منير عتيبة
القارئ السكندرى مثلى سيتلقى مجموعة (زار) لهبة خميس (سلسلة كتابات جديدة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، أغسطس2017) بطريقة مختلفة عن أى قارئ آخر، فمعظم قصص المجموعة تدور فى شوارع الإسكندرية، ومقاهيها، وترامها، وقطار أبى قير إلخ. لكن القارئ العام سيستمتع بالمجموعة أيضا لأسباب كثيرة، ربما منها أنه سيتعرف على كل هذه الأماكن بشكل مختلف.
تستخدم هبة خميس فى قصصها (عين الكاميرا) معتمدة على الوصف الخارجى بخطوط عريضة ليكون لقطة، ثم تترك مسافة بيضاء فاصلة لترسم اللقطة التالية بنفس الطريقة، وعلى القارئ أن يفهم من تتابع اللقطات كل شئ عن العلاقات والمشاعر الجوانية والأفكار، فالكاتبة تقدم قصصا لقارئ عليه مشاركتها فى إنتاجها.
تجيد الكاتبة استخدام ضمائر الحكى، والتنقل بينها بما لا يربك القارئ بل ينبهه ويوقظه ويشركه فى بناء الحدث، كما تجيد استخدام الجملة القصيرة التى تكون لقطة سينمائية يسهل على المتلقى رؤيتها أمام عينيه، وربما تكون اللغة التى تستخدمها الكاتبة فى هذه المجموعة هى أهم نقاط قوتها، فهى تستخدم لغة أقرب إلى الفضفضة المبللة بدموع اعتراف صادق لكنه غير خجول بل تصادمى أحيانا، وفى الوقت ذاته الجملة القصصية غير مترهلة، والمشهد بلا زوائد فى أغلب الأحيان.
ربما اللافت فى هذه القصص بالنسبة لى هو نهاياتها، فمعظم القصص ذات نهايات غير منتهية، نهايات مفتوحة، لغرض أساسى هو تعميق واستمرارية ما يعانيه شخوص القصص من ألم وحزن وقسوة الحياة عليهم، نادرا ما تمنح الكاتبة القارئ أملا فى حل إشكالية شخوصها، وإن تمنحه يأتى خياليا لا يمكن حدوثه فى الواقع، فيعمق لدى القارئ إحساس استمرار القسوة الواقعية التى تعانيها شخوص القصص.
ففى قصة (على) المروية بضمير الراوى العليم نرى الفقر الشديد يدفعه للعمل فى بيع المسبحات للسياح، يحاول أن يمارس طفولة ابن التاسعة وشقاوة الطفولة وهو يبيع، يتطاول على زبون مصرى، يضربه الزبون وبعض المارة، وتنفرط المسبحات فى الأرض، وتكون النتيجة ليس فقط لما حدث فى هذا اليوم بل فى حياته كلها الماضية والمقبلة (يمضغ فطيرته المعجونة بطعم دموعه المالحة وصدأ دمه النازف).
وفى (أرجوحة) المروية بضمير الراوى العليم أيضا نرى الرجل قصير القامة الذى يحلم بالطيران، يدخر كل ما يستطيع ليشترى أرجوحة تطير بالأطفال فيشعرون بالخفة، يضع أرجوحته فى حديقة ميدان كانت تستخدم كإسطبل لعربات الكارو، ينظف الحديقة وتتحول إلى حديقة ملاهى متنقلة، لكن أصحاب العربات الكارو يعودون، يتعايش الجميع معا (إلى أن يأتى صاحب الأرجوحة ويقرر دفع عربة الكارو بعيداً عن الأرجوحة، فتتحرك الأرجوحة بفعل المطر لتستقر على جسد صاحبها تاركة منه علامة بالمطواة على وجهه وقصر قامة مهشم).
