إيمان السباعي
ما الذي قد يجمع بين الكتاب القصصي “إعلان عن قلب وحيد” للكاتب الشاب الراحل محمد حسن خليفة والفيلم الإيطالي الانتظار L’attesa لمخرجه بييرو ميسّينا؟
في الانتظار..جولييت بينوش أم فقدت ابنها الشاب في حادثة وتحاول استعادته عن طريق إخضاع حبيبته للعبة نفسية غريبة وإيهامها بأنه غائب وسيعود في عيد الفصح..تستضيفها الأم في بيتها في صقلية وتنتظر الفتاة جين التي لعبت دورها الممثلة الفرنسية الشابة لو دي لاج حتى تكتشف الخدعة في نهاية الفيلم.
كتبت مارجريت أتوود “كل الكتابات الروائية وليس بعضها فقط بل ربما كل أنماط الكتابة يحركها ويدفعها من الأعماق خوف من الفناء والافتتان به”. رغم أن أتوود ترى أن الكتابة رد فعل ضد الموت فهي تتتبع في كتابها مفاوضات مع الموتى سيرة الكتابة عن الموت عند معظم الكتاب. في إعلان عن قلب وحيد سنلتقي بالموت أيضًا تقريبا في كل قصص المجموعة، وفي كلا العملين(الفيلم، والكتاب) لن يكون الموت الذي يسير بجانب الحياة بل الذي يخنقها كليةً. الموت الذي نستسلم له ولا نفهمه الموت بخطواته الثقيلة القادرة على دهسنا، والمشتهى أيضًا.
يبدأ الفيلم بمشهد الجنازة داخل كنيسة: منحوتة لجسد المسيح ووجوه لعجائز تتتابع ومن زاوية تصوير مرتفعة سيبدو الجميع والتابوت الذي يحوي جسد الابن خاضعين لهذا القَدَر وبلا حيلة. يكاد الفيلم أن يكون لوحة عن الموت فالإبهار البصري هو أكثر ما يميز الفيلم وكأنه لوحة من لوحات عصر النهضة: الكنيسة.. القصر الذي تعيش فيه الأم بأثاثه وبمراياه المغطاة بستائر سوداء بعد موت جوسيبي الابن، ثم هذا الظلام الذي يلف كل شيء ، سيشعرالمشاهد أنه في غرفة مظلمة خانقة رغم اتساع القصر ومساحاته الخالية.
سيارة تحمل الحبيبة إلى قصر حبيبها الميت تتحرك في طريق ضيق على جانبيه جبلين يعيد إلينا صورة التابوت، يبدو أنه لا حياة في هذا المكان المنعزل..الوحشة التي تشبه وحشة الأم الثكلى وحياتها الفارغة.
في قصته بيسوا وأنا يجد البطل نفسه(داخل حلم) أمام دير جيرونيموس البناء التراثي القوطي بما يذكرنا بمشهد الكنيسة، يدخل البطل الدير ويبدو مأخوذا بالنقوش والزخارف قبل أن يتبادل مع فتاة حوارا، تخبره أنه في لشبونة وأنه الآن أمام قبر الشاعر بيسوا..شاعره المفضل. يقع البطل في غرام الفتاة التي دلته على القبر لكنه يبدو مأخوذا أكثر بقبر بيسوا ” يبدو أنك مشدوه تماما للحد الذي جعلك مسمرا عينيك على قبر بيسوا ولم ترفع عينيك نحوي” تقول الفتاة فينظر إليها ويلاحظ جمالها بالفعل..لكن هل تستطيع الحياة أن تجذبه بعيدا عن الموت؟
في بيت عجوز حكاية خرافية بسيطة عن بيت قديم له حديقة سُمّي الشارع باسمها، لا يترك صاحبه يغادره إلا عند الموت، سكان البيت أشخاص قد اختاروا عزلتهم أو ربما قد فرضت عليهم، كم يشبه البناء صاحبه! فيشيخ معه أو يعود جديدا بلا شروخ في جدرانه .
