قراءة ثقافية لقصيدة “الظل والصليب” لصلاح عبد الصبور

صلاح عبد الصبور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

القصيدة الحديثة خاصة لها حمولة ثقافية، ذلك أن الشعر الحديث في علاقاته الطارئة بالخريطة الشعرية العالمية  وفي علاقته العضوية بالتراث العربي صارت القصيدة منجزا ثقافيا بقدر ما هي منجزا فنيا وكما تقرأ سميائيا وتطبق عليه المناهج الحديثة كالبنيوية والتفكيكية تقرأ ثقافيا قراءة مستعينة بمناهج النقد العربية والغربية قصد تفكيك المضمرات والوصول إلى الدلالات الثقافية خاصة وهذه ورقة في قراءة ثقافية لأهم قصيدة ثقافية في الشعر الحديث “الظل والصليب لصلاح عبد الصبور” والتي تعتبر بحق بورتريه الوجدان العربي.

لطالما اتهم شعرنا القديم بأنه شعر خالي من الفكرة قياسا إلى الشعر العالمي وتحديدا الشعر الأروبي ذلك أن النقاد والدارسين خاصة المستشرقين أخذوا عليه مآخذ تلخص في كون شعرنا القديم سقط في فخ التقليد فإذا كان امرؤ القيس قد وقف على الأطلال فبكى واستبكى حسب كثير من الشعراء أن هذا هو طريق الشعر وحده  وأن الشاعر الذي لا يبكي على الأطلال ليس بشاعر ، وأن القصيدة التي لا تستهل بذكر الطلل ليست بقصيدة ، حتى ولو كان الشاعر ما عرف طللا في حياته ، وأخذ على شعرنا أنه شعر الانفعال الحاد والعاطفة المشبوبة كأنها فرس جموح لا تسلس القياد للعقل ، وشأن العاطفة الحادة في الفن كشأن الشهاب يلمع فجأة نارا ونورا ثم يخبو ضوئه وينتهي رمادا ، والشعر رؤيا ذاتية وصياغة جديدة للعالم قوامها العاطفة الهادئة والفكرة المتأملة بغير مبالغة تشط عن حقائق الوجود أو تنكر في صلف ما هو من يقينيات الطبيعة والحياة ، وأما سقوط شعرنا في فخ الخطابية فذلك شأن لا ينكر ومن شأن الروح الخطابية أن تسطح الفكر والشعور وتجنح بصاحبها إلى الرياء، وتدفعه رغما عنه إلى كد الذهن في استقصاء الألفاظ المدوية والعبارات الرنانة والاستعارات البديعة والتشبيهات غير المسبوقة حتى يوصف صاحبها بالبليغ وبالشاعر المقوال ويستل من النفوس الإعجاب ومن القلوب المودة ومن خزائن السلطان المال الوفير .

غير أننا لا نسرف على أنفسنا بأن نتبنى وجهة النظر هذه جملة وتفصيلا

دون أن نفهم البنى الاجتماعية والتاريخية للواقع العربي القديم الذي أنتج هذا المفهوم للشعر وبغير هذا الفهم سنكون ظالمين لتراثنا متهمين بالتقصير في فهمه ، وأول المفاتيح التي تفتح مغاليق الفهم الجغرافيا العربية ذاتها ونعني بذلك الطبيعة الصحراوية التي قدرت على العرب الحل والترحال وتمزيق الكيان العربي إلى قبائل متحاربة بحثا عن الرزق وخوفا من فواجع القدر ، وقد جر ذلك العربي إلى تلمس القوة في سببين: السيف واللسان وليس العقل فالكلمة البراقة الحماسية من شأنها أن تلهب الحماسة إلى القتال ولو كان عدوانا أو تبعث في النفس الإعجاب ولو كان افتراء ويلخص ذلك كله قول عمرو بن كلثوم :

                 ألا لا يـجهـلن أحــد عـلـيـنا

                  فنجهل فوق جهل الجاهلينـا

                  ملأنا البر حتى ضاق عنــا          

                  وظهـر البحرنملؤه سفينـــا

                  إذا بلغ الفـطام لنـــــا صـبي

                   تخــر له الجبابر  ساجديــنا

إن غياب الأفكار الكبرى عن العالم العربي قبل الإسلام ذات الأصل الديني والتي هي وراء نشوء الحضارات الكبرى في التاريخ حتى حضارة روما وأثينا القديمتان إذ تبدوان وضعيتين وما ذلك بصحيح لأن الروح الوثنية المسلمة بكمال الآلهة في معتقدات وأساطير الحضارتين والتي هي دينية في الصميم كانت الجامعة بين أفراد المجتمعين الإغريقي والروماني والباعث على الإبداع والإنتاج الفكري .

