سعيد نصر
تبدو رواية “شجرة العابد” للكاتب عمار علي حسن أشبه بلغز محير، يشتمل على كثير مما تموج به الحياة الروحية والمادية، مذاب في خلطة عجيبة يتفاعل فيها ما يجري بما يحلق بعيدا، بما يجعل الواقع بنية تحتية للعالمين السفلى والفوقى، ويجعل من السحر والفيض الربانى بنية فوقية، أو يتبادل الاثنان الأدوار.
ولا يختلف اثنان على أن العنوان وهو “شجرة العابد” يبدو مناسبا لمضمون الرواية، ويحسب للكاتب اختياره على ذلك النحو، فالرواية تغوص فى أعماق عالم التصوف وتكشف أسراره ، وهو عالم يحتاج الإنسان لفهمه والوصول لمنتهاه إلى شجرة المعرفة أو شجرة الإيمان الخاصة به.
كما أن العنوان ينطوى على عنصر التشويق ، لكونه يدفع القارىء لأول وهلة إلى التساؤل عن معنى ومدلول الشجرة المباركة، ولأن الكاتب مدرك لفضول القارىء بشأن هذا اللغز، فلعب على وتره ، ولم يكشف كل أسراره مرة واحدة، وإنما على مراحل، إحداها على الأرض والأخرى فى فضاء الجن، والثالثة فى رحاب حفصة، ولم تنته تلك المراحل إلا بانتهاء الرواية، حتى يضمن عدم شعور القارىء بالملل. وينطبق الأمر نفسه على خاتمة الرواية لكونها جاءت متماشية مع الأحداث وذلك بتحول بطل الرواية “عاكف” من ناشط سياسى إلى صوفى وزاهد، فيما جاءت مقدمة الرواية خاطفة ، حيث تأوه عاكف حينما تذكر حبيبتة حفصة التى رحلت عن الحياة دون أن يتزوجها ، وبدأت المقدمة كما لو كانت سلما يرفع القارىء إلى أول مشاهد الرواية، والمتمثل فى بداية حكى الشجرة عن كيفية تشكلها وعن أسباب تقديس الناس لها .
تنهل الرواية من معين التراث الصوفى والأسطورى المصرى والعربى والإسلامى، وتحكى عن شجرة مصرية عمرها سبعة آلاف سنة ، قدسها الناس لأن ثمارها حلوة وتشفى الأمراض الصدرية وتبعث السعادة والطمأنينة فى قلوب الخواص والعوام، ولها كرامات كثيرة جعلت الإنس والجن يعتبرونها مركز الكون كله، فلقصة منبتها هالة كبيرة محورها الأساسى رمزية ثالوث الظلم والدم والألم، وعلى فروعها يعيش النمل والنحل والفراش فى سلام دائم بموجب اتفاق عدم اعتداء بإيعاز منها، وبأمرها يلبى الثلاثة دعوتها للجهاد المقدس ضد الجراد، فى إسقاطة رمزية من الكاتب على الغزاة الذين عاثوا فى مصر فسادا وظلما فى كل العصور، ولكنها تخلصت منهم جميعا فى النهاية، وبفضل كرامات تلك الشجرة لا تستطيع الثعابين إزعاج العصافير ولا يوجد مكان للنسور الجارحة على أطرافها وفروعها، وأشعتها النافذة تعمى أى طامع فيها من إنس أو جن أو حيوان.
ويحاول “عاكف” فك أسرار وطلاسم وألغاز هذه الشجرة من خلال رحلات يستعين فيها بالإنس والجن، ويعشق خلالها جنية اسمها “نمار”، تساعده على فعل أشياء غريبة فينتشر صيته على أنه صاحب كرامات، ويتعرض لتجربة رهيبة بعد أن طلب السلطان منه فك “شفرة كلمات” للوصول إلى الكنز الكامن فى الشجرة ، دون أن يفطن إلى أنه كنز “معرفة الله” وليس كنز الذهب والماس ، ويخطب عاكف إنسية اسمها سميرة فتمرضها نمار، ويحب إنسية اسمها حفصة، فلم تستطع نمار إمراضها بسبب صوفيتها وعلاقتها بالشجرة المباركة، وسرعان ما تترك نمار عاكف بدافع الغيرة من حفصة وبمبرر أنها فى ذلك مأمورة.