ويتحدث الراوى العليم فى قصة (خواء) عن مريم البنت غير الجميلة العاشقة للموسيقى والتى تضع سماعات الأم بى ثرى فى أذنها طول الوقت، والولد الأشقر الذى يحاول لفت نظرها على محطة الترام باعتبارها أقل البنات امتيازا وبالتالى لن يتصارع معه أحد عليها لأنه أضعفهم ويخشى الهزيمة دائما، مريم لا تلتفت إليه، فيدفعه أقرانه إلى شد حقيبتها أثناء ركوبها الترام، فتسقط (طرف سماعات الإم بي ثري لم يفضي إلا إلى خواء وعلبة التوفي المستورد كاملة قد تساقطت واحدة تلو الأخرى). لم تطلب مريم من الحياة أكثر من المتع البسيطة التى لن تضر أحدا، سماع الموسيقى وأكل التوفى لأنها لا تجيد طرقعة اللبان مثل باقى بنات ثانوى صنائع، لكن القسوة ممثلة فى شلة الأولاد تدفع الولد الأشقر إلى أن يفقدها ما تتمتع به بحركته الصبيانية. القسوة ليست فقط فى الأشياء الكبيرة، القسوة الحقيقية عندما يتم طعننا وإفقادنا متعنا الصغيرة التى نحيا فعليا عليها.
وتقدم الكاتبة قصة (أسطورة معادة) بضمير المخاطب الذى يناسب بطلا للقصة لم تعد لديه قدرة على الفعل، حيث يبدو البطل رقما صغيرا تائها وسط زحام تفاصيل الحياة اليومية فى الشارع والحارة والباص، منذ استيقاظه حتى نومه حتى استيقاظه فى اليوم التالى، حياة مكررة مملة مثل أهل الشاعر المتشابهين حد الملل، حتى نفحة الإحساس البسيطة المتمثلة فى المحشو الذى ترسله أم زينب إلى أم البطل، وكأنه مرسال ود ما، يأكله البطل بتلذذ ثم يتقيأه، وكأن التلذذ أو الحلم بشئ خارج اليومى الممل والمعاد والمكرر ممنوع عليه تماما، إنه يعيش أسطورة من التكرار والإعادة حتى الموت ولا أمل فى الخروج من الدائرة ولا أمل فى أن تتغير التفاصيل اليومية المعادة (حينها يتوقف الشارع للحظات ثم يكمل إيقاعه، ينزل عم يوسف من بيته، تحمل أم زينب حقيبة السوق، ينطلق صوت عبد الباسط من مذياع عم علي ويفوتك باص الشركة).
وفى (ميس الريم) نجد الحياة التى تبدأ جميلة واعدة خارجة من رحم أغنية لفيروز تتسمى بها الطفلة ريم، ثم تنحدر وقائع الأيام الصعبة، لتبيع الأشياء البسيطة لزبائن القهوة التجارية، ثم يتحرش بها عامل نظافة دورة المياه الرجالى التى اضطرت أن تدخلها لأن الدورة النسائية مغلقة دائما وكأن أبسط حاجات النساء ليس لها أن تلبى فى هذا المجتمع، ويتم طردها فلا تبيع فى المقهى، لكنها (لم تكسب سوى سبة تمررها كل يوم لقهوجية التجارية ببداية جولتها الصباحية وانتهاء جولتها المسائية لتذكر كل زبائن التجارية بضرورة فتح باب دورة المياه الحريمي وقفاً لتحرشات القهوجية بالفتيات وأصوات الصراخ المعتادة من دورة المياه الرجالي).
ونر فى (تدبير) مشاهد متتابعة تبدأ كلها بكلمة لو، فتنفى ما لم يحدث لتؤكد ما حدث معتبرة إياه من تدبير الأقدار، الولد الفقير الذى انتهى أمره إلى الشارع، والولد ابن المدرس الذى فلت عياره وانتهى أمره إلى الشارع، والبنت التى انخدعت بتمثيل الولد الفقير فأعطته كل ما تملك، لا يوجد تعليق من الكاتبة على الأحداث، فكما المونتاج التتابع هو ما يعطى المشاهد صلتها بعضها ببعض ويمنحها المعنى النهائى، لكن التعليق يكمن فى طريقة كتابة القصة التى تشير إلى أنه (لو) فعلنا ما يجب أن نفعله لما حدث ما حدث وما ندمنا عليه بعد ذلك.
