د. محمد سليم شوشة
رواية النوم في حقل الكرز للروائي العراقي أزهر جرجيس الصادرة عن دار الرافدين ببغداد مؤخرا 2019، هي واحدة من الروايات العربية الحافلة بالتشويق والمغامرة والحافلة بالجماليات الأخرى الكثيرة. الرواية من بدايتها تبدو أشبه بركض وفرار لا ينقطع، ويبقى مصير البطل فيها معلقا وعلى المحك باستمرار، فهو نموذج للإنسان العربي الهارب من التهدم والتردي الحضاري والمعبر عن حال الهوان والانهزام المهيمنة علينا الآن بعدما تفتت الأوطان أو صارت تمضي من فوضى إلى أخرى ومن ضياع إلى آخر أشد قسوة.
سعيد ينسين هذا الإنسان العراقي الذي عاش يتيما لم ير أباه في الحقيقة مرة واحدة ويكون معرفته بها كلها عبر ما تخبره به أمه، يعيش حياته كلها يطارده هذا الأب في الأحلام ويطالبه بإتمام مهمة صعبة وقاسية وغريبة، فهو ميت ليس له مقبرة خاصة وترهقه هذه الحياة الأخروية الصعبة التي لا تختلف عما قاسى في الدنيا، ولهذا يزو ابنه دائما في الأحلام ويطالبه بأن يجعل له مقبرة مثل الموتى الطبيعيين. يبدو الابن هنا مطاردا وهائما طوال الوقت ومصيره معلقا ومحاطا بقدر كبير من المخاطر وهو ما يعلي من التشويق من بداية الرواية حتى نهايتها.
الابن الذي يتحول هو الآخر إلى مطارد من الديكتاتورية ويصبح مهاجرا في بلاد الثلج يعيش مغامرته الخاصة في الفرار والهجرة غير الشرعية عبر الحدود حتى يصلح إلى النرويج مملكة الثلج كما يسميها وحيث الحياة المتناقضة تماما مع دفء العراق وذكرياته. مما يمثل رافدا جماليا في هذه الرواية هو قدر ما تفيض به من المعلومات عن وصف مغامرة الهروب والتسلل عبر الحدود من دولة إلى أخرى في رحلة مشوقة فيها كثير من القصص الفرعية الأخرى الثرية أو التي تزيد من ثراء الرواية، فتتجاور الحكاية الأساسية لسعيد ينسين المهاجر الهارب العراقي مع غيره من الفارين البؤساء من أوطان أخرى لفظتهم، من فلسطين وسوريا والسودان وأفغانستان وغيرها من البلدان الإسلامية التي يتطاحن فيها الناس ويقتتلون باسم الدين وصارت الدولة فيها ضعيفة في مقابل حكم المسلحين والمليشيات الدينية بحسب تعبير الرواية التي ربما لا يعاب عليها غير النبرة المباشرة الصريحة في كثير من الأحيان. برغم أن الحكاية كبيرة وحافلة بالتفاصيل والشخصيات وثرية بالمواقف ولم تكن بحاجة إلى هذا الكم من التصريح بالمساوئ إلا إنها تميل إلى هذه المباشرة في كثير من المواضع ربما في نوع من الانفجار والصراخ جراء الألم والمآسي التي يعيشها بطل الرواية وكأنه الإنسان الأكثر بؤسا في الوجود، وهو برغم هذا البؤس تأتي الكتابة عبر صوته الخاص حافلة بالسخرية المريرة والمضحكة في كثير من الأحيان، فلغة الرواية في ذاتها مصدر من مصادر الجمال لأنها تميل إلى درجة رهيفة من السخرية الوقائية أي التي تحاول الذات صاحب الصوت الرئيس في السرد للتحصن بهذه النزعة من السخرية لتخفيف وطأة هذه الأحداث المأساوية التي تعيشها أو تتعرض لها. وأمثلتها كثيرة على نحو ما نجد من التعبيرات الساخرة التي يطلقها صاحب الصوت السردي وهو الشخصية الرئيسة عن خاله المؤيد لكل الأنظمة ويسميه بابا عفلق ويسخر من بدانته وكرشه الضخم والأمر نفسه مع زميله المهاجر من كوسوفو الذي يبتلع البيض مثل ثعبان جائع، وغيرها الكثير من التعبيرات الساخرة واللغة المتندرة على قدر ما يعاين من خراب في بغداد بعد الغزو الأمريكي لها أو في كثير من الأحيان ما تكون هذه السخرية قدرية متجسدة في مواقف وأحداث عبثية مثل عظام الأب التي تخرج من مقبرة جماعية لتلاقي مصيرا أشد بشاعة على الطريق تحت عجلات لوري ضخم، أو عبثية الموقف الذي يجعله يعيش بهويتين متناقضتين حتى يتفادى القتل أو الحروب الطائفية، فيكون له اسمان وهويتان أحدهما شيعي والآخر سني، وبرغم ذلك لا ينجو.
هذه الرواية التي تبلغ حدا بعيدا من الكآبة وسوداوية المصير وقتامته عبر ما تجسد من الضياع والتيه والحزن والانفصال عن الجذور والطفولة والذكريات والأهل، تملك نوافذها الجمالية الخاصة عبر لغتها وتصويرها وما تملك من تشويق وتكامل في البناء السردي، حافلة بالنبض الإنساني والرغبة في الحياة في مقابل القدر المتربص بهذه النموذج الذي لا يقدر على الفرار بعظامه من شرور العالم العربي وأنظمته وطائفيته وما يغلفه من الكراهية والحقد.
