محمد فرحات
منذ زمن ليس بالبعيد لم يكد عم إبراهيم عبده يفرغ من عمله في الأراضي الواسعة لولي الله العيساوي، مثل فراغه الآن، لا لأن الزمن ليس بموسم تسميد أو تخضير أو ري أو حصاد، ولكن لأن الأرض التي كانت يومًا واسعة، ضاقت فضاقت ثم انحصرت فلم يعد منها غير قراريط لا تُعَدّ، حتى على أصابع اليد الواحدة.
وكان عم إبراهيم أسود اللون، ضخم البنيان، كبير الرأس، طويل الذراعين مفتولهما، وسيع الكفين، ينظر إليك من عينيه الضأيلتين باندهاش مستمر لا ينقطع، حتى ولو قابلك في اليوم الواحد مرات عدة، يسلم عليك، فيهز يديك بشدة، على سبيل الترحيب، مُرددًا اسمك واسم عائلتك، مُستفسِرًا عن حال أبيك، وفي بعض الأحيان عن صحة أمك، يسأل عن أحوالك وأحوال أولادك، يحبه الجميع ويحبون هيئته الغريبة، ويباسطونه، ويحلوا للجميع مداعبته، ومضاحكته.
ومنذ أخذه عهد البندارية من يد شيخه العيساوي، وهو في حال من البسط والأنس، خاصة وقد استقر السيد العيساوي في البلدة بعد حصوله على العالمية الازهرية، ولم يكن من شئ أحب إليه غير خدمته، ومحادثته، وسماعه لمراجعته دروسه، أو متابعة ما يلقيه في الجامع الكبير من أحاديث نبوية.
وكانت زوجة العيساوي قد انتقلت من زمن ليس بالقصير، ولم يعد له ممن يخدمه في الدار أو يلبي احتياجاته البسيطة، خاصة وأن ولده السيد كثير الترحال بين البلاد يعلم، ويعظ وينشر حديث رسول الله، فكان يراوح في قراءته بين صحيحي مسلم والبخاري، ثم ينطلق في إلى القاهرة لمقابلة مشايخه وأقرانه بالأزهر ، خاصة صديقه العزيز صالح الجعفري فكلاهما لا يطيق بُعدًا عن الآخر.
وفي ذات ليلة حلب عم إبراهيم عبده البقرة الوحيدة لدى الشيخ العيساوي، ودخل عليه ببعض لبنها، وبعدما فرغ الشيخ من شرابه، مازحه قَائِلًا ” يلزمك زوجة في الدار ياشيخ، فخدمة رجل مثلي لمثلك تدخل الوحشة على قلبك؟”، فابتسم الشيخ متسائِلًا” وهل لديك عروس يافالح؟” فقال” وهل لي غيرها أختي، أزوجها لك ياشيخ..” وكانت أخته أشبه الناس به لا تقل عنه سَوَادًا، وَإِنْ كَانَتْ بِالطَّبْع أَضْعَف جَسَدًا ، وَأَقَلّ طُولًا وَعَرْضًا.
وكان السيد الجليل الشيخ العيساوي يحب عم إبراهيم عبده ويوقر إخلاصه في خدمته، خاصة وكان أول من أخذ العهد البنداري على يديه بعد أن أذن له البنداري في ذلك، فكان يعده أخًا للسيد ولده، كان العيساوي كَارِهًا للعصبية القبيلية والعائلية، كان يود لو قرب بين صغار العائلات وعائلته الكبيرة الثرية، عتيدة الأصل والمنشأ، فاستحسن العيساوي ذلك ورأى وجاهة اقتراحه، خاصة وأنه يحقق أكثر من هدف في وقت واحد.
فتزوج العيساوي من أخت عم إبراهيم عبده، وبعد أيام جاء عم إبراهيم لزيارة أخته، فقال لها مَازِحًا ” أريد من طعام عرسكما يا أختي؟!” فأسرعت أخته بإحضار الطعام، الذي لم يتعد كسرة من الخبز الجاف، وبعض الملح، ولما أبدى عم إبراهيم استغرابه، قالت” والله ما أكل الشيخ، ولا أكلت غير ذلك منذ ثلاثة أيام. “
***
وكان الشيخ عبدالحليم طولان، والشيخ علي زهران صنوان وإن فرقت بينهما البلدان. أولهما كان من عائلة الشيخ العيساوي، وثانيهما كان من أكابر تجار الأخشاب بمنوف، وكلاهما كان من أحباب الشيخ، ومريديه الأكابر وكان الشيخ عبدالحليم من حملة العلم الشرعي، لم يكن يترك من واردة، ولا شاردة إلا وأخضعها لأحكام الشرع، فكانوا يحتكمون إليه في المواريث والمعاملات وحساب الزكاة وغيرها، وكان الشيخ علي زهران رقيق القلب، جياش المشاعر، يبذل من أمواله ومكانته في خدمة إخوانه، وبالرغم من أن الكرم آفة التجارة، إلا أن تجارته كانت في اتساع وازدهار دائمين، وكلما زاد بذله، زادت عائداته، واتسعت تجارته.
