سيرة توفيق

سيرة توفيق الشهير بتوتو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

أثارت الحارة المصرية بواقعها الاجتماعى– المنهار فى أغلب الأحيان- الشفقة الممتزجة بالحزن خاصة بعد تحولها من المظهر الجمالى إلى القبح عبر العصور والحيوات التى تُعاش فيها،  وغنِى عن البيان أن رائد الرواية العربية نجيب محفوظ هو أول من كتب ذلك باقتدار عبر حارات مصر القديمة فى الثلاثية ثم خان الخليلى فزقاق المدق ثم بداية ونهاية والكثير من التفاصل التى ضمتها رواياته على اختلاف سنوات إصدارها وكذلك موضوعاتها.
وإن كانت الحارة موضوعا بارزا فى قصص إبراهيم أصلان وخيرى شلبى وروايات يحيى حقى القصيرة وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر فإن الحارة لا تزال بتفاصيلها وشخصياتها تعبيرا عن الواقع الاجتماعى المهترئ الذى يعاش باستفحال فى المجتمعات العشوائية، وهو الدرب نفسه التى تسير فيه الكاتبة نهى محمود فى روايتها “سيرة توفيق” التى صدرت مؤخرا عن دار بتانة.
قد يجد القارئ فى عنوان النص دلالة على أنها رواية عن شخص بعينه لكنها فى الحقيقة رواية واقع اجتماعى منحدر فى الحارة “هنا كل شىء محتمل وقابل للحدوث” على مستوى الحكى الشامل فإن القارئ أمام حكايتين (حكاية عائلة توفيق وأخوه الأكبر حمدى المنشق عن العائلة والحارة فركب سفية نوح فارا من الأسرة والحارة والمعادل النسائى له سمية ابنة عائلة سعيد التى تحسن من نفسها سعيا وراء جوازة تنقذها من الأب السليط والأم الخانعة أم سعيد التى تعتبر رحيل زوجها فاروق وترملها هى نهاية مكافأة الخدمة بعد خمس وثلاثين عاما من عشرة زوج قبيح سليط اللسان يهتم بكلبه وسيارته الربع نقل ويكيل للأسرة السباب بصوته الأجش من الشارع) لذلك يصف الراوى أن “للأرامل وضع خاص فى الحياة تشعر أن لهن زفرة ارتياح وتنهيدة طويلة بعد سنوات من احتباس الأنفاس” .
استعارت الكاتبة نهى محمود نماذج شخصياتها من الواقع، فأخذت بعض الملامح من الناس الذين تعرفهم أو قد رأتهم بعين المبدع المتفحصة،  ثم مزجتها بملامح أخرى من خيالها المتسع. وذلك عبر وصف نماذج من الحياة الواقعية تجعل الشخصية أكثر إقناعا ففى الحارة الحاج الحسن (صاحب السلوك البعيد كل البعد عن صفات الحاج) الذى يخرب أساس بيته بانيا على أنقاضه البشرية والأسمنتية عمارة من عشرة أدوار أجادت نهى محمود فى أن تجعل لكل دور منها مشكلة اجتماعية عبر قاطنى العمارة وكأن هذه العمارة المعادل الملموس للواقع المعيش للبشر فى مصر بكل مشكلاتهم وأعبائهم، فالحاج الحسن يخرج عائلة كبيرة من البيت – لا ينس الراوى أن يصفهم بالتفاصيل التى يفعلها مع كل الشخصيات، الأخ الأول صاحب كوم أولاد والثانى صانع الكشرى الخانع لزوجته العقيم التى تخونه وتبيع نصيبه للحاج الحسن وبالتالى يصبح للحاج مسمار جحا الذى يمكنه من هدم البيت على رأس سكانه وبناء عمارة بجانبها زاوية (كنوع من غسيل الأموال والأفعال) ثم يتداول السرد تفاصيل حكاية الحاج الحسن من منطلق أن طامعا بنى بيتا فسكن المفلس فيه فينتقم الله من الحسن بعد حيلة تزويج أخته العانس من شاب “بلع الطعم” لكنه احتال هو الآخر كى يكون عقد الشقة باسمه لأنه صعيدى لا يقبل الحياة فى شقة باسم زوجته ثم قبل الزفاف بأيام يطلق أخت الحسن ويحتفظ بعقد الإيجار القانونى ويتزوج وينجب البنين والبنات وتبقى أخت الحاج الحسن جالسة بجواره تكبر وتشيخ. 
