عبد الغني محفوظ
في عام 1930 أعلن الحزب الشيوعى ضرورة التزام الكتاب بالمذهب الرسمي للدولة وهو الواقعية الاشتراكية وفرض الحظر على التجريب مما أدى إلى هجرة الكثير من الكتاب والنقاد إلى الغرب وانضواء البعض الآخر تحت لواء اتحاد الكتاب السوفييتى الذي انشىء عام 1934 برئاسة مكسيم جوركى الذي كان بمثابة الرقيب الأول على الكتاب. وظلت الكثير من الأعمال الأدبية ممنوعة في الاتحاد السوفييتى باعتبارها مضادة للثورة. وبلغت الرقابة درجة من التشدد والاضطهاد بحيث لم تقتصر على منع النشر أو الاعتقال أو الطرد من الاتحاد السوفييتى بل وصلت في بعض الأحيان إلى حد إطلاق النار والتصفية الجسدية. ولعل من ابرز الذين عانوا من الرقابة الشاعرة أنا أخماتوفا (1899-1966) والشاعرة مارينا تسفيتايفا (1892 – 1941) التي غادرت روسيا عام 1922 لمعارضتها للثورة ثم عادت إليها وراء زوجها عام 1931 ليقتل هو ثم تعيش وحيدة وفقيرة وتضيق بها الحياة لتنتحر في عام 1941بعد أن فشلت في العثور على أي مورد رزق لتعيش منه. كذلك قتل ماندلستام اوسيب في معسكر العمل (وهم الاسم السوفييتي المهذب للسجن أو الإصلاحية) كما اضطر بوريس باسترناك إلى رفض جائزة نوبل عام 1958 تحت الضغوط السياسية للحزب وفى عام 1974 اجبر سولجينتسين على الانضمام إلى الكتاب السوفييت الذين يعيشون في الخارج كما لحق به الشاعر جوزيف برودسكى عام 1977. وقصص الكتاب الروس الذين عانوا على يد ستالين هي قصص معروفة ولكن هناك الكثير من الجوانب الخفية والمخيفة التي يتكفل الكتاب الذي وضعه احد الكتاب الروس وصدرت ترجمته منذ سنوات عن دار نشر Free Press في نيويورك، بإماطة اللثام عنها. والكتاب هو “الأصوات المعتقلة” Arrested Voices بقلم فيتالى شينتالنسكى Vitaly Shintalinsky وترجمه إلى الإنجليزية جون كروفوت ويقع في 322 صفحة.
والأصوات المعتقلة هو تقرير مثير للاهتمام إن لم يكن باعثا على الشعور بالألم والغضب منتقى من ملفات الاستخبارات السياسية السوفيتية المعروفة باسم كى. جى. بى.كما اعتاد العالم أن يعرفها، وفيه تفاصيل لمصير الكتاب الموهوبين الذين انتهت مسيرتهم الأدبية بل وحياتهم نهاية فاجعة ومفاجئة خلال السنوات التي حكم فيها ستالين الاتحاد السوفييتى. وعند قراءة القصة كما يبسطها فيتالى شنتالينسكى الذي كان يرأس لجنة روسيا الخاصة بتقصي مصير الكتاب ضحايا القمع السوفييتى أبان صدور الكتاب، يتملك القارىء في البداية شعور بالرثاء والشفقة ثم الرعب وفى النهاية السخط من أن مثل تلك الأفعال الطائشة يمكن أن تحدث. وقد لقي الملايين من الروس التعساء حتفهم في معسكرات ستالين ولكن رواية الاستجوابات الفعلية والاتهامات الملفقة ضد بضعة آلاف من الأشخاص المبدعين، كما تكشفه التقارير السرية في ارشيفات كى. جى. بى. وسلفتها في الخدمة الشرطة السرية السوفيتية ان.كي.في.دي.، تساعد على استجلاء الرعب الكامل للنظام السوفييتى حيا ومجسدا أمام أعيننا. ويقول لنا شنتالينسكى انه لم يتعرض للاعتقال أبدا فلم يكن منشقا ولم يودع في السجن أو مستشفى الأمراض العقلية ولم يرسل إلى معسكرات العمل أو يطرد من الاتحاد السوفييتى ولكن النظام اثر على حياته ومسيرته إلى الدرجة التي تكفى ليكون على وعى كامل بمظالمه وجوره.
البداية مع البيروستريكا
في يناير 1988 عندما كانت سياسة البيروستريكا في أوجها كتب شنتالينسكى التماسا إلى اتحاد الكتاب، فرع موسكو الذي يحمل عضويته لكي يسمح له بالإطلاع على الملفات السرية لحوالى ألفى كاتب قبض عليهم خلال السنوات التي تلت 1917 ولقي منهم حوالي ألف وخمسمائة حتفهم أما في المستشفيات أو معسكرات العمل.
