محمود فهمى
1
فوق شاطئ بعيد
رأيتنى ميتًا فوق شاطئ لا أعرفه، كنت أنام بملابسى الرسمية كاملة، مر صبية يصخبون ويضحكون إلى جوارى، نظروا إلى، لم يتساءلوا فيما بينهم من أكون ومن أين جئت كأننى لا شيء، جلس أحدهم إلى جوارى ذلك الذى كان يرتدى سروالًا قصيرًا وقميصًا ذا أكمام قصيرة ويمسك فى إحدى يديه طائرة ورقية بألوان زاهية لكنها دون خيط، انغرست ركبتيه فى الرمال مد يده وفك رابطة عنقى، حين اقترب منى أحسست أننى أعرفه مرت أنفاسه فوق وجهى أعرف صوت تنفسه، سمعته من قبل فى لحظات خوف وفرح ولعب، نعم أعرفه لكننى لا يمكننى تذكر من هو، ربط طرف رابطة العنق بالطائرة أمسك طرفها العريض وبدأ فى الجرى. جروا خلفه تحولت رابطة العنق إلى خيط أخذ يزداد طولًا ويأخذ الطائرة إلى أعلى حتى اختفت فى سماء غائمة، تركونى تحت وابل من مطر تساقط من غيمة خدشتها ضحكاتهم وطائرة انقطع خيطها لكنها ارتفعت بدلًا من السقوط، حين تذكرت من هو وبدأت فى النداء عليه كان قد ابتعد ولم يعد بإمكانه سماع صوتى.
2
حديقة القلوب المحطمة
القلوب التى نسيها أصحابها فوق الدكك الرخامية فى حديقة مهجورة جمعتها ووضعتها فى أحد الأدراج، مر وقت طويل لم أفتح خلاله هذا الدرج حتى سمعت صوت بكاء يصدر منه، فتحت الدرج لأجد بعض القلوب تبكى وبعضها منزو فى أحد الأركان، بعضها جف وذبل، تناولتها برفق حتى لا تتكسر، حملتها إلى الشرفة، قفز بعضها إلى إصص النباتات الموضوعة إلى جوار الجدار متحولة إلى زهور ذابلة تنتظر الماء الى أعاد إليها الحياة بعد أن قمت بريها، بعض القلوب تحولت إلى عصافير انضمت إلى العصافير التى تجمعت حول الحَب الذى أنثره كل صباح على أرض الشرفة، رأيتها تنفض أجنحتها وتطير عائدة إلى الصدور الفارغة التى فقدتها.
فقط قلبان بقيا على حالهما من الجفاف والذبول أعدتهما مرة أخرى ثم تخلصت منهما بعد عدة أيام.
3
خط النهاية
حلمت أننى فى مضمار سباق، أقف عند خط البداية، شعرت بالرعب حين نظرت إلى المتسابقين الآخرين الواقفين خلفى وإلى جوارى، كانوا أكثر من أربعين متسابقا جميعهم كانوا يحملون نفس ملامحى، يرتدون الملابس نفسها التى أرتديها، ما زاد من رعبى أننى حين نظرت إلى الجماهير الجالسة بالمدرجات كانوا أيضًا يحملون ملامحى، لم أعرف من أكون بين المتسابقين أو الجمهور أو القضاة، نظرت إلى أحد الواقفين بجوارى، ألقيت عليه التحية فلم يرد ولم يلتفت إلىّ، نظر إلى الجانب الآخر وكأنه لا يرانى.
ارتفع صوت القاضى الممسك بمسدس طالبًا من المتسابقين الاستعداد لانطلاق السباق، كان له نفس صوتى مع غلظة لم أعهدها ولم أتحدث بها من قبل.
تقدمت، وقفت عند خط البداية، سمعت صوت طلقة البداية فانطلقت أعدو، جريت بأقصى ما استطيع، جريت كما لم أجر من قبل، وعلى الرغم من ذلك سبقنى الجميع، كان عدد المتسابقين يتناقص، من كان يعبر خط النهاية يختفى فى الهواء كأنه لاشيء.
حين أنهيت السباق كنت أقف وحيدًا فى مضمار خاو، لا متسابقين، لا جمهور، لا قضاة، لا أحد على الاطلاق.