عندما تفتح الأم (بينوش) نافذة يتسرب ضوء خفيف.. الحبيبة هي وعد الحياة أو ذكراها ..تزيل الستائر السوداء عن المرايا من جديد انتظارا لقيامة ابنها في عيد الفصح، صمت المكان يصبح كثيفًا ومحملًا بموسيقى مترقبة.. الموسيقى التي عادت إلى القصر مع وجود الحبيبة.
يقفز الموت من قصة لأخرى، مرةً له وجه أسطورة كما في موت نجمت وهي الملكة الفرعونية زوجة الملك حور محب التي فقدت ابنها وماتت أثناء الولادة حيث عثر على مومياء الملكة في مقبرة جنبا إلى جنب مع مومياء طفل حديث الولادة، يستخدمها محمد حسن خليفة كنبوءة لموته الذي يرثه عن أبيه، ومرة له وجه الواقع في كوبري سيدة التي ماتت ابنتها تحت قطار أعمى وتناضل من أجل أن تبني الحكومة كوبري لتجنب حوادث أخرى لكن لا أحد يجيب شكواها فتقرر الموت بنفس الطريقة التي ماتت بها ابنتها لتلتقيها.
رجل اسمه السعد أحمد عبد العظيم يستعيد زوجته التي فارقته بالموت عن طريق سماع أغنيات الست، وكاتب تحت تأثير هلوسة الحشيش يختلق قصة عن موته لتصبح خبرا في جريدة بطريقة مجهولة في قصة روحي مقبرة.
نعود إلى الأم والحبيبة في انتظارهما اللانهائي، تتلصص الأم على الفتاة الشابة في غرفتها..تحديدا على جسدها العار بأوشامه..الجسد الذي يفيض بالحياة والذي مارس الحب مع الابن المفقود، ربما تعتبر الأم تلك الفتاة هي القرين الحي لابنها الميت ومادامت تعتبره حيًّا فسيمنحه ذلك حياةً أخرى ، تستمع الأم إلى الرسائل الصوتية التي ترسلها الحبيبة إلى الابن الميت وتعرف أن شجارًا شبَّ بينهما أدى إلى انفصال قبل أن يعاود الاتصال بها ويدعوها إلى زيارته في إيطاليا ، تستخدم الأم تلك المعلومات في خداع الفتاة وتخبرها أن جيوسبي لا يرغب في رؤيتها لذا هو غير موجود..تستمتع الأم برؤية الفتاة تعاني فهي الآن تشاركها الدموع الحارة والغضب تشتركان في ألم الفقد وإن اختلفت أسبابه.
ربما لا تصدق الفتاة كل هذا، نشعر طوال الفيلم أنها تعرف الكذبة وأن تواطؤا ما مع الأم قد حدث لتستمر هذه اللعبة المجنونة، صداقة تنمو ببطء بين المرأتين ، الفتاة هي صورة الأم في شبابها..الفرنسية التي أحبت إيطاليا وانتقلت للحياة معه ثم فقدته بالطلاق لتعيش وحيدة مع الابن..تستعيد الأم ذكريات لقائها الأول مع حماتها في صقلية في نفس البيت الذي تقيم فيه حوارا مع فتاة كان من المفترض أن تكون زوجة مستقبلية لابنها لولا موته!
في مشهد يجمع بين الاثنتين أمام البحيرة تطلب الفتاة من الأم أن تشاركها السباحة فتعتذر لأنها لا تستطيع أن تشاهد جسدها عاريا فقط تشاهد أجزاء منه في الظلام، يبهرنا مرة أخرى جسد الفتاة في الماء يبعث قشعريرة في أجسادناالتي تنحاز للحياة وتخاف الموت قرين الحياة وظلها الأبديّ..