ويلاحظ شنتالينسكى ان هذه الأرقام ليست كاملة وينقل عن الشاعرة الروسية أنا أخماتوفا قولها: “أود لو اذكرهم جميعا اسما اسما ولكن القائمة أُخذت ولا يمكن العثور عليها في أي مكان… “. أما ظروف وتواريخ موت الكتاب فقد جرى تزييفها كما توجد فجوات كبيرة في سيرتهم الرسمية، كذلك فان المعلومات الخاصة بهم في الموسوعات وكتب النصوص غير صحيحة.
وأثار اهتمام شنتالينسكى إلى حد كبير حقيقة أن أرشيفات الكتاب ومسوداتهم وكل أوراقهم كانت تصادر عندما يقبض عليهم ويكون مصيرها الملفات السرية الحكومية. ويقول شنتالينسكى: “إذا لم يكن بوسعنا ان نحيى الموتى فإن بامكاننا، بل من واجبنا ان نكفر عن هذا النهب لتراث الأمة الثقافي”. وطلب شنتالينسكى من اتحاد الكتاب ان يشكل لجنة خاصة يُنتخب أعضاؤها انتخابا ديمقراطيا. غير أن الأمر استغرق شهورا من الإجهاد المضني والصبر والدوران حول مكاتب البيروقراطية السوفيتية حتى استطاع في النهاية أن يصل إلى معقل كى.جى.بى. وسجنها المعروف باسم “لوبيانكا” في وسط موسكو حيث تُحفظ الملفات السرية.
ورحب الكولونيل أناتولى كرايوشكين من كى.جى.بى. بشنتالينسكى في مكتب صغير في الطابق الثاني من المبنى الذي كان مجرد ذكره يبعث على الرعب قائلا: “أنت الكاتب الوحيد، على ما يبدو، الذي أتى إلى هنا بمحض إرادته”. ومن سجل متضخم وحائل اللون بجانبه، لم يتح الكولونيل لشنتالينسكى أكثر من نظرة عابرة على صورة من ملف الكاتب إسحاق بابل وبرهة قصيرة لقراءة موجز الملف، ولكنه رفض بإصرار ان يسمح للكاتب بفحص الملف الحقيقى.
غير أن شنتالينسكى كان أسعد حظا في مكتب الوكيل العام الذي كان به نسخ للعديد من الوثائق التي وضعت عليها علامة “سرى” من “ملف التحقيقات رقم 419 الخاص بإسحاق بابل”. والأكثر إثارة للاهتمام من كل ذلك، التماسات من بابل بخط يده إلى مكتب الوكيل العام كتبها قبل فترة قصيرة من إعدامه.
وفى الحال نشر شنتالينسكى هذه المعلومات في مجله “أوجونيوك” المجلة الأسبوعية الشعبية ذات الانتشار الواسع وبها كل التفاصيل: رقم الملف وأسماء مستجوبي الكاتب المتوحشين والوشايات والتقارير التي كتبها عملاء ومبلغو الشرطة السرية الذين روعي عدم الإشارة لأسمائهم في الملفات. ولم يمض الكثير من الوقت حتى استدعى العقيد كرايوشكين شنتالينسكى مرة أخرى وسمح له على مضض ان يقرأ الملف الضخم الكامل عن بابل.
والتفاصيل التي تضمنها الملف كما هي واردة في كتاب الأصوات المعتقلة هي تفاصيل مدمرة وبشعة، ففي الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 مايو 1939 أتى عملاء ان.كي.في.دي. للقبض على بابل بينما كان ينام في بيته الريفى في “بيريدليكنو”، وهى ضاحية الكتاب خارج موسكو. وراح بابل وزوجته وهما يمسكان أيدي بعضهما البعض ينظران إلى عملاء المخابرات وهم يقومون بجمع تسع اضبارات من المسودات والكراسات والخطابات التي أتت إلى لوبيانكا مع الكاتب. وغمغم بابل: “إنهم لم يتركوني لإنهائها” مشيرا إلى رواية جديدة طويلة كان يكتب فيها. وبعد وضع بابل في السجن، أخذ جهاز المخابرات زوجته إلى المنزل وأخذ خمس عشرة اضبارة أخرى من المسودات وثماني عشرة كراسة واضمامة ورق و517 خطاب وكارت بريدي وبرقية إضافة إلى 245 ورقة مفردة.
