهي أن يمتلك مرتبة قطنية، فأمر عم سليمان المنجد بصنع مرتبة، على غير عادة القرية في ذلك الوقت، النائمين بجانبهم على حصير السمر اليابس.
وكان الأب، والابن، والحفيد في الحضرة قد اجتمعوا مع الأحباب، أجيال تلتقي على المحبة مع أجيال، وأيام تمر، وسنون تُطْوَى، وأعمار تبدأ لتنتهي، ليشهد الجميع مقدورهم ويسارعون لموعدهم المكتوب.
وفي نهاية الحضرة يشعر العم سليمان بضيق في نفسه، وكأنه يتنفس من ثقب أبره، فينهض الشيخ والجد والحفيد كل يطمئن نفسه بكلمة تيسر الأمر، ويسارع أحد الأحباب ببعض الماء، والآخر يُقْلِب سُكَّرًا فيذيبه في كوب ماء، وينظر العم سليمان للجميع برضا ثم تجول عيناه بجدران المندرة، يسلم على لبناتها لبنة لبنة، فبينهم ود، ومحبة، وتسبيح، وهيام. يعرفهم ويعرفونه منذ أن كانوا تُرَابًا، ومنذ أن كان ترابا.
تغيب رُوَيْدًا عوالم، وتظهر أخرى، تسيل أنفاسه ماء قد أنفك من محبسه يتسرب قطرة قطرة، ينهمك الأب في الترحيب بضيوفه كعادته كلما جاءه ضيف، يود لو يعد لهم ما تيسر من قِرى الضيف، فتراه يضحك حِينًا ويتحدث حِينًا، يرتدي على عجل تشريفة البشوات -حين يهدي لهم جلالة الملك رتبة البشوية- طربوشا طويلا مستقيما، وبِزَّة رسمية مزركشة سوداء، ووشاحا أخضر، متمنطقًا بسيف يلمس برفق الأرض الْمُزَيَّنَة بالجرانيت الملكي، يأخذ وضعية التصوير ، ويقوم المصور بضبط كاميرته بزاوية محترف، يبتسم سليمان ابتسامة رائعة.
يعرف الجد كيف تستقبل هذه العائلة هذا الضيف المتخفي الخطو، يعرفه جَيِّدًا في وجوههم، فسارع بترديد الشهادة نيابة عنه الابن.
كان اللقاء الأول والشاب أحمد الصعيدي، ماذا يفعلون، وكيف يقولون بحضرة هذا الضيف، كيف تتجاور الأيام هكذا على هذا النحو العجيب، وهل يتكرر اللقاء مرات طالما كانت الحياة، وككل البدايات كانت استحالات متوهمة، تسارع نحو الممكنات، وما تلبث إلا أن تصير عادة من العادات.