سارة عبد النبي
ما زالت تسري في جسدها القشعريرة عندما تسمع نغمات الكمنجات، صوت مطر خفيف يدق على زجاج النافذة في ليلة شتاء طويلة، ما زالت تعشق الغناء، واستعراضات أفلام أنور وجدي وليلى مراد، تتسلى بتلك بالأشياء وبذاكرتها البعيدة، عن اليأس الذي يسقط في قلبها فجأة، غيرت الأيام فيها كل شيء، وظل القلب مراهقا كما يحلو له.
تذكر بائع الزهور، كنجمة تضوي للحظات في سمائها الحزينة ثم تختفي، تذكر المرة الأولى، اللقاء الأول بينهم على مركب نيلي صغير حيث بدأ كل شيء، والساعة تدق العاشرة مساء، في هذا الوقت تكون أمها في سابع نومة، لو تعلم أنها تخرج مع مجموعة من الفتيات والفتيان لغضبت، لو رأت الملابس التي استعارتها من صديقه لترتديها في تلك الليلة لخاصمتها، لمنعتها من الخروج طويلا، أمها الآن عبرت بها السنوات حيث لم تعد تعبأ بأي شيء، وهذا أضاف حزنا جديدا لأحزانها، وسببا آخر لعدائها مع فكرة الزمن،
لكنها ما زالت تنام مبكرا كالماضي، ما زال كل النساء ينسحبن من الشوارع ومن أمام البيوت قبل هذا الوقت في قريتها، الأبواب تغلق، والأضواء تطفيء، الطرقات تطوي بقايا حكايات اليوم في زواياها الضيقة،لا يظل فيها سوى السكون وعتمة الليل،
أما في هذا النيل الواسع كانت الحياة تبدأ كل يوم في هذه الساعة، مرة وحيدة ذهبت إليه ولم تنساه، عشرات المراكب كأنها في مرمى بصرها الآن، ضحكات الأصدقاء، العشاق، النساء والرجال، مرحة متطايرة، تحملها نسمات الهواء من هنا وهناك إليها، تحتفظ بها للحظات في أذنها قبل أن يطمرها الزمن بعيدا، تذكر مزيج عجيب لمقاطع حزينة من أغاني أم كلثوم، يؤديها مغني بائس بصوته الخشن، ينشز على مزيكا راقصة مزعجة، الغريب أنها تحن لذلك الصوت الآن، (وإزاي يا ترى، أهو دا إللي جرا وأنا أنا أنا أنا أنا معرفشي )، كأنه يصف حالته تماما، كيف يغني وهو لا يعرف أي شيء عن قواعد الغناء، تضحك بصوت عالي ثمل بمتعة التجربة، تشرح لأصدقائها الأفيه ويكملون الضحك معا، كانت مرحة قادرة على السخرية من كل شيء في أي وقت، وتلك الليلة كانت جميلة بحق، هى والأصدقاء وسط احتفال بسيط بعيد ميلاد شخص لم تعد تعرف ماذا فعلت به الأيام، ثم ما الذي حدث وحول تلك الليلة لذكرى مليئة بالشجن،
هو، حضوره، وقف يتأملها من بعيد، لا يعرض زهوره على الباقين، ثم اقترب بحذر، عبر بين أجساد الفتيات المراهقات التي يرقصن بمهارة وليونة مدهشة، وجدته أمامها لا ينطق، الأضواء بألوانها المتداخلة جعلت وجهه كتمثال حجري مطموسة ملامحه، نظر إليها مأخوذا يفيض شوقا، لم تدري ماذا تفعل غير أنها اشاحت بوجهها للمياه الصامتة، خجلا ممزوجا برهبة برق بداخلها، حلقات صغيرة منفصلة تعلو وتهبط في مقدمة رأسها سببت دوارخفيف، أرادت انقضاء هذه اللحظات سريعا، أما هو فلم يتراجع عن جراءته، انتقى وردة جميلة بيضاء من صحبته، مد يده لها، لم تلتفت، مضت ثواني كأنها ساعات وهو يمد يده، وضعها بجانبها وبصوت هامس كالبكاء