العجز عن الكتابة
وفى البداية كانت أول “جريمة” عليه ان يعترف بها هي “عجزه عن الكتابة”. ويورد السجل نقلا عن بابل قوله انه خلال السنوات الأخيرة القليلة لم ينشر عملا كبيرا واحدا وان ذلك: “ربما يعد تخريبا وعدم استعداد للكتابة في ظل ظروف الحياة السوفيتية”. ولم يكن محققو جهاز المخابرات ليكتفوا بذلك بل كان عليهم ان يمارسوا الضغوط عليه حتى يحصلوا على “اعتراف” كامل يحوى تفاصيل أخرى مثل تجنيد الكاتب الفرنسي الشهير أندريه مالرو لبابل ليتجسس لصالح فرنسا.
ويلاحظ شنتالينسكى أن جهاز إن.كي.في.دي.كان يحصل على ما يريد باستخدام التهديد بالتناوب مع الضرب، وينقل عن خطاب مريع وجد في ملف المخرج المسرحي الشهير فسيفولود مايرخولد الذي كان في الخامسة والستين وكتبه من السجن إلى فياشيسلاف مولوتوف الذي كان آنذاك احد الشخصيات البارزة في هرم الحكم السوفييتى
“لقد طرحت على الأرض على وجهي وضربت على قدمي وظهري بسوط من الجلد. وعندما تمددت ووجهي إلى الأرض اكتشفت أنني أستطيع أن أتلوى وأتضور وأعوي مثل كلب. ان الشخص الذي يخضع للاستجواب يقول لنفسه: (إن الموت ..الموت من المتيقن أسهل من ذلك) وبدأت اتهم نفسي بالجرائم على أمل ان يقودني ذلك بسرعة إلى المشنقة”.
وبالفعل بعد وقت ليس بالطويل أطلقت النار على مايرخولد.
وفى محاكمة مغلقة في يناير 1940 قبل ان يحكم عليه بالموت أعلن بابل: “أنا بريء تماما فلم أكن جاسوسا ولم ارتكب أي جريمة ضد الاتحاد السوفييتى. وفى شهادتي أثناء التحقيق شهرت بنفسي. لدى طلب واحد فقط وهو أن يسمح لي باستكمال عملي (الأدبي) الأخير”.
في الواحدة والنصف من صباح يوم 27 يناير 1940 أطلقت النار على بابل، ولكن بعد شهر ونصف أمرت المحكمة العسكرية عدة مكاتب أن تبلغ أرملته أنه قد تم “تأهيله وأنه مات وهو يقضى عقوبته في المعسكرات في يوم 17 مارس 1941م”. ولكن ماذا عن الأربع وعشرين اضبارة من المسودات. لم يظهر لها أي اثر ومن الواضح أنها اختفت إلى الأبد.
ولكن لم تكن كل المسودات التي تدخل لوبيانكا تختفي، فالكاتب ميخائيل بولجاكوف مؤلف رواية “السيد ومارجريتا” الشهيرة (التي ظلت محظورة في الاتحاد السوفيتي لزمن طويل وإن كانت على مدى عدة سنوات تعد من بين أكثر الكتب مبيعا في الغرب)، لم يقبض عليه أبدا ولكنه رأى مسوداته، بما فيها يوميات صريحة للغاية سماها “تحت عقب القدم”، تنتزع منه في محاولة لتخويفه وإرهابه. وعلى مدى سنوات حاول بولجاكوف ان يستعيد يومياته وذات يوم وعلى نحو غير متوقع، أعادتها له السلطات. وفى الحال نزع اليوميات وأضرم فيها النيران. ولكننا اليوم نستطيع ان نقرأ هذه اليوميات لان الشرطة السرية احتاطت للأمر بعمل صورة ضوئية منها كما أعدت نسخة منها على الآلة الكاتبة، وهذه النسخة الأخيرة هي التي ظهرت في أرشيف كى.جى.بى. وسلمت إلى شنتالينسكى ولجنته التي أشرفت على طباعتها بعد ذلك بعدة سنوات. وتزخر ملفات كى.جى.بى. بقصص تحرك الأفئدة وتثير الأذهان ومواقف تتبدى فيها الشجاعة الأخلاقية في أعلى صورها من قبل بعض الكتاب في مواجهة التعذيب والموت المحقق، وكذلك حكايات تعسة للخيانة والضعف الأخلاقى عند آخرين. وعلى مدى عقود كان أعضاء اتحاد الكتاب يتجسسون على بعضهم البعض في محاولات لا جدوى منها لإنقاذ أنفسهم. وقصة الخيانة في عالم الأدب الذي يفترض فيه سمو الأذهان والأفكار هي قصة مؤلمة وبشعة.
