ساري موسى
إزاء كآبته المتفاقمة يوماً بعد يوم، المنحوتة على وجهه بملامح أقرب إلى القرف والاشمئزاز من الحياة، وجدتُ نفسي محتاراً فيما يجب أن أفعل أو أقول لكسر صمته الصلب وتقوقعه على نفسه.
لم أعثر سوى على الكلمة الاعتيادية التي أنطقها كبداية: ((كيفك؟)).
كأن كلمتي هذه اكتسبت حدّة بتكرارها، ففجّرت بالون أفكاره المنتفخ. فبدل أن يردّ عليها بنظرة ضيقة أو غمغمة مبهمة كما في الأيام السابقة، اندفع في حديث محموم.
لقيتُ صعوبة في تتبّع كل الحكي الغزير المنطلق من فمه. احصائيات واقتباسات وشواهد يحفظها من تقارير دولية لمنظمات الأمم المتحدة وأخرى تابعة للمجتمع المدني، راح يقارن بين الحديثة منها وتلك المعمولة قبل عشرين وخمسين سنة، يُرفقها بتوقعات مستندة إلى دراسات أكاديمية وبحثية لما سيصير عليه واقع الحال بعد عشرين سنة أخرى من التضخّم السكاني المتزايد، أرقام بأصفار كثيرة، ملياراتٌ ومئاتُ ملايين، حتى أنّه مدّ يده إلى الخلف وسحب خارطة للعالم كان قد رسم عليها دوائر بألوان متعددة، بسطها على الطاولة وصار يشرح لي مناطق الكثافة السكانية العالية، وتلك الأخفض كثافة، وخط سير الهجرات البشرية المرسوم بأسهم حمراء من المناطق الأولى باتجاه الثانية، والتي تظل رغم تدفقها عاجزة عن تقديم حل صغير لجزء بسيط من المشكلة…
فقدتُ أعصابي. اضطررتُ لإيقافه لا بالاحتجاج وحده، دفعتُ نفسي أمام وجهه كأنّي أوقف قاطرة شحن جامحة على أوتوستراد.
قلتُ له إنّي لا أفهم شيئاً مما يتفوه به! سألته عن حاله، فما علاقة هذا كله بسؤالي؟ طلبتُ منه أن يجيبني بالكلمات لأنّي أضيع في الأرقام عندما تتجاوز عدد أصابع اليدين.
أخرج كلماته المتبقية داخله بتنهّدٍ عميق. أراح ظهره على مسند كنبته. شَبَك أصابع يديه العشرة فوق صدره، ثم قال:
((لم يَعُد في العالم سعادةٌ تكفي الجميع)).