اجتمع الأقران الثلاثة بالرغم من اختلاف المكانة و الحسب؛ إلا أن المحبة والعهد قد أزالا ما قد يفرقهم من مكانة وحسب و غنى، وكان ثالث الاثنين عم إبراهيم عبده؛ كُلٌّ يحكي عن حاله، إلا أن عم إبراهيم عبده بغتهما فحكى لهما عن شخص بهي الطلعة، رَجِل الشعر وافره على غير عادة الفلاحين، كحيل العينين واسعهما، ربعة، بعيد ما بين المنكبين، لا هو بالقصير البين، وإن كان يميل للطول، ويتحدث كالأفندية، يقصد أنه يتحدث بالفصحى، وعلى الرغم من ذلك فكان عم إبراهيم عبده يفهم ويعي كل كلمة يقولها. فسأله عم عبدالحليم طولان، إن كان يراه في اليقظة أم في المنام، فأجابه أنه يراه في اليقظة على رأس حقل الشيخ العيساوي الذي يعمل به، فأخذه الشيخ عبدالحليم والشيخ علي زهران كلاهما قد أمسك بيد، وأسرعا به إلى خلوة الشيخ يخبراه عن قصة عم إبراهيم عبده، فقام عم العيساوي يعانقه، ويهنئه بمقدم رسول الله عليه، فبادر عم إبراهيم وقال “يخبرني أن الأرض لن تأكل جسدي بعد موتي ياشيخ!”، فقال له العيساوي “صدق..صدق…”، ثم قال العيساوي “قد سبقكما إبراهيم لا بعلم ولا بمال ولكن بحلال المأكل، وبطيبة القلب، ومحبة تزن جبل المقطم لكل خلق الله…هنيئا لك يا إبراهيم…”
ومن ساعتها علما أن ما وقر في القلب، يفوق ما رَكَزَ في العقل، أو ما تراكم في الجيب.
***
وكأنها كانت ترنيمة سحرية قد أُّلْقِيَت على قلب كل من سيدي الشيخ عبدالحليم طولان، والشيخ على زهران، أما العم إبراهيم عبده فقد أقام له خُصًّا من عيدان الذرة مجدولة بحبال من التيل، ومسقوفة بأعواد القطن اليابسة على رأس حقل سيدي العيساوي، في المكان الذي التقى فيه بالمحبة والسلام، لم يعد عم إبراهيم من أهل الدنيا، تمر عليه الأيام بدون لقمة أو شربة، وكأن الجنة قد تعجلت أوانها قبل الأوان بأزمان طويلة، يهيم بتسبيحاته، يرنو دَائِمًا للسماء فلم تعد الأرض له بمستقر، يأتيه المكروب بكربه، وذو الحاجة بحاجته، والمريض بعلته، وماهي إلا ثَوَانٍ يرفع فيها العم إبراهيم عبده يده للسماء، فيخرج الجميع من كوخه رَاضِيًا مَرْضِيًّا، وكأن يد الكرب أو الحاجة أو المرض لم تمسهم ساعة.
وتعلق قلب الشيخ عبد الحليم بالعرش من ساعتها، وكلما مر عليه نفر من الأنس أو الجن أو ملاك يبحث عن عنوان ما، حتى صافحوه طمأنينة، وابتدروه السلام، فزاد إيمَانًا على إيمانه، وَيَقِينًا على يقينه. ورافق الشيخ السَّيِّدُ عبد الحليم السَّيِّدَ العيساوي، هذا يحدث الناس بحديث النبي وهذا يفقه الناس، حتى فقه الفلاحون بشمياطس، وعجب أهل القرى من علومهم، وذات يوم رافق بَعضَ الازاهرة المعممين من بلدة أخرى فسمعهم يتجادلون في صحة رواية حديث من عدمها فبادرهم الفلاح الأمي قَائِلًا ” كيف تتمارون في حديث رواه الامام مسلم في صحيحة!” فتعجب الأزاهرة فكيف لعم محمود الصعيدي الفلاح البسيط الذي لم يتلق من العلم بمعاهده ولو قَدْرًا يَسِيرًا، وعلى ندرة الكتب والصحاح المطبوعة وقتها، ولكن زال العجب حينما علموا ملازمته مجالس الحديث والفقه للشيخين السيد وعبد الحليم، أصبحت بلدة العيساوي البنداري منارة للعلم والولاية، ولما علم الشيخ السيد بذلك ابتهج وقال ” إن هذا والله من فضل الله، ولو أملك فدانًا من الأرض لبذلته إطْعَامًا لأهل الله…”
أما الشيخ علي زهران فقد رق قلبه، واستجابت دموعه لرقة قلبه وانفعلت، ود لو يصفي تجارته ويمكث بجانب أحبابه يخدمهم، ويقتبس من أنوار قريتهم الصالحة، ولما استأذن الشيخ قال له برقة” ولايتك في أمانتك وعطائك، انطلق ياعلي لتجارتك ولايفتر قلبك عن ذكر الله…”
فسمع عم علي زهران وأطاع، وحينما أرقه الشوق، قام في ظلمة الليل يكتب خِطَابًا لشيخه، يبثه الاشواق والمحبة، وظل مُمْسِكًا بالقلم ، كيف يبدأ الخطاب، وكيف يبثه الأشواق، وبعد ساعات طوال، وضع الورقة بيضاء كما هي في مظروفها، ولما وصل الخطاب لشيخه العيساوي، ضحك مُرددًا قول مولانا النفري” إذا اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة” “ما حسبتها وما حسبها النفري تضيق لهذا الحد، لله درك يا ولي الله ياعلي يا زهران”
وهكذا كان عم إبراهيم عبده أسود الوجه، ناصع بياض القلب، ما أمتلك يَوْمًا ذَهَبًا ولا فضة ولا ذرات من طين، عتبة الولاية لأخويه الشيخ عبد الحليم وللشيخ علي زهران