ويرسخ العابد من خلال رحلاته حقيقة مفادها أن مصر على مدار تاريخها هى بالفعل مهد الأديان ومنبت الصوفية الحقيقية، وتنتهى رحلته الطويلة والساحرة والمليئة بأحداث الواقع والخيال، بإنقاذ الله له من قبضة السلطان المملوكى الطامع فى الكنز الثمين، وبنجاحه فى معرفة سر الشجرة المباركة باتباع نورانيات حفصة ونصائحها له، وبذلك يخرج من داخله عاكف السياسى بلا رجعة ويتحول إلى العابد الولى، ويتذكر البُشرى التى بشرته بها الشجرة عندما قالت له وهى تحكى عن نفسها: “لكننى لم أفصح أبداً عن أسرارى إلا لرجل واحد، كان العابد الذى جاءنى يفيض عشقاً، فأخذته بين أحضانى المتشابكة الوسيعة، وألقيت فى قلبه طمأنينة مما ألقاها الله فى جوفى العميق”.
ويربط الكاتب الماضى بالحاضر فى هذه الرواية من خلال لغة شاعرية، وسرد يغلب عليه طابع الواقعية السحرية، ويساعد المتلقى على فهم كيف تشكلت “مصر القرن الواحد والعشرين” بكل مضامينها الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، من معين إنسانى وسياسى وحضارى ودينى أثرت فيه بقوة منظومة قيمية مملوكية ممزوجة بمنظومة ثقافية فرعونية ومنظومة دينية وتراثية فاطمية تشكل الصوفية لب نسقها الفكرى والعقائدى، ومن خلال هذا الفهم يمكن للمتلقى أن يرسم خريطة دقيقة لمعالم مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة فى مصر لأطول فترة ممكنة، بما فى ذلك مستقبل القيم الإنسانية التى دافعت عنها الرواية وجعلت السلبى منها ، كالسحر، شيئا إيجابيا، وذلك من منطلق أن لكل موروث فائدة لا يمكن لعاقل أن ينكرها، تتمثل فى دوره المهم فى تشكيل هوية المجتمع وطابعه الدينى والقومى.
ويضفى الكاتب على النص طابع التشويق والإثارة، من خلال مزج الخيال بالواقع، وخلط الفانتازى بالحقيقى، ويمكنه السرد والحكى الشيق القائم على الوصف والحوار للشخصيات والأحداث ولعجائب وخوارق الجنيات وكرامات ومعجزات الأولياء من السيطرة على قلب المتلقى وعقله طوال أحداث الرواية، بل يشعر المتلقى من خلال هذه الطريقة بأنه مشاركا ومتفاعلا مع “الراوى” فى البحث عن سر الشجرة المباركة والمقدسة لدى الإنس والجن، فى آن، والتى جعلته، رغما عن إرادته، مدفوعا فى ذلك بارتباطه العاطفى والدينى بـ”حفصة” ابنة الشيخ حسين التقى العابد، يهرب بشكل نهائى من عالم السياسة إلى عالم التصوف، ومن دور المقاوم لحاكم مملوكى مستبد وظالم، إلى مريد متسامح مع كل الناس.
وتشعرك اللغة الشاعرية فى وصف الواقع والخيال طول أحداث الرواية بأنك فى رحلة سياحية إبداعية بين الإنسان والخالق، و الإنس والجن ، وبين الأرض والفضاء لأماكن أبعد من القمر والمريخ، ومنها إلى قلب وروح الإنسان وقيمه الاجتماعية والسياسية والدينية. وأجمل ما فى هذه الرحلة المثيرة والطويلة والشاقة أنها لم تكن أبدا رحلة ترفيهية، وإنما كانت رحلة ضرورية روحية وتثقيفية بالعلم الإنسانى والفيض الربانى، حيث تطرق الكاتب خلالها لبعض أقطاب الصوفية ، ومنهم عبد الرحيم القنائى ومحيى الدين بن عربى وجلال الدين الرومى والحلاج والجنيد والشبلى ورابعة العدوية وأبو الحسن الشاذلى وأبو حامد الغزالى وأبو العباس المرسى والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقى ومعروف الكرخي وأخرين ، وقد ساهم ذلك فى تحقيق الهدف الجوهرى للرواية، والمتمثل فى رغبة “عاكف العابد” فى فك كل الطلاسم والألغاز التى تحول دون معرفة الإنسان لله سبحانه وتعالى معرفة حقيقية، ومعرفة الغاية الإلهية من قصة خلق الإنسان وحياته، من خلال العلم اللدنى.