فى عمارة الحاج نماذج من البشر التى نصطدم بها يوميا فى كل مكان فى بلد كبير مثل مصر وكلها نماذج من الضحايا، ضحايا قلة التعليم والخنوع لواقع مزرى يزداد انحدارا يوما بعد يوم سنجد فى العمارة سلوى الجاهلة التى يؤرقها حلم الثراء ويعذب الحلم نفسه زوجها العامل بشركة لتصنيع الثلاجات وبالتالى تحتال سلوى على القاصى والدانى فى العمارة والشارع من أجل تأسيس شقتها الشرك الصغيرة وشراء أجهزة كهربائية متباينة.
 وفى العمارة كذلك أبو نعمان عامل الموبيليا الاستورجى ومعه زوجته نفيسة التى تشتكى من دوار وألم بالرأس وبالتالى تهمل أولادها ومنزلها الذى سيتكفل أبو نعمان بسد كل تلك الثغرات حتى يقضى بعد ذلك عشر سنوات من عمره حبيس الفراش المتسخ لزوجته نفيسة بعدما يصاب بجلطة تسبب شلل جسده وتقعده عن العمل فيعيش على الصدقات والإحسان حتى آخر يوم فى حياته.
 ومن أسرار نجاح الراوى فى بداية النص أنه يكتب عن موضوع يُحسنه، وأن يختار أشخاصا لهم أساس وجذور فى الواقع دون أن ينقل سماتهم كما هى بل يجرى عليها بعض التعديلات من حيث موقع الشخصية فى السلم الاجتماعى والوظيفى والطبقى وإن كانت كل الطبقات الموصوفة عبر الشخصيات فى النص طبقات تعيسة متقاربة يجمعها السكن فى عمارة الحاج أبو الحسن،  ففى العمارة يسكن فى الدور الأرضى عم شربين وزوجته سحر وهما زوجان مسنان يتشاجر الرجل مع زوجه منذ أكثر من أربعين عاما ويعلو صوته بالصراخ كل يوم، وشربين وغيره من موظفى المعاش الذى يجيد الراوى وصف أحوالهم والفراغ الذى يعانون منه ومن ثم يجعلهم يجلسون فى مدخل البيت متربصين بالمارة ومنتهكين خصوصية كل قاطن فى الحارة وبالتالى ومن مبدأ أن دود المش يلتهم بعضه فتدب الخلافات بينهما وبين فاروق الذى يمنعهم من الجلوس فى السطح الذى يخصصه لكلبه. وتوسعا لنشاط عم شربين وأصدقاء المعاش يستأجرون محلا من الحاج أبو الحسن ويقيمون له – بالاستدانة- افتتاح ويرسم كل منهم على حائط المحل رسمة تعبر عن شخصه ولا يألو شربين جهدا فى رسم شاربين دالين على قوته بأنه شربين أى صاحب شاربين. 
وقد استفاض الراوى فى وصف البيئة الطبيعية والاجتماعية لقاطنى العمارة والحارة تلك البيئة التى تؤثر فى طباع الفرد وسلوكه وأخلاقه ففى العمارة يوجد محسن الشاب الضائع الذى تحول من طالب متفوق قبل رحيل والديه إلى بائع للمخدرات ينتهى مصيره إلى الموت كجيفة ملقاة فى صندوق للقمامة بعد أن مات إثر تعاطى جرعة زائدة من مسحوق المخدر.
 وفى العمارة واقع الإهمال المحتوم الذى يودى بحياة حامد الولد الذى يسقط من على السطح فى رمضان قبل دقائق من الإفطار. وفى العمارة أيضا شقة حكيمة السيدة المخبولة التى تظن ان لها رفيقا من الجن يُدعى “كمون” تنادى عليه ليل ونهار بصوت مرتفع وتلق نهايتها المحتومة والملغزة فى آن، حيث توجد مشنوقة أعلى سقف غرفتها وتتداول الألسن العجب من صعود السيدة صاحبة المفاصل العظمية الخربة من الصعود إلى السقف ومن ثم شنق نفسها، بينما يردد آخرون أن رفيقها كمون غضب عليها فكان جزاءها منه الشنق.
