حاميد اليوسفي
ركبتَ دراجتك العادية متجها إلى المقهى، ما دامت المسافة بين البيت والمقهى لا تستهلك أكثر من عشرة دقائق، فلتُطِلِ الطريق، وتتحايل على نفسك وتوهمها بأنك أديت ما يعادل الواجب اليومي من الرياضة، على الأقل نصف ساعة فوق الدراجة قد تعادل أكثر من ساعة مشي، المهم أن يشعر الإنسان بأنه يَعْرَق.
فجأة سقطت فكرة جميلة في ذهنك، الأفكار الجميلة مثل الطيور الجميلة صيدها نادر، لكن لماذا لا تزورك هذه الأفكار التي تظن أنها جميلة إلا عندما تكون راكبا فوق الدراجة ؟؟، على كلٍّ ستكون موضوع المساء، فقط عليك ألا تنسى مضمونها كما يحدث لك عادة.
في بعض الأحيان تأخذ معك مذكرة صغيرة إلى المقهى، وإذا حامت فكرة ما وأعجبتك قبضت عليها ودونتها حتى تعود إلى البيت وتطورها، فكرت أن تتوقف وتدون هذه الفكرة في مذكرة الهاتف ما دمت لا تتوفر على مذكرة من ورق الآن، قبل أن تطير بعيدا بفعل النسيان.
يصعب التوقف في الطريق والتقاط فكرة وتدوينها، سيأخذ ذلك بعض الوقت والأهم أنه سيثير انتباه المارة، المارة عندنا في مراكش لا يشبهون المارة مثلا في فرنسا أو بلجيكا، في فرنسا أو ألمانيا يمكن أن تقف وتكتب ما تشاء دون أن ينتبه إليك أحد، ومن قال ذلك ؟ هل سبق لك أن سافرت إلى فرنسا أو ألمانيا ؟؟ كل الذين زاروا فرنسا أو ألمانيا يقولون بأن الناس هناك لا يهتمون بهذه التفاصيل الذاتية والصغيرة.
المارة عندنا فضوليون، حتى الذين يجلسون في المقاهي سيتساءلون ماذا يفعل ذلك المعتوه ؟ ترى ماذا يكتب ؟ هل يكتب الإنسان وهو يقف في الطريق؟ لا بد أن شيئا ما حدث للرجل !!، قد تكون هذه الوقفة بداية لجنون جديد يرتبط بالهواتف النقالة، بالأمس كان الإنسان عندما يبدأه الجنون يتحدث مع نفسه بصوت عال، آه لو تحدثت الآن بصوت عال ماذا سيقول الناس ؟ أكيد أن أغلبهم سيشفق عليك ويدعو لك بالشفاء من الحمق.
يُقال والعهدة على الرواة، أن الفرنسيين والألمان وغيرهم من الشعوب الراقية، لا يحبون الناس الذين يتحدثون في الشارع بصوت عال، لن يكتفوا بوصفك أحمق، لا يا حبيبي سيعتقلونك، ويغلقون عليك في مصحة، ويناولونك كل ما يشتهون من الأقراص المهدئة حتى تطير جميع الأفكار من رأسك وتصبح مجنونا بالفعل.
إذن لا تتحدث مع نفسك بصوت عال، لا هنا ولا في بلد راق !!، دع الأفكار التي تراودك في طريق المقهى سرا بينك وبين نفسك حتى تنضج وتتحول إلى موضوعات، عندما تنشرها في المساء على صفحة أحد المواقع، سيقرؤها العديد من العقلاء، وقد يرى فيك بعضهم مشروع كاتب أو أديب أو ما شابه، المهم أنهم لن يتعاملوا معك كما قد يفعل الناس في الشارع عندما يعتقدون بأنك إذا لم تسر بحشمة ووقار وتستنفر كافة قواك العقلية سيحكمون عليك بأنك أحمق.
تصل المقهى، تجلس، يأتي النادل، يضع كاس القهوة دون أن يأخذ رأيك في الموضوع، يتصرف بحسن نية كأنه يريد أن يوحي لك بأنه يعرفك من زمان، ويقرأ أفكارك، ويعرف ماذا تريد أن تشرب،. لكنه لا يعرف بأنك لا تحب أن يختار لك الناس ما يجب أن تشربه أو تفعله.
لو جلست معه على انفراد وشرحت له ذلك لاتهمك بكثرة الفهم، ربما يريد فقط اقتصاد الوقت والحركة والكلام، ولم يخطر له على البال ما تفكر فيه أنت.