قال هذه لك، تمنى لو امتدت يدها ليده، لو أخذتها، لو بادلته نظرة، تمنى لو ذاق منها طعم الوصال، في لحظة لم تدركها اختفى، لا تدري كيف، بحثت عنه بعينيها لم تجده، رحل للأسف، قبل أن ترى ملامحه جيدا، كل ما تذكره في ذلك اليوم أنها رأت ضوء أزرق، وسمعت صوتا مذبوحا بالتعاسة، لماذا فعل ذلك بكل هذا الحزن، لا تعرف، دليلها الوحيد على وجوده منذ لحظات في محيطها، وردة بيضاء بجانبها تصارع هجمات الهواء القوية حولها، تلملم أوراقها الضعيفة وتتماسك، ظلت يدها مترددة في أخذها حتى سقطت فوق المياة طافية، مودعة حزينة، لاحقتها دمعة نزلت لضياعها السريع هكذا، أول وردة يهديها رجل إليها حملتها الامواج بعيدا، حينما اختلت لنفسها وكانت وحيدة جدا، شعرت بالغربة في ليل هذه المدينة البعيدة عن أحضان امها، بكت، نظرت لنفسها في المرآة، كيف لهذه الملامح التعيسة الباهتة أن تقع سريعا في قلب رجل غريب،،،
ظنت أنها لن تراه مرة أخرى، ابتسمت رغما عنها عندما طل وجهه متلهفا من خلف صحبة الورد الندية، ملامحه واضحة هذه المرة، تخيلته أكثر شبابا، ولكنه وسيما في كل الأحوال، ملابسه على بساطتها متناسقة نظيفة، فقط شيئا مخيفا في وجهه لا تعرف ما هو, يجعلها تنفر منه،
اعتقد أن وراء ابتسامتها شيء، فأصبحت خطواته ملتصقة بكل الطرق التي تخطوها، متيما مجذوبا يطاردها في كل مكان تذهب إليه، محطة الأتوبيس، مكان عملها، حتى أنه مر ليلا من أمام بيتها عدة مرات، تملكه هوس مجنون، أصبحت تخشاه، ولكن لم يمنعها هذا من الشفقة عليه أيضا، يجب أن يعلم، لا شيء واحد في هذا العالم سيجمع بينهما يوما، حقيقة تعلمتها ولن تنساها أبدا، لأنها مثله تماما، عاشقة لآخر، أسمر نحيل، يسكن مدينته التى هجرها هو من أجلها، انجرفت في محبته بلا عقل منذ سنوات، محبة مراهقة تخجل أحيانا من ذكرها بينها وبين نفسها، صنعتها الحروف الصماء، وخيالات الصورالجميلة، غيابه الطويل وأصابعه البخيلة في الكتابة، مقالاته الرصينة التي تعيد قرأتها بانتظام، ذوقه في المزيكا الذي يشبه ذوقها، لكنها تدرك جيدا أن الطرق لن تجمعهما يوما معا، وهى أكثر حرصا على ذلك، حتى لا يرى الفتاة العادية، العادية جدا بطريقة مؤلمة، لا شيء مميز على الأطلاق، نصف جمال، نصف ثقة، نصف موهبة مكررة متعثرة،
حتى لا يشعربالمسافات التي اتسعت بينهم، عندما كان صغيرا يصرخ في الميدان، تحمله الجموع وتمضي في طريقها، كانت هى لا تزال في أحضان أمها، تتمتم بالأدعية وتبكي ، أكلت شوارع المدينة قدماه بحثا عن أحلامه، عن حياة يرضى فيها عن ذاته، مغادرا أحبابه خلفه لا يلتفت، أما هي، تتوه لو خطت بعيدا، تتلو نصف ما تحفظ من القرآن عندما تركب سيارة أجرة وحدها، وتظل ممتنة للصدف التي نجتها، مضت بها الحياة مقيدة بالتجاعيد المحفورة على وجوه من حولها، مقيدة بميراث قديم من الحكمة المزيفة، بميراث قديم من خانات الصواب والخطأ، الممكن والغير ممكن، تصورات ثابتة لعقول عجوزة عن الحياة كيف لابد لها أن تكون،