إن غياب هذه الأفكار عن العالم العربي هو الذي قضى على الاتحاد العربي وحكم بالفرقة وبالبغضاء، ولم يعرف للعرب من الإنتاج الأدبي والفكري إلا الأدب الحماسي في الشعر تحديدا ذلك أن الحياة العربية الفكرية كانت شفهية فالمعول على الحفظ والذاكرة والرواية وآليات ذلك كل الموسيقى الخارجية للنص وطلاوة اللفظ واندفاع العاطفة وبراعة الصور البيانية وفي النثر يزيد السجع ليحل محل الموسيقى الخارجية للنص في الشعر ، وهذا كله للتستر على فقر المعنى ، وذلك أن الهدف من النص الأدبي القديم هو إثارة الحماسة واستلال الإعجاب والإبهار ولو أن ذلك كله يخبو بعد الفراغ من سماع تلك النصوص الأدبية .

كذلك كان شعرنا القديم في ملمحه العام إلا من استثناءات قليلة تتمرد على هذا الطابع العام القسري مشكلة جدولا صغيرا رقراقا يصب في محيط الشعر الإنساني العالمي، إلى أن جاء العصر الحديث فانفتح العالم العربي على الثقافة العالمية وعب  منها مغذيا عقله ووجدانه بما فاته من ثقافة آبائه وأجداده ، فكان إبداع الشعر الحديث ، تداركا لنقائص الشعر القديم ومحاولة الاندغام في الشعر العالمي بتبني النظرية الشعرية الغربية والإبداع على  ضوئها، فكان شعر السياب والملائكة والبياتي وصلاح عبد الصبور الذي سنقف متأملين في قصيدته الرائعة ” الظل و الصليب ” .

وستظل هذه القصيدة فاصلا بين عهدين من الشعر عهد النبرة الخطابية واستظهار القدرات البلاغية وإثارة الانفعال وعهد التأمل العميق يلفه شعور إنساني هادئ ، وآية ذلك كله أن هذه القصيدة تتمرد على الذاكرة  وعهدنا بالشعر القديم يسعى إليها فتحتضنه أما هذه القصيدة وكثير من أمثالها في شعرنا الحديث فتغريك بالوحدة لتخلو إلى نفسك أو تراودك هي على الخلوة مغرية إياك بقراءتها وإعادة قراءتها لتغذي وجدانك وعقلك بمضمون إنساني رفيع يقصر عنه الشعر القديم ، ذلك أن هذه القصيدة قد سلمت من عيوب الشعر القديم متنزهة عن النظمية والتكلف اللغوي والشطط البلاغي محتفية بالتجربة الإنسانية والمضمون الوجودي مشكلة لوحدها ساقية تصب في محيط الشعر الإنساني العالمي .

أما السأم فمضمون وجودي بل إنساني ، إنه شعور برتابة الأشياء وتبلد نواميس الكون ، وعطالة الحياة الإنسانية بل خصاء العقل وجدب النفس ولم تعد الميتافيزيقا بعوالمها الإنسانية وإغراءاتها الغيبية بقادرة على تدمير هذا الشعور في أنفس رهيفة جبلت على البحث العميق والاستقصاء الدقيق والتمرد على المألوف ،مؤثرة كرامتها الإنسانية مضحية بنصيبها من الأمان في عالمي الغيب والشهادة تاركة ذلك لغيرها من عامة الناس .

ولعل الفيلسوف الدانمركي الوجودي “كيرغارد” خير من عبر عن هذا المضمون الوجودي في قوله:  ” كان الآلهة ضجرين ولهذا خلقوا الإنسان، وكان آدم ضجرا لأنه كان وحيدا ولهذا خلقت حواء ، وكان آدم ضجرا وحده ، أما الآن فقد ضجر هو وحواء ثم شعر آدم بالضجر هو وحواء وقابيل وهابيل وازداد سكان العالم فصار الناس يضجرون ضجرا اجتماعيا وشعروا بأن عليهم أن يمتعوا أنفسهم فبنوا برجا عاليا ليصلوا بواسطته إلى السماء وكانت هذه الفكرة ذاتها تزداد إثارة لضجرهم كلما ازداد البرج ارتفاعا حتى أرعبهم أن يروا أن الضجر صار صاحب اليد الطولى في العالم” .

