ذاكرة المرأة العراقية وبنية المشاعر في قصص ميسون ملك

الصندوق وقصص أخرى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سيد ضيف الله

“الصندوق وقصص أخرى” هي المجموعة القصصية الأولى للعراقية ميسون ملك، ولم يسبق هذه المجموعة سوى قصص مفرقة على مجلات وجرائد عربية، الأمر الذي يدهش القاريء فور الانتهاء من قراءة كتاب ميسون الأول، فليس في الكتاب أى علامة من علامات الإصدار الأول، بل فيه من شاعرية اللغة وسلاسة الحكي وعمق المعرفة بالعالم وتراكم الخبرات الحياتية ورهافة الحس بمشاعر البشر ما يجعل القاريء يجزم بأن بهذا الكتاب سردا معتّقًا، فيه لذة وفيه ألم يليقان بتجربة استكشاف ذاكرة امرأة عراقية تشبه مدينتها بغداد. فهي ذاكرة الجدة التي تحكي لحفيدتها(فرح) عن الهجرة والنزع من الأوطان وفي الوقت نفسه ترسم لها وجوها كثيرة للمحبة، لأن ذاكرة المهاجرين ليست كأية ذاكرة، فـ “ذاكرة المهاجرين قوية يا فرح”(الحكاية الثانية، ص161). إن قوة الذاكرة ليست مجرد علامة على صحة البدن، بل إنها العلامة على صحة الروح وقوة اليقين بالذات. وهنا نجد ثمة تداخلا بين أنسجة الذات بين الراوية وشخوصها النسائية في المجموعة القصصية، ونلحظ أيضًا أن قوة الذاكرة وصحة الروح وامتلاك اليقين بالذات قواسم إنسانية وثقافية مشتركة تنبني منها بنية المشاعر في كل قصة من قصص هذا الكتاب. كما نلحظ أن هذه القواسم هي نفسها ما يميز منظور الراوية المفارق للمنظور السائد في ثقافتنا العربية للمرأة. ففي قصة (هي رباب) ثمة إزاحة واعية لصورة الرجل الصابر على الألم المقدّر عليه في الكتب الدينية المختلفة (أيوب)، وفي الوقت نفسه ثمة إحلال لصورة أيوب العراقي في القرن العشرين لكنه في هذه المرة ليس الرجل، وإنما المرأة /رباب التي تبكي الوطن بحرقة وهي فيه زائرة بعد سنوات النزع منه، لكنها المرأة التي تمتلك القدرة على التمرد الثقافي فتكون هي صاحبة المبادرة لبناء علاقة حب مع رجل إيراني تولّدت في نفسها مشاعر حب نحوه بعد لقائهما صدفة في شوارع بغداد.”قطفت رباب زهرة فُل دمشقي من شجيرة على يمينها وقدّمتها له، وعندما تناولها أحسّ بقلبه مثل جرّة هشة الجدران يتدفق فيها الماء بعنف حتى لتكاد تنكسر. التفت لرباب قائلاً: لم أحلم بأمسية كهذه.كنت مترددًا في زيارة بغداد. خفت أن تجعل ذكريات الحرب التي نشبت بين بلدينا الناس هنا عدائيين نحوي.” (هي رباب، ص23).

إن إزاحة أيوب الرجل وإحلال أيوب المرأة محله يتم بوعي شديد بضرورة الوصل بين الشخصي والعام، بين الذات الأنثوية والذات القومية، بحيث لا تكون الأنثى ضحية الخطاب الذكوري المتشدق بمحبة الذات الوطنية أو القومية. فلابد من التئام مشاعر رباب الأنثى وبث الحياة فيها لتنبعث مشاعرها تجاه الوطن حيّة بعد اغتسال صدأ اللوعة بصحبة الحبيب/الآخر الايراني في الزورق.” هل تفهمني لو أخبرتك أنني وأنا في الزورق أمس شعرت أنني أغتسل من صدأ اللوعة في السنوات العشر الماضيات؟” (هي رباب، ص38).

إن عملية إزاحة أيوب الرجل وإحلال أيوب المرأة كانت ضرورة من منظور راوية جسدته رباب التي كانت حكايتها حكاية كل العراقيين، كما جسدته الجدة في قصة الصندوق. من هذا المنظور تتفجر المفارقة بين واقع مرير تعيشه المرأة في سياقات متشابهة في العراق وفلسطين وأفغانستان والهند..إلخ وبين خطاب حقوقي مطلوب من تلك المرأة العراقية الموظفة في الأمم المتحدة أن تتبناه وتسوق له بحكم موقعها الوظيفي!

ومن هذا المنظور تفجّر الراوية تساؤلات عن الوطن الذي صار إله الشر على أيدي الحكام المستبدين والرجال المتحولين عن مبادئهم. “هل أصبح الوطن آلهة الشر التي تلتهم أولادها ليرحل بموتهم المستقبل ولا يبقى فيه إلا نساء وأطفال وشيوخ ينوحون حول قبور خالية من الجثامين؟”( الصندوق، ص82).