استعار محمد حسن خليفة عنوانه بيسوا وأنا من قصة خورخي لويس بورخيس بورخيس وأنا التي يقسم فيها بورخيس نفسه إلى اثنين “سأبقى داخل بورخيس وليس داخل نفسي إذا كنت حقيقة شخص ما فقد لا تكون العلاقة بيننا عدائية تماما ولكنها مع ذلك ليست ودودة فمنذ سنوات مضت حاولت أن أتحرر منه”. يستخدم محمد حسن خليفة الحيلة التي استخدمها كثير من الكتاب عندما أدركو جيدا ذاتهم الأخرى أو “قرينهم” قد يكون هذا القرين كتّاب موتى شاركوه مغامرة الكتابة. يوجد القرين في المعتقد الإسلامي كما في التراث الشعبي كشيطان مهمته الغواية وقد يتسبب في الأذى والموت، يسكن القرين جسد القط الأسود أحيانا في حكايات المصريين التي لها أصلها في الديانة المصرية القديمة فالقرين أو النظيرهو ال كا ونصفها الآخر ال با. يعتقد أن الظل قد يكون روحا ثانية وهو هنا يريد أن يتحرر من الروح الثقيلة الغارقة في القراءة الخائفة من الوحدة، القرين الحقيقي هنا هو نيتشه الذي يُذكر على لسان الظل في حوارية مسرحية تستدعي مثيلتها التي كتبها نيتشه بين الظلال والمسافر.
- هل يحدث أن ينتقل ظل رجل ما لآخر
- – نعم بعد الممات وأحيانا في أثناء الحياة
- إذن لا يموت الظل.
يتحرر الظل أخيرا بعد أن يقتل روحا..سيقتل قطة ويطير خفيفا ومحملا بالشر لينطق بتلك الحقيقة ” طوال الوقت تعتبر بحسابات خيالية أنني الظل، لا.. أنت ظلي”. إذن فالشخص هو الظل بينما هذا الذي لا نعرفه..ظلنا.. الكاتب في داخلنا الذي لم نلتقيه قط هو من لا يموت وربما يجب أن يظل مجهولا بالنسبة إلينا لأن ظهوره نذير موتنا. استخدم الكاتب تيمة القرين أيضا كهاجس للجنون الذي تخشاه الذات المنقسمة على نفسها والتي تعاني وحشتها واغترابها في العالم في أكثر من قصة مثل بقايا ضوء، ففي حجرة قديمة أو زنزانة صغيرة جدرانها نالت منها الشقوق المسكونة بالحشرات وربما بالثعابين والمليئة بالكتب نلتقي بشخص لا صديق له يقرأ كتابا عن الأسماك الغريبة ويختلق أو يخترع شخصا آخر يشبهه يسكن في غرفة مقابله لغرفته ويتحدث معه ويشاركه شغفه بالقراءة ويحب الموسيقى ويعزف العود كأبيه لنتفاجأ في نهاية القصة أنه من استأجر الغرفة الأخرى وأنه هو نفسه الآخر “سعد عمران” الذي يمكننا اعتباره ألبارو دي كامبوس محمد حسن خليفة.
بيسوا الذي افتتح محمد حسن خليفة كتابه القصصي بكلمات من كتابه اللا طمأنينة هو الشاعر الذي اشتهر بذواته الكثيرة فقد اخترع ما قد يصل إلى 80 شخصية أشهرها ألبرتو كاييرو المولود في لشبونة والذي مات في السابعة والعشرين، وألبارو دي كامبوس الذي جمعت قصائده في ديوان وأشهرها قصيدة تحية إلى والت ويتمان الشاعر الكوني الذي تحمل قصائده تحية إلى الأرض والناس “سأبني مدنا متعانقة بالأذرع بحب الرفاق”، كان ويتمان المحرك الحقيقي وراء اختراع بيسوا لكامبوس فقد أثر كثيرا في شعرية بيسوا “وجعله يتخلى عن غنائيته الفرنسية القديمة”، يظهر ويتمان في قصة محاورًا المتصوف الكبيرالحلاج في سجنه ببغداد وسجينا معه، فكلاهما اضطهدا واتهما بالفجور، يمنحه الحلاج اسمه”عشاب” في إشاره إلى ديوانه أوراق العشب لأن ويتمان لا يذكر اسمه، هو تائه ويشعر بغرابة المكان والظلم الواقع على الناس هنا. في مقدمة ترجمته لأوراق العشب ينفي الشاعر سعدي يوسف الاعتقاد بصوفية ويتمان”إن إلصاق التصوف بويتمان يحمل مجانفة عامدة لكل التراث الشعري والشخصي والسياسي للشاعر ومحاولة اقتلاعه من أرضه الحقيقية المليئة بالوجوه والأحجار والأشجار” وكونه رفيقا للحلاج هنا لأن الأخير خلع خرقة العزلة وخالط الناس ودعا إلى ما يشبه وحدة إنسانية واتخذ جانب الضعفاء والفقراء مؤمنا بالحرية وبلأرض وبوحدة الوجود ووقف ضد الطغاة وهو الشاعر أيضًا؛ ألا تذكرنا كلمات ويتمان بالصوفي الكبير:
“أيُّها الغريب
حين تمر بي، وتريد أن تحدثني
لم لا تحدثني؟
ولم لا أحدثك؟”
في كل الناس أرى نفسي.