ولكن أترى سأم عبد الصبور سأما وجوديا عاما يتماهى مع سأم كيركغارد وسأم الروائي ألبرتو مورافيا صاحب رواية السأم أم هو سأم خاص رهين الواقع العربي المتردي في دياجير الجهالة والعماء والاستبداد السياسي وتأسن الوضع الثقافي الذي استسلم للشعارات اليمينية واليسارية الجوفاء وإلى التقليد وانسحاب عفونة الماضي على طراوة الحاضر ؟ وفي القصيدة ما يؤكد هذا المنحى بدليل قوله :

هذا زمن السأم

نفخ الأراجيل سأم

دبيب فخذ امرأة مابين أليتي رجل

سأم

وفي السطر الثاني ما يؤكد خصوصية هذا السأم فنفخ الأراجيل عادة شرقية لولا أن الشاعر يعود فيقول:

 لا عمق للألم

لأنه كالزيت فوق صفحة السأم

لا طعم للندم

لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة

ويهبط السأم

يغسلهم من رأسهم إلى القدم

طهارة بيضاء تنبت في مغاور الندم

تدفن فيها جثث الأفكار والأحزان

ترابها

يقوم هيكل الإنسان

إنسان هذا العصر والأوان

وفي السطر الأخير ينجلي هذا السأم إنه سأم وجودي إنساني عام ينسحب حتى على حميميات الإنسان كممارسة الحب بدليل قوله:

إنسان هذا العصر والأوان.

فهذا السأم إذا حالة وجودية تتضمن القرف من الوجود والإحساس بعماء الكون وتبلد الموجودات تنسحب على الشرق كما تنسحب على الغرب وتتماهى مع سأم كيركغارد ومورافيا، والجلي أن عبد الصبور قد درس الوجودية السارترية وتمثلها أحسن تمثيل، ألم يقل ساتر على لسان أورست في الذباب”أن أجبن القتلة من شعر بالندم”فهذا المقطع ينفذ إلى لباب الوجودية ويلخصها في التركيز على الشعور بالندم الذي يشظي ويسفه الفعل الإنساني ويرجعه حرثا في الماء أوإلقاء بذرة على الصخرة ولأن الندم سليل الخوف الشرعي ترى الإنسان يلوذ به فارا من عذاب الخوف على حساب الحرية الإنسانية العميقة الشاملة، وحتى لا يضبط الإنسان متلبسا بجريمة الوزر، وأي وزر؟ لعله الوزر الذي ارتكبه آدم أول مرة حين أكل من الشجرة محاولا إثبات وجوده بتمرده، لكن آدم قد ندم وسنها شريعة في عقبه، فكل تفكير حر، وكل خروج عن السياج الدوغمائي وكل تمرد على الأعراف والرتابة في القوانين والأطر الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية هو”وزر” يحمله صاحبه لحظة ثم يهن عظمه وتثقل خطاه ويعيش رهابا نفسيا ذريعا ينتهي به إلى التطهر من هذا الدرن بالندم

إنه زمن يرفضه عبد الصبور ويرفض الاندغام فيه بل يتأمله كموضوع مفضلا دور الراصد على الهامش مستخدما دلالة فنية أو ربما حيلة لاشعورية باستخدام اسم الإشارة” هذا ” والتي تعني حالة الانفصال أو الطلاق بين الذات والموضوع ( الزمن) .

وفي تفكير عبد الصبور مرونة وحرص على الحرية في الفكر والتعبير فتراه يوظف مضامين إنجيلية وهي خصيصة يشاركه فيها معظم رواد الشعر الحديث .

فهو يستلهم قصة يسوع حين حمل صليبه ومشى إلى ذروة “الجلجلة” مؤثرا الحرن على أفكاره والدفاع عنها إلى آخر لحظة في حياته ولو اقتضى الأمر الموت في سبيل الموقف الحر .