4
قطار لا يتوقف
استيقظت بذراع وحيدة، شعرت بألم خفيف مكان البتر، ألم يمكن احتماله، ألم كنبضات تجيء وتذهب، كان الدم لايزال يتساقط ببطء مكان البتر، اتكأت على ذراعى السليمة محاولًا النهوض، سمعت لحظتها صوت قطار يمر بعيدًا.
رأيت قطارًا يجرى بين حقول واسعة ولا يتوقف بمحطات، يلوح له المنتظرون فوق الأرصفة لكنه لا يتوقف، أنظر إلى الخلف، أراهم ينظرون فى أسىً إلى القطار المبتعد ثم يعودون للجلوس على محطات انتظارهم الطويل، رأيت فتىً يقفز من القطار ويسقط تحت عجلاته، رأيته من النافذة يجلس جوار ذراعه المقطوعة يبكى، لم أكن أنا الذى قُطعت ذراعه بل كنت المتكئ على نافذة القطار بذراعين سليمين، ذراعين أحرص على تدريبهما وتقويتهما بثقلين أحتفظ بهما جوار سريرى، حين جلست على حافة السرير كانت ساقى اليسرى قد بدأت فى الاختفاء ، خفت أن أتذكر بقية الحلم، لكننى حين هممت بالوقوف تساقطت من عينىّ دموع ساخنة، لحظتها عرفت أننى دخلت حلم امرأة حزينة كانت تبكى فى قطار لا يغادره أحد.
5
رائحة البحر
لم يكن هناك غير عامل منهك فوق شاطئ غادره الناس، كلام لرجلين متشابهين تمامًا يجلسان فى مواجهة البحر.
قال أحدهما للآخر: أريد النزول إلى البحر.
نظر العامل المتعب مندهشًا مما سمع بينما كان يجمع ماتركه الناس فوق الرمال، كان الوقت متأخرًا وشمس حمراء تسقط هناك عند نهاية البحر.
أجابه الآخر: الوقت قد تأخر كما أننا لا نجيد السباحة.
صمت ونظر إليه فى حزن وواصل باستسلام مراقبة سفينة تغيب فى عمق البحر.
الليل حل والعامل المجهد اختفى، ولم يبق غيرهما، عجوزين تهدلت ملامحهما المتشابهة، يسيران ببطء ينظر أحدهما إلى الآخر نظرات ملؤها اللوم والأسى بينما تقطر من ملابسه مياه بحر لم يجرؤ أن ينزل إليه أبدًا.
6
بنت وموسيقى
عبرتْ الطريق مسرعة وكأنها تهرب من شىء ما، سارت خطوتين فوق الرصيف المقابل، توقفت، قاومت رغبة فى الاستدارة والنظر إلى الرصيف الآخر، واصلت سيرها بإيقاع أسرع من سيرها المعتاد، دخلت إلى شارع مزدحم، كانت تتنقل بين المارة بخفة فراشة بالرغم من الثقل الذى تحس به فى روحها وقلبها، عند نهاية الشارع توقفت، نظرت إلى الخلف، رأت شارعًا يغرق فى الضجيج وفى ضوء منتصف النهار، انحرف بها الطريق يمينًا إلى شارع مظلم، شارع لا يمر به أحد سواها، صعدت الدرج القديم لأحد البيوت، فتحت الباب ودون أن تلقى التحية على المتسمرين أمام التلفاز دخلت وأغلقت عليها حجرتها، لم يكن لها من دواء بعد الجرح الذى لازال ينزف سوى الموسيقى، هى تعرف ذلك، دائمًا ما تقول لنفسها وهى ممتزجة بمقطوعة تسمعها أنها لو استمرت لساعات على تلك الحال، تستمع إلى الموسيقى مغلقة العينين فربما يمكنها الطيران.
قامت من مكانها، فتحت الشباك رغم برودة الطقس، أدارت معزوفة تحبها وجلست جوار النافذة، أغلقت عينيها، مدت يدها ودون أن تفتح عينيها رفعت صوت الموسيقى، ستترك الموسيقى تجتاحها، تتسلل إلى مسامها، تتسرب بداخلها، تعصف بذرات الحزن التى تسكنها، شعرت أنها تخف، فردت ذراعيها، قالت لنفسها الآن أستطيع الطيران، فتحت عينيها، نظرت إلى جسدها، لم تجده، فبدلًا من أن تمنحها الموسيقى القدرة على الطيران تحولت هى نفسها إلى نغمات موسيقية، تحولت إلى سحابة من الموسيقى خرجت من الشباك وأمطرت فوق شوارع المدينة.