وتوجد أوجه شبه عديدة بين حفصة والشجرة، لدرجة أنك تحتار بينهما وتشعر أنهما شيئ واحد أو أيقونة واحدة، فالشجرة المباركة لا يعرف سرها إلا من تحررت روحه من سجن الجسد، ولا يقبل حفصة ولا يدرك إخلاصها التام فى إيمانها بالله رغم اشتغالها عاهرة في أول حياتها، إلا من تشبعت نفسه بروح التسامح، وأدرك أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه للجميع، وكما قالت الشجرة لعاكف: “ولدت نقية من رحم الخطيئة، وكانت الخطيئة سببا ليس لى به صلة، وقرار من رجل عاصٍ ساقنى إلى الوجود”، وفي مقام آخر قال صفوان لعاكف عن حفصة:” عضها الجوع ، وكان المخلوق القاسى رجلاً من الشلاق، التقطها من أمام الأزهر ذات ليلة، ووجدها بنتا غريرة، طيعة، فساقها إلى الحرام”.
وكما كانت الشجرة المباركة طريق تحول عاكف إلى الصوفية وتركه السياسة، كانت الشجرة نفسها سر إنقاذ حفصة من العهر برداء الطهر، وكانت حفصة هى المبشر لعاكف بنيل الولاية بقولها له “ضيعت عمرك فى دربين غريبين عليك، وآن لك أن تسلك ما خلقت من أجله، فسألها ماهو؟ فقالت له:”لا تتعجل، ستدركه يوماً، وأنت راقد تحت الشجرة المباركة، وعمرك وراءك بالمئات”، كما أنها قالت لعاكف وقتما كان يقوم بتهريبها من قصر السلطان، الذى احتجزها عنده لحين كشف العابد عن سر الشجرة المباركة:”الشجرة ورائى، خلعتنى فى الزمان الأول من خص أبى” .
ومن وجهة نظري تختلف الرواية عن غيرها من الروايات الصوفية بأن الثالوث فى دنيا الواقع ، يوجد ما يشبهه تماما فى شخصيات ” شجرة العابد”، فالقارىء للرواية بقلبه وعقله معا، يشعر أن البطولة فيها جماعية وليست فردية، و لكنها بطولة جماعية من نوع خاص، فالأبطال الثلاثة وهي شجرة العابد وعاكف وحفصة يبدون كما لو كانوا ثلاثة أقانيم يمثلون روحا واحدة فى ثلاثة أجساد، ويوجد بالرواية دلائل وشواهد كثيرة تؤكد ذلك، منها حوارات ومشاهد وأحداث ، تدل كلها على وجود ارتباط كبير بين الثلاثة يصل إلى درجة الاتحاد، وهو ما يضفى على الرواية طابع التشويق والإثارة، ويمكن للقارىء أن يلمس بقلبه وعقله مضامين تلك العلاقة من خلال تأوه عاكف العابد على حفصة، فى بداية الرواية بقوله “آه يا حفصة آه يا وجعى الجميل” ، ومن خلال قوله عنها فى نهايتها ” لم يبق فى ذاكرتى سوى وجه حفصة”.
وتؤدى اللغة الحوارية فى “شجرة العابد” الغرض المطلوب منها، فى إضفاء المزيد من صبغة الطابع الشاعرى والأدبى على الرواية، وتعكس قدرة الكاتب على استخدام عبارات مركزة ومكثفة ودالة، وذلك عندما يريد أن يشرح أو يقارن بين عالمين مختلفين، بلغة سريعة وخاطفة حرصا منه على عدم إشعار القارىء بالملل، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل أكثرها روعة وجمالا هو هذا الحوار الذى دار بين عاكف وبين الجنية نمار، أثناء رحلة سياحية له معها فى الفضاء لاستكشاف عالم الجن ومدنهم الساحرة ونسائهم الفاتنات وقناديلهم البديعة التى تضاء بنور الشمس ، حيث جاء الحوار على النحو التالى: “وقلت لها:
ـ ليس فى القلب غيرك.
فضحكت وقالت:
ـ لست أجمل جنية.
ـ أنت فى عينى أجمل الجميلات.
ـ سيطول بك المقام لدينا، وغانيات الجن كثيرات.
ابتسمت وقلت:
ـ لم تفلح فى إغوائى غانيات الأرض.
ربتت على كتفى وقالت:
ـ غانياتكم غير غانياتنا، وأنت غيرنا، فهناك تقاوم، وهنا يتبخر منك العزم”.