فعبد الصبور بهذه الرؤية المستلهمة قصة المسيح يؤكد بعدا مهما في الإنسان هو الحياة لأجل قضية أو موقف ولعل المثقف في طليعة المعنيين بذلك خاصة إذا تعفنت الحياة و أصابها الجدب والخصاء واستبد الإنسان بالإنسان وهو ما يدعوه ” سارتر” بالالتزام وما يعبر عنه عبد الصبور تعبيرا فنيا جميلا بالمجد والأمد .

وأما ” الظل ” فدلالته رمزية إيحائية مضامينه الإنسانية والشعورية والفكرية لا تنتهي ، فالإنسان ليس كيس لحم كما يقول سارتر ، بل هو صاحب قضية وموقف من الوجود والإنسان  وإذا تنازل عن هذا الموقف فقد شرفه وإنسانيته وتحول إلى كيس لحم والموقف الفريد في الفكر والشعور و النضال من أجله هو ما يعبر عنه الشاعر تعبيرا فنيا ورمزيا بالظل و إذا تنازل عنه الإنسان لحساب الرفاه المادي أو الفرار من الخوف تنازل عن كرامته الإنسانية و إذا أصر عليه لقي حتفه حقيقة أو رمزا يقول الشاعر :

أنا الذي أحيا بلا أبعاد

أنا الذي أحيا بلا آماد

أنا الذي أحيا بلا ظل… بلا صليب

الظل لص يسرق السعادة ومن يعيش بظله يمشي إلى الصليب في نهاية الطريق.

وهناك ملاحظة لا ينبغي أن تفوتنا فإذا كان عبد الصبور الشاعر الذي أبى أن يساير التيار متحملا الوزر  ذلك الإنسان الذي رافع ضد القهر السياسي والفكري الذي راح الحلاج ضحيته وحاول في مسرحيته أن ينتصر له، ترى لماذا إذا يصر على استخدام الضمير ” أنا ” إذ ينعى الجبن في مواجهة المصير وعدم الصمود على ذروة الجلجلة وهو الذي انتهى كأبطال التراجيديا اليونانية ،غير أن الشاعر يتميز بالصدق مع نفسه ومع القارئ مفضلا أن يعمم هذا الموقف المتخاذل على جيله غير مستثني ولو نفسه اقرأ قوله :

أنا رجعت من بحار الفكر دون فكــــر

قابلني الفكر ولكني رجعت دون فكــــر

أنا رجعت من بحار الموت دون موت

حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته

وعدت دون موت

وفي خاتمة المقطع الأول تأتي لفظة ” الصفصاف ” في محلها من القصيدة، دلالاتها الفكرية والفنية لا تنتهي ولعبد الصبور قدرة كبيرة في اقتناص هذا النوع من الألفاظ وتوظيفها في شعره وفي عنق الحسناء يستحسن العقد كما يقول المتنبي.

فالصفصاف شجرة تتميز بالضخامة وكثرة الأغصان والتدافع إلى عنان السماء لتبدو أطول من غيرها على سبيل المباهاة لكنها غير مثمرة فهي رمز للجدب والخصاء وللشاعر القدرة على استنبات ألف غصن من غصونها الكثيفة في الصحراء وتأمل هذه اللفظة وما توحي به من عقم ، فإذا كان في مقدور الشاعر أن يعيش كشجرة الصفصاف سامقة مشمخرة عن خواء وكذلك كان له لو قبل بنمط الحياة والفكر واندمج فيهما إيثارا للسلامة غير أنه يأبى ذلك يقول الشاعر :

 يا شجر الصفصاف إن ألف غصن من غصونك الكثيفة

تنبت في الصحراء لو سكبت دمعتين

تصلبني يا شجر الصفصاف لو فكرت

تصلبني يا شجر الصفصاف لو ذ كرت

تصلبني يا شجر الصفصاف لو حملت ظلي فوق كتفي

 وانطلقت.

أما المقطع الثاني فقد تضمن أربعة أسطر تعمق فيها الشاعر مسألة الخصوصية الفردية ومسألة الالتزام وعلاقة الفرد بالمجتمع وهو صاحب ديوان” الناس  في بلادي” ذلك أن الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية وهو كائن اجتماعي بطبعه يعنيه تقدم المجتمع ورفاهه كما يعنيه تخلفه وعطالته، له ماله وعليه ما عليه ، غير أن الأوامر والنواهي من لدن المؤسسات الرسمية (السياسية والدينية والثقافية) تشجب مبدأ التدخل في حياة الجماعة حفاظا على طابعها التدجيني مقهورة  ومستعبدة بأفكارها  كما يقول فوكو وهي إذ تشجب ذلك تعمد إلى انتهاك خصوصية الفرد بمحاولة تجريده حتى من وسائل الإدراك أي حواسه لكي يتم تدجينه وإدخاله إلى داخل السياج الدوغمائي رافضة تميزه و تمرده ولو بمقاييسه الذاتية وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله”مرآتي”

