عنايات الزيات ومحو الأثر

في أثر عنايات الزيات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طاهر عبد الرحمن

وصلني كتاب الشاعرة والناقدة، إيمان مرسال، “في أثر عنايات الزيات” (الكتب خان، القاهرة 2019) بعد يوم من وفاة الكاتب الشاب محمد حسن خليفة المفاجئة والصادمة، وقررت ألا أقرأ شيئا لمدة طويلة، مع أنني كنت – منذ صدور الكتاب – شديد الرغبة لقراءته، خصوصا بعد العدد الكبير من المقالات والمراجعات التي كُتبت عنه.

ومن باب الفضول فقط طالعت الصفحات الأولى منه، لكني لم أستطع أن أتركه من يدي، رغم المشاغل، إلا بعد أن انتهيت من قراءته كاملا.

لا أعرف بالضبط سبب ذلك، ربما كان أسلوب الكاتبة السهل والمباشر والمُشوق، وربما كانت رغبتي في استكشاف قصة حياة “عنايات الزيات” الغامضة، وربما لأن القصة – بشكل من الأشكال – تقاطعت في بعض جوانبها مع قصة الصديق المتوفي، وربما كانت الأسباب كلها مجتمعة، لكن الأهم بالنسبة لي أن ذلك الكتاب – رغم ما فيه من مأساوية – كان بمثابة “مسكن” قوي لحالة للألم والحزن والصدمة التي عشتها منذ يوم الخميس الماضي.

لا أعرف ماذا يمكنني أن أضيف على كل ما كُتب عن هذا الكتاب؟ إنه بلا شك كتاب من نوع مختلف جدا، كُتب بحب وإخلاص وشاعرية نادرة، فعلى الرغم من أن قصة بطلته كافية جدا لكتابة كتاب جيد يستحق القراءة، إلا أن الكاتبة – وهي شاعرة بالأساس – لم تستسلم لذلك الإغراء وحده، بل أضافت إليها من روحها وأعصابها الكثير والكثير من الجهد والوقت، حتى خرج بذلك الشكل.

تعودتُ دائما عندما أنتهي من أي كتاب أن أعود للعنوان متأملا ومتسائلا إلى مدى كان معبرا عن المضمون، ففي أحيان كثيرة يتساهل بعض الكُتّاب في اختيار عنوان كتابهم، أو في الغالب يختارونه قبل حتى أن يكتبوا حرفا واحدا في موضوعه، وفي حالة هذا الكتاب كان العنوان (الذي أعترف أنه لم يعجبني في البداية) مُوفقا لأبعد حد، فهي رحلة تشبه تماما ما يفعله قصاصو الأثر في الصحراء والمناطق النائية والمجهولة، وهي مهنة من أصعب المهن، فهي – وإن كانت لها قواعد يمكن دراستها – إلا أنها تعتمد على مهارات وإمكانيات وقدرات خاصة جدا، وهو ما توفر في “إيمان مرسال” بشاعريتها وتجربتها الأدبية، وهو ما تجلى في طريقة تتبع أثر الكاتبة المُنتحِرة في كل – أو معظم – جوانب حياتها القصيرة إلى جانب تقديم صورة شبه كاملة للزمن والعصر الذي عاشته، وكل ذلك في كلمات قليلة مختصرة (الكتاب في 243 صفحة من القطع المتوسط)

أسئلة كثيرة تطرح نفسها على كل قارىء في لحظة الانتهاء من قراءة الكتاب: ما هو “ذنب” عنايات الزيات تحديدا حتى وصلت لتلك اللحظة التي تناولت الحبوب المنوّمة وتنام نومتها الأبدية، وماذا فعلت (أو لم تفعل) كي تصل لذلك القرار، هل كان استقلالها الفكري والأدبي وفرديتها وطموحها الذي بلا حدود هو السبب، هل كان عليها أن تنضم لجماعة أدبية (أو حتى سياسية) لتحصل على “بعض الأمان” النسبي في مجتمع القاهرة الأدبي والثقافي في الخمسينيات والستينيات، بكل ما كان فيه من تيارات وأفكار متصادمة ومتحاربة، ثم السؤال الأهم: ما هو طموحها بالتحديد؟

بكل تأكيد فإن عنايات الزيات كانت تمتلك روحا وشخصية تكاد تكون “هشة”، لم ينتبه أحد لها بالقدر الكافي، وبالتالي لم يعرفوا كيف يتعاملون معها، هي في الغالب لم تكن تطلب شيئا سوى جزء بسيط من الاستقرار النفسي وبعض الاعتراف بموهبتها وقطعا “الحب”، لكن فيما يبدو كان ذلك صعبا في زمنها، كما هو صعب في كل زمن.

من السهل القول بأن كل العوامل والظروف الاجتماعية والثقافية التي وقفت حائلا ضد طموحات تلك الشابة كانت السبب في دفعها لاتخاذ قرارها في تلك الليلة الباردة، لكن من ناحية أخرى لا يمكن أبدا معرفة خواطرها وأفكارها بشكل قاطع بينما كانت تتمدد على السرير تنتظر نهايتها بالشكل الذي اختارته. قطعا لم يكن في بالها أن شاعرة وناقدة سوف تحاول – بعد مرور سنوات طويلة – أن تتبع أثرها وتعيدها للمشهد مرة أخرى، وهي محاولة ليست سهلة خاصة وأن “عنايات”، حتى بعد موتها وبطريقة غامضة، كانت تمحو كل أثر لها!

مقالات من نفس القسم