وربما يظهر من بين سطور الرواية أن الكاتب يريد غرس مفاهيم بعينها فى ذهن القارىء بخصوص التصوف، منها أن النورانية وصفة العبد الربانى لا تعطى لأى أحد، وإنما لمن يخصهم الله بذلك من عباده ، حيث قالت نمار لعاكف ، فى حديثها عن الشجرة المباركة:” لا تتجسد إلا أمام الموعودين”،
ومنها أيضا أن الطريق ليس فيه اختيار، فلا الشجرة المباركة نفسها اختارت أن تكون مباركة، ولا عاكف العابد كان يريد أن يكون صوفيا فى بداية حياته، ولكن هروبه من بطش السلطان الجائر، وملاقاته للشيخ حسين هما اللذان حطا بقدميه على أول عتبة لسلم الوصول إلى هذا العالم الروحانى، ومنها كذلك وجود علاقة وطيدة بين التصوف بمفهوم الوصول لدرجة الولى وبين وحدة الوجود، بدليل أن أكبر رمزية للتصوف فى الرواية ، وهى الشجرة المباركة موجودة فى عالم الإنس و عالم الجن، على اعتبار أن الإنس والجن مخاطبان بالرسائل السماوية، خاصة الرسالة الإسلامية، فالشجرة المباركة التى جذبت عاكف إلى عالم الروحانيات وأعطته من أنوار الفيض الإلهى، لها أصل فى مدينة الجن، على ذات الشكل والضخامة، والأكثر من هذا وذاك أن امرأة جنية سخطها ملك الجن إلى ضفضعة وتوسط لها الحكماء فسخطها يمامة وديعة، هى التى رمت ببذرة شجرة الأرض، حيث قالت نمار لعاكف: “إحدى الجنيات الجميلات حملت بذرتها، ونقلتها إلى المكان الذى نبتت فيه، واستوت على ساقها. فصارت دوحة كاملة”.
وتنطوي الرواية أيضا على انتقاد ظواهر دينية موجودة فى مصر وغيرها من الدول الإسلامية، وما جعل لانتقاداته تأثيرا بالغا فى ذهن المتلقى أنها جاءت خاطفة كطلقات الرصاص ، وجاءت على لسان الجنية نمار فزادها ذلك إثارة فى اللفظ وعمقا فى المعنى، منها آفة التنطع والتنفع بالدين، والخطاب الدينى الداعى إلى التعصب والتطرف والمسرف فى التفاهات، حيث قال عاكف خلال حوار له مع نمار “أومأت برأسى مؤمنا على كلامها، ثم تفرست مليا فى ملامحها وهى تقول فى جدية وخشوع:
ـ كتب الله عظيمة خالدة، والمشكلة فى المتنطعين والمنتفعين من بنى جنسك، الذين لا يفهمون كلام الله، أو يحرفونه، أو يتقولون عليه ما لم يقله”.
ويتضح من خلال أحاديث عاكف وحواراته مع نمار أن الموروث الشعبى بشأن عالم الجن والعفاريت وكذلك عالم التصوف له تأثير كبير على الكاتب، والأمثلة كثيرة على ذلك، منها، زواجه من جنية، ورؤيته لأقدامها ذات مرة تشبه أقدام الماعز، وحديثه عن الرؤى والأحلام كمؤشرات ودلائل على اقتراب الشخص من القدرة على الكشف والصول لعالم الحقيقة، بالإضافة إلى عادة الناس المتمثلة فى التشكيك فى الأولياء بأنهم ممسوسين من الجن، وهى تهمة لم يسلم منها الأنبياء، بما فيهم أصحاب المعجزات الخارقة.
وساهم في تعميق هذه الرواية فى المعنى والمغزى، أن كاتبها دارس التصوف بأسلوب ومنهج الباحث الأكاديمى وقارىء جيد فى التصوف بأسلوب الباحث والأديب والمفكر والباحث في الاجتماع السياسي، وانعكس ذلك بالإيجاب على البوصلة الفكرية التى تتحكم فى أحداث وحوارات الرواية، والدليل على ذلك أنه لا يوجد أفكار متناقضة في هذا السرد، فالأفكار كلها مستقيمة وتصب فى إتجاه واحد، أى فى الاتجاه الذى يريده الكاتب، فالكاتب يخفى على قارئه أن الشجرة المباركة داخل كل إنسان، إذا ما سعى بقلب سليم إلى غايته فى الوصول إلى مرتبة العابد المتصوف، و يؤمن بأن الصوفية حقيقة وليست خرافة، وأن العبد يمكن من خلالها أن يصل إلى مرتبة الولاية، حتى لو تعثرت قدميه فى الذنوب والخطايا، مثلما حدث مع عاكف بزواجه من جنية، ومع حفصة باضطرارها للتفريط فى شرفها.