يقول عبد الصبور :

قلتم لي لا تدسس أنفك فيما يعني جارك

لكني أسألكم أن تعطوني أنفي

وجهي في مرآتي مجدوع الأنف ؟

ويأتي المقطع الثالث في محله من القصيدة إنه مقطع يتعمق الذات العربية باحثا في سراديبها مكتشفا تضاريسها وهو ليس من قبيل السادية التي تستلذ جلد الآخرين بالتعالي عليهم وتتفيه حياتهم ، بل هو ربما من قبيل المازوشية حيث تستمرأ النفس المرارة وتستلذ الألم يأسا وخيبة ، والشاعر يبادر بإعلان الهزيمة وخواء الروح وغياب الطموح و أول لفظة يجدر بنا الوقوف على دلالاتها الفنية والحضارية هي لفظة   ” الملاح ” ذلك القائد الطليعي الذي يخوض بسفينته عباب البحار مصارعا موجها قاهرا  رعبها سالكا مسالك النجاة بركابها ، إنه السندباد الذي يكتشف العوالم مستحليا حلاوة الكشف مبتهجا بنشوة المعرفة ملبيا نداء إنسانيا عميقا فيه هو نداء المغامرة حتى لا تتأسن الذات وتركد الروح ، وأما الملاح فهو كما أسلفنا القائد الطليعي لعله المثقف أو رجل الدولة أو الزعيم الذي في يده مفاتيح النصر وفي عقله مشروع الأمة ودستور الرقي والتمدن ، وأما البحر فهو الحياة الصاخبة أي الدنيا التي نعيش فيها مذللين صعابها بثمرات عقولنا وكدح سواعدنا غير أن ملاحنا وجد الراحة في اليأس وعاف دور السندباد وخاف من أن يكون بروميثيوس العربي الذي يسرق نار المعرفة وينير بها دنيانا حتى تنجلي الغاشية عن أمتنا ويجنح بنا إلى شاطئ الحضارة

والرقي.

فملاحنا مازال كائنا ميتافيزيقيا من العصر الوسيط يرفض تبني فلسفة العصر والدخول إلى ساحة أنواره وهو في نظرته إلى السماء يعاني ازدواجية فهي تارة في صفه إن توسم فيها الخير وتارة ضده إن ظن منها العسر، إنه موقف ميتافيزيقي ضبابي غير حاسم ، على العكس من المجتمعات الراقية التي جعلت الحضارة ذات بعد أفقي ومضمون إنساني خالص، أما ملاحنا فيكتفي بالبعد الرأسي متخليا عن دوره في الكشف

والإبداع والجهد والمغامرة ، مستسلما إلى أحلامه الميتافيزيقية ، إنه مسكون بالخوف بل الرعب هاجسه الأساسي وهو الذي يمنعه من ارتكاب الوزر ، مؤثرا السلامة ، لائذا بالإحسان في صيغته الساذجة دفعا للإحساس بالذنب ، مطلقا الزمان الذي يأبى في صلف أن يندغم فيه لحساب الماضي وما أشد إيحاء كلمة ” الزوال” في هذا المقطع التي توحي بالتلاشي رويدا رويدا  :

 ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون

يدعو إله النقمة المجنون أن يلين قلبه، ولا يلين

يدعو إله النعمة الأمين أن يرعاه حتى يؤدي الصلاة

حتى يِؤتي الزكاة ، حتى ينحر القربان ، حتى يبتني

بحر ماله كنيسة ومسجدا وخان للفقراء التاعسين

 من صعاليك الزمان .

وانظر إلى كلمة ” الصعاليك” والتي تعني الشعب أو العوام  فهم في وعي ولا وعي الملاح مجرد قطيع من الصعاليك الهمج الخارجين على القانون وهي نظرة استعلائية راصدة لهم من البرج العاجي، والإحسان إليهم إنما يكون بتأكيد قصورهم وتثبيت عطالتهم وذلك ببناء مسجد أو كنيسة أو خان أو إطعامهم إمعانا في إذلالهم وتحسيسهم بالمسكنة لا الارتقاء بإنسانيتهم

والدخول بهم إلى عصر الأنوار .