كنت أقف فى الشرفة حين نزلت قطرة من الموسيقى فوق كفى فتذكرت بنتًا رأيتها صباحًا تقف على الرصيف المقابل تمسح دمعة عن خدها قبل أن تدخل إلى شارع غارق فى الضجيج والزحام.
7
مطاردة
كنت أسير هادئًا في طريقي إلى البيت، لكنني لا أعرف ما الذي دفعني للنظر خلفي، لم يكن هناك أحد ولم يكن هناك ما يُخيف لكنني شعرت بخوف شديد، فأفلتُ ما كنت أحمله وبدأت في الجرى بأقصى ما أستطيع، كنت أجري بين طريقين سريعين تمرق فيهما السيارات بسرعة جنونية، لم تكن هناك أصوات على الإطلاق، لم يكن غير صمت ثقيل أسمع من خلاله صوت قدمىّ مضخمًا يختلط بصوت أنفاسي اللاهثة، كلما نظرت خلفي لم يكن ثمة شئ لكن خوفي كان يزداد أكثر، عند نهاية الطريق لم يكن أمامى غير صحراء لا حد لها، لم أعد للنظر خلفي، فقط استندت بكفىّ فوق ركبتىّ محاولًا استعادة أنفاسي وأغمضت عينىّ .
8
سحابة ملونة
كنت فى أحد الشوارع الجانبية التي دخلت إليها محاولًا اختصار الطريق إلى البيت، رأيت حشدًا من الناس يلتف حول أحد الأشخاص الذى لم يكن يظهر منه غير ذراع ممسكة بمجموعة خيوط تنتهي ببالونات ذات ألوان مختلفة.
صاح أحدهم فيه:
-أنت السبب فيما حدث للأولاد.
قال: وماذا فعلت، أنا لا ذنب لى، كل ما فعلته أننى بعت لهم البالونات.
على مقربة منهم رأيت أطفالًا يمسكون بالبالونات وينظرون إلى أعلى.
نظرتُ إلى حيث ينظرون، رأيت عددا آخر من الأطفال، أولاد وبنات معلقون فى الجو يمسك كل واحد منهم ببالونته، كانوا على مسافة مرتفعة، لا يستطيع أحد أن يصل إليهم، معلقين هكذا فى وضع ثابت.
لكن فجأة صاح أحدهم: أنظروا.
نظروا إلى حيث أشار، كانت البالونات ترتفع آخذة الأطفال معها ببطء حتى اختفوا فى سماء غابت عنها الشمس للحظات.
انتهز بائع البالونات فرصة انشغال الأباء بالنظر إلى الأطفال وصراخهم الذى بدأ يتعالى وفر هاربًا بعد أن أطلق من يده البالونات التى كانت معه، ثم أفلت الصبية الذين ظلوا ثابتين على الأرض بالوناتهم، فامتدت سحابة من الألوان أخذت فى الإرتفاع.
بعد قليل غابت الشمس وأمطرت السماء مطرًا خفيفًا ما لبث أن توقف.
9
إبحار
دفعت باب الحديقة المحيطة بالبيت وانطلقت مسرعًا، سمعت أمي تناديني طالبة مني العودة، كانت تمطر بشدة منذ ثلاثة أيام، جريت بلا حذاء فوق أحجار الشارع المغسولة بالمطر، جريت وحيدًا في شوارع خالية، بالرغم من برودة الجو كنت أرتدي قميصًا صيفيًا خفيفًا.
حين وصلت إلى الميناء كانت السفينة قد أبحرت، رأيت الشاب الذي سأكونه بعد سنوات يقف على الحافة يلوح لي ويبتسم بأسى، رفعتُ يدي إليه مودعًا، بكيت بشدة وأنا أري وجهه يغيب في ظلام البحر الكبير.
قررت العودة إلى البيت لكنني حين التفت ورائي كانت المدينة قد بدأت في الاختفاء، وكأن ممحاة كبيرة تمر فوق الأشياء فتمحوها، البيوت والشوارع والأشجار كل شيئ يختفي ليحل مكانه الفراغ، نظرت إلى الأرض التى أقف عليها، كانت قد اختفت وأنا أيضًا بدأت فى الاختفاء.