ويرى الكاتب أن الجن والسحر مسائل موجودة فى حياتنا، وليست مجرد أكاذيب، وكلها أفكار استقامت من البداية إلى النهاية بشأن أهم شخصيتين فى الرواية، وهما عاكف العابد الذى عاش ظروفا صعبة بسبب مطالب السلطان المملوكى بفك الشفرة لإخراج الكنز الثمين، وحفصة ابنة الشيخ حسين الزاهد الذى لم يصل إلى مرتبة الولاية، والذى بشر عاكف بها، قبل وفاته.
وتثير الرواية فى ذهن المتلقى، سؤالا مهما، يعكس إلى أى حد وصلت درجة الإثارة فى النص، والسؤال هو ماذا يعنى الكاتب بالشجرة المباركة؟ وهل هى شىء مادى يمكن لمسه بالأيدى؟ أم شىء معنوى يدرك بالقلوب فقط؟
وتأخذك حفصة، وهى من وجهة نظرى محور ارتكاز الرواية، إلى الإجابة الأقرب للصحة، وهى أنها شجرة الكلمة الطيبة التى وردت فى القرآن الكريم، وهى شجرة نور الله التى بفيضها يصبح الإنسان وليا وعبدا ربانيا، ويوجد فى الرواية على لسان حفصة ما يدل على ذلك ، حيث سألها عاكف: أتقصدين الشجرة؟، فقالت له: يرونها كنزا ثميناً لن يتركوك حتى تدلهم عليه، فقال لها : تتحدثين وكأنك تصدقينهم، فقالت : أنا أتكلم عما يرونه، أما ما أراه أنا فلن تراه أنت الآن، فسألها : ألك عشر عيون؟ فقالت : ” البصيرة أعلى من البصر”.
وما يجعل من حفصة محور الاتكاز الفلسفى للرواية ، بحسب قراءتى لها ، أن الأقوال والتعبيرات التى قالتها لعاكف تنطوى على مكنون لغة فلسفة التصوف الحقيقى، حيث قالت له ذات مرة:” أنت جاهل على علمك، ناقص على سعيك إلى الاكتمال، ضائع رغم أنك تعتقد أن السلطنة كلها معلقة فى ذيل جلبابك”، وقالت له أيضا: “وقتها فقط ستتذكر ما أقوله لك اليوم، لديك ما هو أفضل مما لدى، لكن بينك وبينه غشاوة، فارفع الستائر السوداء، واستقبل النور”، وقالت له فى موضع آخر: ” لا تسأل عما لم تحط به خبراً”، وكأنها هى سيدنا الخضر، الذى تمثل قصته أحد أهم روافد المعتقد الصوفى، وقالت لعاكف فى موضع ثالث : “لا تأس على ما فاتك، وأقبل على نصيبك بنفس راضية، ولا تجزع فلن يغلبك أحد”، كما قالت لعاكف : ” جاهد نفسك، وخلِّ الدنيا وراء ظهرك”، وذلك عندما سألها عن كيفية الوصول إلى الله” ، وأوصت عاكف بعدم التعجل ، حيث قالت له : “لا تتعجل يا عاكف، درب السالكين طويل، وكل يأت بأوان”.
وتشتمل الرواية على مضمون سياسى ، وإن كانت يغلب عليها طابع المضمون الصوفى ، حيث تكشف الرواية جانبا من معاناة المصريين من ظلم السلطان المملوكى وذلك فى السنوات الأخيرة من حكم المماليك البحرية لمصر فى القرن السادس عشر الميلادى، ورغبة المصريين فى الخلاص من القهر الذى طال معظم شرائح الشعب،وتوضح الرواية دور الأزهر الشريف وعلمائه فى رفع الظلم عن الشعب المصرى على مدار تاريخه الحافل برفض الظلم والثورة عليه، ويظهر ذلك فى شخصيات بالرواية مثل محمد القشيرى وعبدالرحيم القناوى وآخرين، وتسقط الرواية الماضى على الحاضر بذكاء شديد، حيث يتم الإسقاط بالتلميح لا بالتصريح، ويعيد هذا الإسقاط إلى الأذهان حكاية الشعب المصري مع ثورة 25 يناير.