وفى قصة (الحياة الأخرى لابنة الجيران بالأسفل) التى يرويها الراوى العليم يتم تحديد البطلة بأنها ابنة الجيران، حيث تحكى الساردة عن العالمين المتوازيين اللذين تعيشهما البطلة، العالم الواقعى الجامد الضيق الممل الكالح الوجوه، وعالم الحلم المراوغ الذى لا يريد أن يكتمل، يتداخل العالمان حتى إن الحبيب المنتظر طويلا يمر أمامها بالفعل، ويحدق فيها، لكنها تكون مشغولة عنه بشراء دبابيس جديدة، كأنما اعتادت على أن تأخذ ما يوخزها ويؤلمها ولم تعد قادرة على رؤية ما يسعدها (وأنها حينما جمعت بينهما صدفة في المنشية كانت مشغولة بشراء دبابيس أخرى من البائع نفسه ولم تنتبه أن الذي مر أمامها محدقاً كان هو الذي انتظرته يوماً أسفل حصان محمد علي) لو لم تحدد الكاتبة كنه البطلة كابنة الجيران لكان الراوى العليم ضميرا مستساغا، فلا يمكن أن تروى مثل هذه القصة بضمير المتكلم، لكنها أيضا يصعب روايتها بالراوى العليم هنا لأنه راو مشارك، هو أو هى ابن أو ابنة الجيران المتلصص (ة) على عالم ابنة الجيران، حيث تحكى القصة ما يصعب أن يعرفه متلصص خارجى عن الشخصية، بما يمكن أن يعطى تأويلا أن انفصام البطلة أصبح ثلاثيا لتحكى عن نفسها وكأنها شخصية أخرى.
وبرغم أن قصة (عجلة) لا تتجاوز الصفحتين إلا أنها رويت باستخدام ضمائر أربعة، فهى قصة أصوات بامتياز، القصة لا توضح فقط إن الحقيقة لا يملكها فرد واحد، لكنها تشير بشكل أعمق إلى غياب الحقيقة نظرا لسوء ظن الرواة بعضهم ببعض، فزوجة المرحوم لا تثق فى أخواته العوانس، وهن بدورهم لا يثقن فيها، وكل فريق يظن أن الفريق الآخر هو الذى سرق أسنان المرحوم الذهبية، لكن الحانوتى يعرف أن الفريقين بريئين، وأنه ترك الجثة قليلا مع صبيه ليذهب إلى دورة المياه، أما الراوى الرابع فهو الراوى العليم الذى يصف مشهد صبى الحانوتى وهو يركب دراجته الجديدة التى حصل على ثمنها من رومانى الجواهرجى مقابل الأسنان الذهبية، (ولايزال يلعب بها في آخر الشارع ) وهى الحقيقة الواضحة التى لن يعرفها أهل المرحوم أبدا بسبب الثقة المفقودة بينهن. وقد لعبت الكاتبة بضمائر السرد حيث جعلت الأصوات الثلاثة الأولى تتحدث بضمير المخاطب وكأن القارئ هو القاضى التى تفضى أمامه بما تعرف، فالقصة ليست قصة اعترافات ليكون الراوى متكلما، ولكنها قصة اتهام تحتاج إلى من تتحاكم إليه الأصوات فكان هو القارئ، أما الصوت الأخير فهو الراوى الخارجى غير المشارك الذى يعرف الحقيقة المجردة ويلقى بها أمام القارئ حتى لا يتوه فى دوامة الأخبار المتناقضة للأصوات السابقة.
وفى (دوران) صوتان يرويان بضمير المتكلم، القصة تقع تحت ما يسمى الميتا سرد، فهي سرد عن السرد، أو كتابة عن الكتابة، لكن الكاتبة لم ترد أن تجعلها هكذا ببساطة، بل خلقت صراعا بين بطلة القصة التى تريد أن تحكيها هى ولا تمانع أن يحكى الراوى نيابة عنها أيضا، وعن الراوى الذى يفضل أن يحكى هو القصة فتلك وظيفته، لكن الصراع الذى يبدو بسيطا ليس كذلك بالمرة، فهنا الصراع فى أحد مستوياته يدور حول سؤال من يحكى، وفى المستوى الثانى أى الحكايات أقرب للحقيقة أو لما حدث بالفعل، لكنه فى المستوى الأعمق يتمحور حول سؤال هل توجد حقيقة أصلا أم أن منطق الحكاية يختلف تماما عن منطق الحياة الذى يمكن (منطق الحياة) أن يكون أكثر جنونا.. ولا يتم حسم الصراع فلا تملك الفتاة الحقيقية أن تقول الكلمة النهائية ولا يملكها الراوى المفترض أيضا والذى يطلب من الفتاة (قلت لكِ إن الحكاية أبسط من مراوغتك. فاتركيني أكتبك في حكاية أخرى، حكاية جديدة تماماً عن الأميرات والجنيات والمطر، واستكيني تماما.ً ) والتى يبدو أنها لن تستجيب ولن تستكين له أبدا، لتظل القصة مفتوحة على سؤال أيهما أكثر صدقا الواقع الذى نقول إنه حدث أما ما نحكيه كأنه حدث؟!