استعار محمد حسن خليفة أقنعة الكتاب الموتى: بودلير، والتر بينيامين، نيتشه، ويتمان، وأخيرًا بيسوا الذي علمه التخفي وتجاوُز الخوف من الكتابة ومن الوحدة باختراع آخرين يشبهونه. الكتاب جميعا”يتعلمون من الموتى؛ فطالما أنك تكتب فإنك تستكشف أعمال من سبقوك من الكتّاب”.*
فيلم الانتظار مأخوذ عن مسرحية لويجي بيراندللو الحياة التي منحتها لك La vita che ti diedi لذا اعتمد بشكل رئيسي على الحوار بين بينوش ودي لاج بالإضافة إلى اعتماده على الصورة كعنصر سينمائي..الصورة التي نقلت قسوة الموت وتساؤلات عن الحياة وعن خضوعنا لحتمية الموت وأكدت ونفت في آن إيماننا..في لقطة تركز الصورة على حركة كوب بيلاستيكي سقط فارغا يتحرك برتابة جيئة وذهابا..إنها حياة الأم الوحيدة التي تواجه موت ابنها الشاب وتنتظر موتها بعد أن رحلت الفتاة/الحياة.
اعتمد محمد حسن خليفة في قصصه أيضا على العنصر المسرحي، فالحوار يغلب على معظم قصص المجموعة، إن الأصوات التي استعارها خليفة ساعدتنا على الهرب من صمت الموت الثقيل والوحدة التي جعلت شخصا يلصق إعلانات عن وحدته على جدران الشوارع في “إعلان عن قلب وحيد”. حتى في هلوسته بعد تعاطي الحشيش مع بودلير ووالتر بينيامين لم يذهب الكاتب إلى الفردوس بل تخيل موته ولم يكتب قصته بل قصة موته.
لا يمكننا تجاهل ذلك..لا يمكننا تجاهل القصة الحقيقية لموت المؤلف الشاب محمد حسن خليفة في معرض الكتاب بين ملايين الكتب، ملايين الرئات المفتوحة التي سرقت هواءه فسقط مختنقا دون أن يسعفه أحد.
ولا يمكنني تجاهل قصتي مع لقائنا الوحيد..مصادفةً..في مكتبة لبيع الكتب وحديثنا عن الشهرة التي يمنحها الموت بطريقة غير طبيعية كالانتحار مثلا للكتّاب لكنه قد يسلب ما تركوه من نصوص نظرة جادة إلى سماتهما وأهميتها..تحدثنا عن سيليفيا بلاث التي أصبحت إحدى صرعات الكتابة عن قصائدها الجيدة فعلا عن الانتحار، لا عن انتحارها المثاليّ!
“المرأة أمست كاملةً” تكتب سيلفيا التي تعي جيدا قرار انتحارها قصيدة هادئة!
استعادت الأم آنا التي لعبت دورها ببراعة جوليت بينوش في الانتظار ابنها في عيد القيامة للحظات؛ لقد رأته وتحدثا..اخترعته كليةً وأمسكت بيده..إيمانها بذلك جعل أوهامها رحيمة وتتجسد حيّة.
إن موت الكتّاب ليس موتًا شخصيًّا، وسيحتاجون دائمًا إلى قاريء حيّ ويقظ..إلى قرين يعيدهم إلى الحياة ملايين المرات.