لا بأس أنت في حاجة كل صباح لفنجان قهوة سوداء خفيفة أو عادية، وتفضل دائما أن تكون خفيفة لأنك لم تعد تستعمل السكر، القهوة بلا سكر مارة يا أخي، المرارة أصابت كل شيء في حياتنا، كل الأصدقاء الذين يجلسون معك لا حظوا بأنك تشرب فنجانك بسرعة، فسرت ذلك غير ما مرة بأنك لم تعد تدخن وبالتالي ما الفائدة من تناول القهوة بعد أن تبرد ؟، تذكرت مهدي (الكسال) رحمه الله، كان يشبه القهوة باردة بكوكاكولا سخونة
طيب الآن أخذت إحدى الجرائد، أول عنوان فاجأك بمنشيت عريض هو اسم الرئيس الجزائري الجديد، ضحكت مع نفسك وقلت كان الله في عون أمهات الجزائر وشيوخها، أما الشباب فلم تعد تهمه مثل هذه الكلمات لأنه بعد الانحدار الثقافي وهبوط المستوى التعليمي والقيمي والأخلاقي أصبح يستعمل أقبح من تلك الكلمة، وهل تلك الكلمة قبيحة أصلا؟ إنها مجرد اسم لعضو تناسلي عندنا في مراكش، قبل أربعين سنة، فعلها محمد شكري رحمة الله عليه في الخبز الحافي، لكنهم منعوا كتابه من التداول، أنت أيضا استعملت مثل هذه الكلمات خارج المناطق المحرمة ، الجميع يستعمل مثل هذه الكلمات ولو مع نفسه، لكنهم لا ينطقون بها بصوت عال وسط أسرهم أو داخل فصول الدراسة أو أمام الناس الذين يعتقدون بأنهم محترمين، اللهم إذا كسروا الأغلال التي تجعل من الإنسان شخصا يتحلى بالوقار والحشمة أمام الناس وتحدثوا بصوت عال.
آه لو اطّلع الناس على ما كتبه الشيخ محمد النفزاوي وهو فقيه وعالم دين كبير عاش في القرن الخامس عشر ميلادي يعود له الفضل في تأليف أول كتاب في التربية الجنسية (الروض العاطر في نزهة الخاطر) في تاريخ الحضارة الإسلامية والأوصاف التي أطلقها على العضو التناسلي عند الرجل والمرأة، ومن قال لك بأنهم لم يطلعوا عليه ؟؟ ولماذا إذن تحمر وجوه وتسود وجوه عندما تسقط كلمة سهوا على لسان طفل صغير تشير إلى ذلك الشيء الذي يشبه اسم الرئيس الجزائري.
وضعت الجريدة جانبا، تذكرت الفكرة التي راودتك في الطريق لتدوينها في مذكرة الهاتف، حاولت استعادتها، لم تعثر على شيء، بدت ذاكرتك أشبه بصفحة بيضاء، نافرة مثل حصان بري غير مسيس، لا تستجيب لرغبتك، تساءلت مع نفسك لماذا تتذكر أحداثا مضى عليها أكثر من خمسين سنة بالتفصيل الممل كأنها تحدث الآن أمام عينيك، وتعجز الآن عن استحضار جملة من بضع كلمات لم يمر عليها أكثر من ساعة ؟، لا بد أن بائع الليمون الذي توقفت عنده كان السبب في ذلك، كنت راكبا فوق الدراجة والفكرة تطير وتسير بمحاذاتك.
هل كانت تركب هي الأخرى دراجة ؟؟ من يدري ؟ ربما كان لها جناحان، الأفكار مثل الملائكة تطير بجانب الناس لكن لا أحد يراها، تريد أن تعتقلها لتختمر في ذهنك ولا تفارقك لحظة واحدة، لكن عندما توقفت ونزلت من فوق الدراجة وتبادلت الحديث مع ذلك البائع المتجول حول مذاق الليمون وثمنه وتساقط الأمطار والرياح، نسيت أن فكرة كانت تصاحبك في الطريق إلى المقهى، أكيد أنها طارت إلى ذهن آخر، ربما كان في نفس الطريق شخص مثلك مهووس باصطياد الأفكار، سطا عليها واصطادها بشباكه وأنت مشغول بهم الليمون وأحوال الطقس والباعة المتجولين، قد تظلم الليمون والباعة المتجولين، من المحتمل أن يكون سيدي عبد الكبير (عامل التقدم في السن) كما يدعوه شيوخ المتقاعدين بمراكش هو الذي فعلها.
بعض الأفكار حمقاء أيضا، تعتقد أنها إذا هربت منك، ستشل يدك ولن تستطيع الكتابة، تبدو مخطئة ولا تدري بأن الإنسان أشد حمقا منها.
مراكش 23 دجنبر 2019