(مراوغة) هى قصة (ميتا سرد) أيضا تروى بضمير المتكلم، كاتبة تخطط لكتابة قصتها الجديدة عن فتاة يخضع لها حبيبها لأنه يحبها، ويود امتلاكها شخص فى غاية الثراء، لكن البطلة لا تترك الكاتبة تخطط لها حياتها، بل تتحدث بنفسها مهاجمة الإنسانة فى الكاتبة، ترفض أن تكتب لها قصتها حتى لا تشبهها هى فى النهاية، تريد أن تختار لنفسها لا أن تختار لها الكاتبة التى لم تعرف كيف تختار لحياتها هى شخصيا. أرى أن الفقرة الختامية جعلت القصة مغلقة بشكل ما إذ تقول (أرسم تفاصيل قصة أخرى لبطلة لن تشبه تلك البطلة بالتأكيد، ربما سأكتبها يوماً ما، أو أكتبني، فكلانا كان واحداً في النهاية، وكلانا سيعقد اتفاقاً ما مع الوحدة، وسيقنع بأن كونه طائر محلق هو أفضل النهايات المحتملة.) بينما الفقرة التى تسبقها تعطى القارئ أفقا أوسع للتفكير والتفاعل مع القصة حيث تقول (أطوي أوراقي، وأغادر قطاري، أحذف احتمالات كتابة تلك القصة، وأقنع نفسي بالكتابة عن الناس، والقطارات، وانتحال مشاعر الآخرين، والتحايل على النهايات المألوفة بجعلها أقل واقعية.)
ويشغل الموت تفكير البطلة فى (ورق) حتى يسيطر عليها تماما، تخشى الحب، تخشى بناء حياة بالزواج، لأنها تفكر دائما فى النهاية، تنتظر من عليه الدور ليموت فى أسرتها ومعارفها، كأنها تعد على الموت خطواته، تخشى الفقد عموما، حتى إنها تصر أن لا يكتب حبيبها عنها لأن (كتابتنا تعني رغبتنا القوية في النسيان، أظنني لم أحب أن يختصرني في كلمات -رغم روعة كلماته). فى آخر ساعة من العام تنتظر الموت، وتتأجج بداخلها رغبة عارمة فى مقاومته، تشعر أنها انتصرت عليه ببقائها وحيدة، فلن يحدث شعور الفقد بسببه، لكنها تنفخ من روحها فى العصافير الملونة التى صنعتها من رسائل حبيبها، فنبت لها هى الأخرى جناحان ملونان وطارت بعيدا عن الموت والفقد، لكنه يبدو ابتعادا عن الحياة البائسة التى فرضتها على نفسها بسبب خوفها المرضى هذا، هربا إلى مجهول قد يكون أقسى، أو إلى الموت ذاته الذى لا مفر منه، لكن نهاية القصة تفتح الباب على كل الاحتمالات. هناك مراوحة فى ضمير السرد بين الراوى العليم، وضمير المتكلم، وكأن الكاتبة تريد أن تعبر الشخصية عن نفسها، وفى الوقت ذاته تشرك القارئ فى الحكاية اعتبارها حكايته أيضا، وكأن الراوى العليم هو مندوب القارئ فى حكى بعض أجزاء القصة.