اهتم الراوى بوصف البعد الجسدى للشخصيات وهو شكل الإنسان وطوله أو قصره مثل عائلة فاروق خاصة ابنه سعيد الذى ورث عن أبيه الخمول واللسان السليط،  أو وصف حسنه ووسامته (مثل ابنته سمية ورائحتها الطيبة ونعومة بشرتها وعذوبة صوتها ومحاولتها المستميتة للخروج من واقعها الأسرى وانفصامها عنه )،  كان ذلك طريقة لوصف معظم سكان العمارة وإن احتفظ الراوى بالوصف الأكثر تفصيلا للقبح عبر المتواجدين فى الحارة والضحايا من سكانها أو دمامتهم من حيث البدانة والقذارة والرائحة الكريهة ونوع ثيابهم ومنهم “سيدة” الشحاذة السمينة التى وصفت بلغة شديدة التعبير عنها، والتى تجعل قارئها يستهجنها بقدر ما يتعاطف معها تلك السيدة التى تلتهم السمين والقرص المخدر وتتغوط فى أى مكان إن لم تستطع دخول زاوية الحاج الحسن وفى وصفها تعبير دقيق عن المشردين، وهناك نموذجان آخران لكنهما أعلى درجة تجسدهما أم طارق وهى امرأة فى الخمسينيات، ترتدى السواد، وتربى يتامى بعدما توفى زوجها ميمون ولعة فتفتح حجرة بيتها التى تطلُّ على الشارع محلا لبيع الحلوى، والمثلَّجات، وأكياس الحظ الورقية التى يشتريها الأطفال ربما يجدون داخلها قطعة حلوى، ثم أم عاشور بائعة الخضار التى تجلس دائما خلف فرشتها وهى فى الاساس مفرخة أطفال ولديها منهم أربعة عشر تُظهر جماليات الصورة تسريحهن فى الشارع بملابسهن الرثة على الرغم مما تناله من عطايا من الجيران لكن الأطفال يظلون كما هم بهيئتهم التى تدعو إلى الإشفاق واستنهاض الصدقات عبر أعينهم التى يطل منها الحرمان بما يؤكد على عقلية هذه السيدة التى لابد أن تحافظ على مركزها ومظهرها المزرى هى واولادها لتبقى على مكانتها من الإشفاق فى قلوب الجميع ولم ينس الراوى ذكر التفاصيل الجسدية والفعلية لزوجها أبى عاشور بصورة معكوسة لها فهو نحيف صاحب الهيكل العظمى الشاحب وله إمبراطورية من الأطفال بينما لا يمتلك من الدنيا سوى عربة خربة يبيع فيها الترمس والحمص وأكواز الذرة المشوية، تلك النماذج التى تمثل واقع وغالبية قاع المجتمع الملموس،  بينما سكان العمارة يجسدون واقعا آخر لكنه متردىٌ أيضا يهتم بالبعد النفسى والجانب الاجتماعى الخرب الذى يشمل غالبية المجتمع العظمى. 
إذا كان كل شىء فى الحارة محتمل وقابل للحدوث وكل تلك الشخصيات الموصوفة فى الحارة معبرة عن الواقع الاجتماعى المعيش فإن شخصية توفيق مصورة بتفاصيلها الدقيقة المثيرة للشفقة المحتلة للقسم الكبير الأخير من النص توفيق خايب الرجاء “توتو،  الابن المعجزة، حبيب أمِّه ابن الطبقة الوسطى لأبوين عاملين حيث كانت أم توتو ممرِّضة ووالده موظف المحترم فى هيئة البريد لكن توفيق المريض النفسى صاحب التهيؤات الشره فى التهام الطعام كان بطيئًا، ويلعب وهو صغير بلا ذَرَّةِ تركيز ولا ينجو من سخرية من حوله وقد أفاضت لغة الراوى الساخرة المأخوذة معظمها بالتناص مع لغة جورج أمادو وأبراهيم أصلان فى وصف الشخصية فتضحك أشفاقا على إجادة الكاتبة نهى محمود عبر اللغة فى الكتابة عن تلك الشخصية بتفاصيلها النفسية وافعالها غير المنطقية والأذى الذى تسببه هذه الشخصية المريضة الحمقاء لمن حولها فينتهى النص بحل اللغز الذى طرحه الراوى فىالمهاد حيث توتو خارجا من المصحة النفسية وتسببه فى رحيل والديه ليحدثتنا توتو نفسه عبر حواره من صديقه الوحيد “الفأر” الذى بقى له فيسرد له عبر تيار الوعى كيف كان ابنا بارا فجمع الطماطم التى كانت أمه تضعها للفأر فى الأرض وترعاه كى يعيش جمع توتو الطماطم وصنع طبق جبن بالطماطم ليكون أخر وجبة تناولها الوالدين وماتا بفعل التسمم. لتبقى لغة الراوى المتحسرة على الحارة التى كانت جميلة لكنها تبدلت وانحدرت لتحمل من البشر المختلفين فى مضمون الحياة لكنهم جميعا دلالة على التردى الاجتماعى والفصام الذى لا يعيشه توتو فحسب بل يعيشه الجميع فى مجتمع ضائع اقل ما يوصف به إنه عشوائى. 

مقالات من نفس القسم