إن صبر أيوب الرجل ليس كصبر أيوب المرأة، ذلك أن وعي الراوية بأسباب تحول الأوطان إلى آلهة للشر يجعل من الأنثى في هذه المجموعة القصصية نبية سلام ومحبة ومقاومة تحمل على ظهرها الخطاب المضاد للاستعمار والاستبداد في آن، ولا فارق هنا في القدرة على حمل هذا الخطاب بين أنثى في مرحلة الشباب وأنثى في مرحلة الشيخوخة، فهو حمل لا يحتاج سوى لبويضات الأنثى الحالمة كي يظهر للوجود عالم أفضل. ففي  قصة “جيفارا وموزارت والزلزال” نجد الأنثى الشابة “سها” هي القادرة على مناجاة موزارات في وسط الزحام وهي القادرة على الغضب، ومن ثم هي القادرة على أن تجسد الخطاب المضاد للاستعمار “قل لي، فأنا لا أجد غيرك أحدثه، كيف لا أغضب من هذا الرجل الذي ذاق شهد المقاومة وعرف جلالها، ثم تحوّل فجأة إلى انفتاحي يسخر بغلاظة من جيفارا؟”(جيفارا وموزارات والزلزال، ص60).

وفي القصة نفسها نجد (أم سها) وقد تخلصت من غضب الشباب لتمتلك يقينا بالذات يجعل منها جيفارا حيًا وسط أسرتها تجمع أحفادها حولها وتحكي لهم بينما يهرول الناس في القاهرة للشوارع فزعا من زلزال زلزل الأبنية ولم يزلزل روح المرأة العراقية الواثقة في ذاكرتها المتيقنة من سلامة روحها.

إن أيوب القرن العشرين/ المرأة العراقية حاملة الخطاب المضاد للاستعمار والاستبداد ترفض استعارة المرأة /الوطن وتأبى إلا أن تكون امرأة وحسب، وهو ما تصرخ به الجدة في دفترها الخاص في قصة الصندوق ” أنا لست العراق. أنا لا أحمل مثله على ظهري آلاف السنين”(الصندوق، ص87)، وربما لذلك استطاعت الكتابة أن تعين الجدة على التخلص من المشاعر المكتومة والتي تسمم الحياة، لتكتب رافضة استعارة (المرأة/الوطن) وتقدم تأويلا مختلفًا لقصيدة المتنبي  التي كتبها في صباه عن العشق:

أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ            وجَوى يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ

أبني أبينا نحن أهلُ منازل              أبدا غرابُ البين فيها ينعقُ

هذا النص الشعري مألوف على منابر المساجد للعظة من الموت، لكن من منظور المرأة العراقية أيوب القرن العشرين يمكّن الجدة من تقديم تأويل يجعل من القصيدة خطابًا مضادًا للاستبداد الذي حوّل الأوطان لآلهة للشر. “هذا البلد شهد منذ فجلا الزمان قادة صنعوا نصرهم على أكباد الأمهات ويتم الأطفال، أين هم الآن؟ صاروا ترابا يضمه لحدٌ ضيقٌ كما بلّغت يا سيد الشعراء؟”(الصندوق، ص87).

إن الصوت النسوي القادر على تأويل التراث لنقد الاستبداد، والقادر على مخالفة أعراف ثقافية سائدة والمبادرة رجل ومد جسور المحبة معه رغم أنه مصنف سياسيًا وثقافيًا على أنه عدو، هو صوت قادر على الإحساس بآلام الإنسان سواء كان امرأة هندية/جدة الراوية انتزعت من أهلها في الهند لتتزوج ببغداد في سن الخامسة عشر في قصة “أطفال أفغانستان ذوو اللون الأزرق”، أو كان هذا الانسان أطفالا يقاومون الجوع بتناول شوربة الأشواك نتيجة بيروقراطية الأمم المتحدة. لكن الصوت الأنثوى لا يكتفي بالتعاطف والإحساس بالألم والصبر على المكاره ونقد الخطابات الاستعمارية والاستبدادية وإنما هو صوت لذات قادرة على الفعل حيث تحمع التبرعات خروجا على اللوائح من زملائها موظفي الأمم المتحدة لتوفر طعامًا للأطفال بدلا من شوربة الأشواك، وتنشر بشفافية عن واقع الأفغان مما يزيح ورقة التوت عن عورة المجتمع الدولي.

إن الراوية تبني من ذاكرة المرأة العراقية مشاعر إنسانية وليس مجرد مشاعر نوعية متعصبة نوعيًا، ومن ثم نجد خطابها الإنساني يطول الطبيعة ويتجاوز النوع الإنساني نفسه فضلا عن النوع الاجتماعي(رجل وامرأة). ففي قصة “مشهدان من علاقة خطرة” نرى علاقة تداخل بين الرجل والمرأة بل علاقة توحد بينهما وبين الطبيعة في نص فانتازي جميل يجعل من نتاج هذا التوحد الروحي صبّارة تحيط بها الأشواك.

“يرى غريب سكينة تخرج من جذع زيتونة ، وتخلع عنها جلد أفعى. تشهد سكينة غريب يدخل صدرها ويصبح واحدًا مع الرجل الثاني هناك، ثم يرع كل منهما، في اللحظة ذاتها، الآخر وهو يتحول إلى صبارة هائلة الحجم، ترتفع من قلبها زهرة وحشية الجمال، عميقة كسرِّ قديم، تحيطها مئات الأشواك”(مشهدان من علاقة خطرة، ص55).

إن بنية المشاعر في هذه المجموعة القصصية استندت لذاكرة المرأة العراقية بوصفها صبّارة بشرية ليس أمام الرجل سوى التوحد بها ليصل إلى الإنسان بداخله، مما يعني من وجهة نظري أن إزاحة أيوب الرجل وإحلال أيوب المرأة ليست سوى رمز لضرورة إزاحة الخطاب الذكوري وإحلال الخطاب النسوى للوصول من خلاله إلى الإنسان في كل من الرجل والمرأة ، وهو ما يعني أن الخطاب المضاد للاستعمار لابد وأن يكون بالضرورة مضادًا للاستبداد وللخطاب الذكوري في آن.

مقالات من نفس القسم