لا ظل للخوف في الصورة الأخيرة
والكتاب يشتمل على صور لبعض الكتاب الذين سُمح لشنتالينسكى بالإطلاع على ملفاتهم وهى مأخوذة أثناء استجوابهم على أيدي الشرطة السرية. وبعضهم مثل مايرخولد تبدو عليهم علامات العقاب والتعذيب الجسدي الذي تعرضوا له.
وكلهم، وبعد أن فهموا على ما يبدو أنها الصورة الأخيرة التي تؤخذ لهم، يظهرون نوعا من القوة الداخلية الملحوظة دون أن تبدو في أعينهم أي ظلال للخوف.
أما الشاعر الشهير أوسيب ماندلستام فقد أدرك انه محكوم عليه بالإعدام من اللحظة التي كتب فيها إلى مستجوبيه قصيدة من ستة عشر بيتا ظلت حتى ذلك الوقت حبيسة ذاكرته، وهى تمثل هجوما شديدا على ستالين القوى. وقررت المخابرات إرسال الشاعر إلى معسكر عمل لمدة خمس سنوات لكي يتم “عزله” وأن لم يكن من الضروري “الحفاظ على حياته” وهو لفظ يشير إلى رغبة السلطات في التخلص منه أو على الأقل عدم الاحتفال بالحفاظ على حياته. وبالنظر إلى حالة ماندلستام الصحية، لم يكن ثمة احتمال لتحمله الحياة طويلا في “كوليما”، وهو واحد من أكثر المعسكرات قسوة ووحشية.
ساعي البريد لا يحمل الخطابات
ومن بين الخطابات الموجودة في ملفه هناك أحد خطاباته الأخيرة إلى زوجته ناديجدا ماندلستام وهو خطاب يفيض بالحزن والشعر. ومن الواضح طبعا أن السلطات حالت بين وصول الخطاب إلى زوجته كما تنبأ الشاعر:
“(أوسيا) حبيبتي وصديقتي البعيدة، عزيزتي، ليس لدى كلمات أخط بها هذا الخطاب، وهو خطاب ربما لن تقرأيه أبدا. إنني أخطه للعدم.كم كانت حياتنا الطفولية معا بهيجة يا (أوسايشكا). شجاراتنا ومشاحناتنا وألعابنا وحبنا. هل تذكرين كيف كنا نجتر ولائمنا الفقيرة عائدين إلى بيوتنا المتواضعة المتنقلة التي تشبه بيوت المشردين؟ هل تذكرين كم كان مذاق الخبز لذيذا عندما كنا نحصل عليه بما يشبه المعجزة ثم نتقاسمه سويا فيما بيننا؟ هل تذكرين فقرنا البهيج والشعر. أنني أبارك كل يوم وكل ساعة من حياتنا المريرة يا صديقتي ورفيقتي ومرشدي الذي لا أراه. أنا لم يتح لي أبدا الوقت لأقول لك إلى أي مدى احبك. أنا أوسيب يا(ناديا) ..أين أنت؟”.
حتى عندما لا يتم القبض على الكتاب السوفييت المرموقين أو يتم شحنهم إلى المعسكرات أو تطلق عليهم النيران، كانت حياتهم دائما تمضى تحت سيطرة الشرطة السرية كما اكتشف شنتالينسكى عندما قرأ صورة من التقرير الطبي لمكسيم جوركى مستعادة من الأعماق السحيقة لأرشيف لوبيانكا. وقد “اعترف” أطباء جوركى باغتيال المؤلف الشهير، ولكن السجل الذي طال إخفاؤه لزمن طويل يبرئهم تماما من أي جريمة. أما حكاية استغلال السوفييت لكاتبهم المعروف دوليا فهي حكاية تثير الأعصاب وتدعو للخزي والعار.
وبينما يتابع شنتالينسكى رسالته بصبر ودأب في إلقاء الضوء على مصير وأعمال الكتاب السوفييت، فانه يواجه باستمرار مضايقات من بقايا البيروقراطية الشمولية التي استمرت سبعين عاما. ويختم شنتالينسكى كتابه بأن يذكرنا بأنه في ظل الحكم السوفييتي كان الكتاب “يعانون من عدد غير محدد من الإجراءات القمعية. وكانت هذه الإجراءات تتجاوز الإعدام والسجن والنفي الداخلي والطرد إلى الخارج، إلى شل حياة وأعمال الكثير من الآخرين”. وانتحرت امرأة من جراء ذلك أما الآخرون فيقول عنهم شنتالينسكى:
“كانوا يتعرضون للمضايقات ويمنع نشر أعمالهم لسنوات بأكملها، كما كان آخرون يضطرون إلى ان يخنقوا أصواتهم وان يغرقوا أعمالهم الأولى الواعدة في الثناء الواهن للنظام، أي أنهم قتلوا مواهبهم لكي يعيشوا”.