ومن العناصر الأساسية في استكمال صورة الوجدان العربي من الداخل

 – وهذه القصيدة تعد ” بورتريه” له – يأتي العنصر الجنسي ، وللعربي حنين إليه وعذاب لأجله وفيه حد الشبقية تلك الأجواء التي رسمتها “ألف ليلة وليلة ” و” الروض العاطر” وأشار إليه لفيف من الشعراء العرب

 والمرأة في الوجدان العربي مصدر متعة وفتنة ومبعث شرور اجتماعي كما أنها مصدر عذاب وحرمان جنسي وملاحنا المسكون برغائب جنسية شبقية يحب الجنس ويستقذره  في ذات الوقت ، أي أنه يملك شخصية” الدون جوان ” التي تهوى المغامرة وصيد النساء لمجرد الاستمتاع ثم تبعات ذلك من الإحساس بالذنب وارتكاب الدنس ثم محاولة التطهر منه بصيانة العرض فهو لا يفهم من الشرف غير غشاء البكارة ، إنها شخصية السيد    ” أحمد عبد الجواد ” في ” ثلاثية ” نجيب محفوظ ، وهكذا وقع الملاح فريسة لعقدة ” الفصام” وهي حالة مرضية في الوجدان العربي ناتجة عن ضبابية الموقف و لا علمية الفكرة وتعدي على قوانين الطبيعة

 وانتهاك نواميس الضبط البيولوجي في الجنسين وقد أدى هذا إلى الاعتداء على الأنوثة ذاتا ومعنى والاحتفاء بالرجولة ولو كانت فظة  لا واعية

 وأعطت للذكر سلطات واهمة في ممارسة قهره على الأنوثة أنى وجدها في الإنسان و الكائنات  وإصباغ المعاني الموحية بالعجز والعطالة  عليها وعلى كل ما لا يحب من مظاهر الطبيعة والحياة ، مكتفيا هو من الأنوثة المتجلية في المرأة بجانبها الجسدي مقتصرا في علاقته الشوهاء  بها على الجانب الغريزي وهذا المفهوم المريض سيؤدي إلى حف الرجل نفسه بقافلة من النساء لإشباع نزواته .

وتؤدي هذه الدلالات كلها في النص كلمة” البكر ” وكلمة ” حجاب ” بالنسبة للبنت خضرة، وأما إيثار الذكورة على الأنوثة فهذه العقيدة تفصح عنها دلالات الأسماء ، ولعله من عبث الأقدار أن يجنب الملاح ثلاثة ذكور مقابل بنت واحدة بل حتى الأسماء التي تسمى بها ذكوره لها خلفيات في قرارة اللاوعي فمحمد وأحمد أسماء ذات مضامين دينية وهي توحي بهيبة الدين وسلطانه القوي على العربي ولو كان مثقفا وتثير في النفس حنينا غامضا إلى معانقة الماضي واحتضانه ، ولعلها تكفير عن عقدة الذنب، تلك العقدة التي يحسها الملاح مؤلمة نتيجة عيشه بطريقة مخالفة للنصوص الدينية وفي الصميم حالة الشبقية التي تطوح به ذات اليمين وذات الشمال ثم تأتي دلالة الاسم ” سيد” وهي موحية بهيبة الرجولة وسلطانها المغري الخفي وهي تصم المجتمع العربي عموما بالتحيز للذكورة وإضفاء السلطة والهيبة والجلال عليها مقابل إضفاء صفة العبودية والانحطاط والعجز البدني والدنس المتجلي خاصة في ” العادة الشهرية ” على الأنوثة لتتأكد على مر التاريخ  تبعية المرأة للرجل وقصورها البدني والعقلي والنفسي يقول عبد الصبور :

ينشده أبناءه وأهله الأدنين

 والوسادة التي لوى عليها فخذ زوجه أولدها محمد وأحمد  وسيدا

وخضرة البكر التي لم يفترع حجابها إنس ولا شيطان                                                              ثم إن الملاح مات رمزيا قبل الموت البيولوجي حين اكتفى من الدنيا بالاستسلام لواقعها والإيمان بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، حين رفض تميزه الإنساني بالوثبة الحضارية والفعل الخلاق بل نظر إلى ثمرات المعرفة وأطايب المدنية نظرة الثعلب إلى العنب فلما استعصى عليه ادعى أنه حصرم وهي حيلة نفسية تجنح بصاحبها إلى إيثار السلامة تعبيرا عن العجز بل وخداع النفس بتتفيه الأشياء وهو ما عبر عنه الشاعر بالملح والقصدير :

 أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد

ثم قال :

هذي جبال الملح والقصدير

فكل مركب تجيِئها تدور

تحطمها الصخور

ملاحنا أسلم سؤر الروح قبل أن نلامس الجبل

وطار قلبه من الوجل

كان سليم الجسم دون جرح دون خدش، دون دم                                                                     

حين هوت حبالنا بجسمه الضئيل نحو القاع

ولم يعش لينتصر         

ولم يعش لينهزم !

فهو ملاح زائف إذا لأن جسمه ضئيل والعادة في الملاح أن يكون قوي البنيان هرقلي القامة مفتول العضلات ومقابلاتها الحضارية الوعي الحضاري والالتزام والإخلاص للقضية والرغبة الملحة في خلاص الناس ، مع الاستعداد للمغامرة، أما المشرق البعيد ، فالموصوف هو النهضة والصفة هي الاستحالة أو الاستعصاء في أحسن الأحوال.

إذا مات الملاح حتف الأنف ، من غير شهادة بمقارعة الخطوب وفضل خلاصه الفردي بالجنوح إلى السكينة والرتابة .

ولقد تحول الخوف إلى مارد خرج من قمقمه وأدخل فيه ملاحنا ورماه إلى هاوية العدم حيث العماء والظلام .

ولما تخلى الملاح عن دوره الريادي ترك ركاب سفينته في فوضى وعبثية وجود وعماء مصير وانتفاء قصدية وأسلم مركبه لهبات الريح تتلاعب بها ذات اليمين وذات الشمال مكتفيا ربما بالتوسل إلى السماء أن تكتب له السلامة . فقد مسخت القيم إذا وحال الباطل حقا والقبح جمالا والجهل علما والتقليد شريعة والتخلف رقيا ومدنية ولم تعد الحياة إلا مسرحا للجثث العفنة ، جثث الحيوانات والناس على السواء وهو تعبير رمزي يفصح عنه المثل القديم ” اختلط الحابل بالنابل “

يقول عبد الصبور مختتما المقطع والقصيدة :

هذا زمن الحق الضائع    

لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومن قتله

ورؤوس الناس على جثث الحيوانات

ورؤوس الحيوانات على جثث الناس

فتحسس رأسك !

فتحسس رأسك !

و أما اللغة فجاءت بسيطة من المألوف المتداول غير أنها لا تفقد صفة الشاعرية والإيحاء وقد أفصح الشاعر عن موقفه من اللغة في ديوانه

” الناس في بلادي ” إصرارا منه على النزول إلى القاع محتفيا بهمومه متعاليا على البلاط وشعر المناسبات مصرا على أن الشاعر الذي هو في صميمه إنسان من نتاج القاع وليس القمة.

وأما الموسيقى الداخلية فتنمو متصاعدة بتأزم الموقف وحدة اللحظة ثم تخبو رويدا رويدا  تاركة المجال للتأمل العميق ثم تتصاعد متسقة مع الموقف الجديد،فيطول السطر ويقصر، وأما المضمون الإنساني والوجودي فلا نعرف قصيدة حديثة نعت إلينا الواقع العربي بمثل هذه المرثية الحزينة، وستظل هذه القصيدة شاهدا فكريا وإنسانيا وفنيا ووجدانيا على نكبتنا الحضارية وعطالتنا الفكرية.

ولئن رحل “بروميثيوس” مصر في أوج العطاء مثخنا بالجراح، منهوش الكبد، مسمر الأنامل على قمة الجلجلة فقد برعمت هذه القصيدة في ضمائر بعضنا كما ستبرعم في ضمائر من هم في ضمير الغيب لعل الربيع في دورة من دوراته يعيد الجدب خصبا والصحراء جنة وشجرة الصفصاف شجرة خوخ وينقلب الملاح سندباد يخوض بنا آفاق البحار ويحلق بنا في أقطار السماوات لندخل التاريخ من جديد كغيرنا من أمم العالم الناهضة. 

 

مقالات من نفس القسم