كان هو يقرأ في التاريخ والسياسة والأدب، وهي تهمل كتبها على أرفف مكتبة محملة بالغبار، تضع سمعات كبيرة في أذنيها، تصنع من خدر الأغاني وهما لذيذ أمتص كل حياتها بداخله،
صورته بجلبابه الأبيض في أحد الأعياد، خلفه حقول قرية تشبه قريتها تماما، ضمته لطفل صغير يشبهه كأنه ابنة، أحلامها المتكررة بوجهه، ببكاءه بين يديها، بسيجارتة المشتعلة دائما، به يفكر، يكتب، يجلس قريبا جدا منها، يلتصق ذراعه بذراعها، تمتلأ عينيها بابتسامته، تمتلأ أذنيها بصوت خطواته، يمشي في الليل معها، في طريق خالي، ونسا، وشوقا قائما في قلبها يجرحها، تلك الأشياء كلها جعلتها تعرف ما الندم،
تود لو تقابله على هواها، كما تعودت أن تفعل عندما تشتاق، في كتاب يقرأه هذه الأيام، في أغنية يسمعها باستمرار، فيتمهل ولا يقفز سريعا بين السطور، فيتمهل ولا ينشغل عن النغمة المكررة المسيطرة بباقي اللحن الأجوف، فيتمهل ويلتقط وردة بيضاء وضعتها بجانبه ويبتسم لمعنى الهدية الحزين،
لكل ذلك تشفق على هذا الرجل الذي هجر دنياه، ناذرا نفسه فقط للقائها العابر، الذي لا يروي فيه ظمأ، كادت أن تصرخ في وجهه يوما حتي يكف عن ملاحقتها كرامة لسيدنا النبي،
كانت تتعثر عندما يصعد خلفها الأتوبيس، لا يجلس أبدا، يظل واقفا أمامها كالصخر، يطلق من عينيه هذا الضوء الغامض، يحتضن كيانها الضئيل بزرقتهما المخيفة، يتعلل بالزحام لتحمل زهوره بدلا منه، خشية أن يفقدها وسط الأجساد المتلاحمة، يسقطها في أحضانها دون استئذان، يظل طوال الطريق يدندن ألحانا مألوفة، وعلى وجهه تعبير كأنه يستعد ليؤم صلاة وشيكة، الحب من غير أمل أسمى معاني الوجود، خطأ، خطأ فادح لو تدري أيها الفتى، لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها الصحيحة، لما تمتلأ الأغاني بكل هذا الكذب، الحب من غير أمل أبلغ معاني الخيبة،
يوما ما انقطع عن عادته فجأة، أحست بوحشة الطرقات من دون صحبته، تمنت لو تلقاة لمرة أخيرة، اشتاقت لصوت خطواته تدور حولها، لشقاء وجهه يواسيها، لرائحة أزهاره في أحضانها، تحققت الصدفة بعد سنوات، رأته يرتدي حلة صفراء وفي يده صندوق خشبي به تذاكر وعملات معدنية وورقية، ينادي من داخل أحد أتوبيسات المدينة، وقد تخلى عن زهوره، مسافرا للأبد،
أصبح نحيفا، عبوسا، زرقة عينيه أكثر شراسة، ذقنه صفراء مسترسلة، أكلت الشمس وجهه وطبعت أشعتها على جبهته، بدا أكثر غرابة في مهنته الجديدة، لم يلحظها وهي تتأمله في هدنته البسيطة، تركت هذه الصدفة بداخلها شعورا عميقا بالحزن والآلم..
أحيانا تستدعيه لغرفتها ليلا، عندما تحتاج لرفيق تشكو له، تغمض عينيها أسفا لو ظهر لها بصورته الأخيرة، وإن جاء كما عرفته قديما تبتسم له، تعتذر طويلا، تدعوه للجلوس، تتباسط معه في الحديث كصديق قديم بينهم ذكريات وأسرار، وهموما متشابهة، تغني له أغاني كثيرة، كلها تتغزل في رجل أسمر، ينزوي وينسحب في صمت وحسرة ولا يعود لها مرة أخرى…