تنحت مخيلة هذا الخطاب السردي نموذجها الخاص عبر تصوير مأٍساوي ثقيل الحضور والتفاصيل والمنعرجات، في رحلة طفل يتيم يفقد الأب يعيش مع أم وحيدين بلا سند، ولا أمل له غير الكتابة، ويضطر بعد ذلك إلى الهرب والهجرة في رحلة مشوقة وحافلة بالتفاصيل والأحداث الغريبة والمشاركات الجديرة بالمتابعة التي لا تغمض لها عين المتلقي، ثم حالات من الحب والأمل والعمل والإصرار على النجاة في مقابل أصوات أخرى من المهاجرين التي تطرح وجهات نظر أخرى ترى الأمل في التخلص من صدام الذين يرونه كل المأساة بديكتاتوريته، في حين يكشف المستقبل عن واقع أشد قتامة بعد صدام، بأن يتم استبدال الطاغية المقدس بمئات وآلاف الطغاة الجدد الذين لهم التقديس ذاته وكأن الأرض تنبتهم مثل الزروع وأشجار النخيل.
والرواية تطرح حياة كاملة حافلة بالتفاصيل الكثيرة عن الطعام والشراب والعادات والتقاليد من الشرق والغرب، ففي هذه البؤرة الإنسانية الهاربة يلتقي نظامان متعارضان في كل شيء، فالرواية تقدم نموذجا مثاليا لهذا التلاقح الحضاري الذي تصرح به، في كافة مظاهر الحياة من لغة وتفكير وثقافة الأطعمة والمشروبات التي يتم توظيفها على نحو جمالي في السرد بأن تحاول الشخصية الهاربة استعادة ماضيها وذكرياتها وطفولتها في هذه التفاصيل وهذه العادات، فيعيش هذا النموذج العراقي في شقة في المهجر يحيلها إلى وطن صغير يضج بكافة مظاهر الحياة العراقية التي تصبح جزءا حتميا من تكوين الشخصية لا تملك الفرار منها.
وتحاول الرواية تخفيف وطأة المأساة الكبرى وتفاصيلها الصغيرة أو أحداثها المتعددة عبر لغة ساخرة تسمو على الوجع نحو رؤية عبثية مريرة ضاجة بالأسئلة الوجودية عن الفارق بين العراقيين وغيرهم ولماذا يكون من نصيب هؤلاء البشر وحدهم كل هذا الحزن والتشرد والألم في حين تعيش الأمم الأخرى في سلام على أراضيها ولها كل الحقوق الآدمية البسيطة والأساسية.
تتكرر الأحلام والأسئلة وتمتد هذه اللغة الساخرة لتتوازى كلها مع المنعرجات المأساوية التي يمر بها بطل الرواية في حياته القصيرة التي يكون فيها مضطرا ليس فقط للتخلي عن أرضه ووطنه والعيش مع أمه التي هي كل أسرته، بل يتخلى كذلك عن اسمه ولقب عائلته ويتخلى عن لغته وكل هذا في مقابل أن ينام في مقبرة معروفة بدلا من أن يصير مثل أبيه روحا هائمة وضائعة فاشلة في موتها مثلما قد فشلت في حياتها، فأقل نجاحات الميت أن يكون مستقرا في مقبرة، وهو ما لم يتحقق للأب الذي يطارد ابنه في الأحلام بسؤال ثابت ومتكرر (أين قبري؟) وكأنه يكلف ابنه بمهمة عصية ويخلق بينهما نوعا من التعارض والصدام، فأهداف الابن أن ينجو بنفسه والأب يعود ليورطه مرة أخرى فيما هرب منه.
والرواية برغم كونها صريحها في حمولاتها السياسية وآرائها لا تبدو بعيدة عن الشكل الإنساني لأنها في النهائة جعلت هذه الأفكار السياسية أو هذا الطرح لوجهة النظر السياسية متجسدا في حكاية مأساوية شديدة القتامة وحافلة بالتفاصيل والأحداث وهو ما يخفف في المجمل من مباشرة الخطاب السردي وحدة رسالته الصاخبة، فمن المقبول تماما أن يكون البطل صاحب رأي سياسي واضح وربما صاخب وليس من المنطقي دائما أن يصمت ولا يعلن عن أفكاره، فالمهم إلى جانب ذلك أن نعاين تفاصيل حياته ومنعرجاتها لنطابق بين الرأي المصرح به وهذه الحياة المأساوية. وإجادة الخطاب السردي في هذه الرواية الكبري في تقديرنا تأتي عبر اختلاق هذا النموذج لكاتب عراقي مهاجر يكتب بلغة أخرى ويترك مخطوطا يحتاج إلى ترجمة في نوع من الانسلاخ الكامل عن الثقافة واللغة العربية وانسلاخ تام آخر بين المؤلف وهذه الشخصية صنيعة التخييل السردي. فحيلة الترجمة تزيد من قدرة الخطاب السردي على الإيهام بحقيقة هذه الحياة المطروحة عن سعيد ينسين الكاتب العراقي المهاجر الذي يترك سيرته ويرحل منتحرا بجرعة دواء زائدة ومن هنا يأتي تصديق المتلقي لهذه الحكاية التي تصبح حقيقة، فقد يصدق أن هناك كاتبا عراقيا مهاجرا بهذا الاسم وربما يبحث عن على محرك البحث جوجل ويبقى طويلا مصدقا لهذه الحكاية ثقيلة التفاصيل والمفردات.
…………………..
*نقلاً عن جريدة “القاهرة”