وبرغم أن (ارتكاز) قصة من صفحة واحدة، تستخدم فيها الكاتبة ثلاث ضمائر للحكى، ضمير المخاطب حيث تخاطب الساردة البطلة، وضمير المتكلم حيث تعبر البطلة عن بعض أفكارها ومشاعرها، وضمير الراوى العليم يأتى بين أقواس وكأنه نميمة تقولها الساردة للقارئ بعيدا عن سمع البطلة، ومع ذلك فإن هذه الانتقالات لا ترهق القارئ بقدر ما تجعله منتبها ومتيقظا ومحيطا بالعالم الخارجى والداخلى لبطلة القصة، ومتورطا لأن يكون صدره نقطة الارتكاز التى تمنح البطلة الدفء وتحصل منها على الدفء أيضا، بعض أحداث القصة فى ترام الرمل، بعضها فى قطار أبى قير، بعضها على أرصفتهما فى سيدى جابر، كل هذه الأماكن والمسميات لا تصنع زحمة فى القصة بقدر ما تضع القارئ فى قلب المكان، فتساعد على توحده مع البطلة، وليتلقى الصفعة التى أخذها راكب القطار، وينزل مع البطلة باحثا عن دفء يأخذه أو يعطيه فى لحظة اهتزاز الترام أو القطار.
أما (إيقاع) فعن الحكاية القديمة المعتادة بين البنت الفقيرة من حى السيدة زينب والولد الغنى من جاردن سيتى، كل منهما يبحث عما يفتقده فى حياته لدى الآخر، لكن الشارع بينهما طويل يجعل تلاقيهما صعب، وبدلا من روميو الذى يتسلق الشجرة إلى غرفة جوليت فى مشهد الشرفة، يتسلق الحزن شرفة الفتاة، فى انتظار أمل لن يحدث أبدا (على الحزن أن يسكن روحيهما إلى أن يقرر الله في لحظة ما أن يحرك صف العمائر المقابلة بجاردن سيتي ناحية صف البيوت الضيقة بالسيدة و يطمر الشارع أسفلهم).
وتبدو قصة (زار) وكأنها تحقق الأمل المنشود فى قصة إيقاع، القصة من ثلاثة مقاطع يروى الأول والثانى بضمير المخاطب، حيث تخاطب الساردة فى الأول البطل الذى فقد حبيبته بزواجها ممن هو أكثر استعدادا منه، والثانى موجه للبطلة التى تعيش حياة تعسة، والثالث بضمير الراوى العليم حيث تحلق روحا وجسدا الحبيبين فى الفضاء فيتوحدان، تمت الإشارة إلى الزار فى المقطع الثانى، لكنه موجود بروحه فى تكرار كلمة طحن ويطحن ومطحون فى المقطعين الأول والثانى وتكرار المشاعر والصور فيهما، بما يحقق للقصة إيقاع الزار أكثر مما يصف الزار المتعارف عليه، وتبدو قسوة نهاية القصة فى تحققها على الورق وفى الخيال واستحالة تحققها فعليا (يستجيب الله لهما و يطمس المسافة بين الحجرتان لتلتصقا و تذوب الجدران بفعل إلهي، يلتصقان، يتداخلان، يهمسان، يتشكلان. .يتوحدان.)
وتبدو قصة (أرقصلك؟) وكأنها عن المرح، الرقص، الرغبة الحميمة، لكنها عن اليأس، ففى التليفزيون المطربة الراقصة تتقرب إلى حبيبها المشغول عنها، بينما المشاهد متلهف عليها، تيأس من استجابة الحبيب، فتخترق الشاشة إلى المشاهد لتسأله السؤال نفسه الذى لم يرد عليه حبيبها، فهى يائسة من تحقق تواصل الحبيب معها، والمشاهد يائس من الحصول على أكثر من مشاهدة، لكن الساردة تحقق لهما الأمنية المستحيلة بما يعظم من مقدار اليأس ولا يقلله لاستحالة حدوثه فعليا برغم حدوثه فى مخيلة المشاهد على الأقل.
عالم (زار) يبدو صراعا بين الحياة الواقعية المملة الكئيبة ذات العلاقات المهترئة والأحلام المجهضة، وبين الرغبات المكبوتة فى السعادة والتواصل والحب، لكنها تغلق باب الأمل بنهايات قاسية مفتوحة على مزيد من الكآبة، استطاعت الكاتبة أن تمارس فيها قدراتها الإبداعية بجملة قصصية متوازنة ومعبرة وساتخدام جيد لضمائر السرد واللقطة المشهدية والمونتاج السينمائى ، وجعلت القارئ مشاركا رئيسا فى بناء عالمها.
………………
*نشر في “عالم الكتاب” مايو 2019
*المجموعة الفائزة بالمركز الثاني في جائزة ساويرس الثقافية، فرع شباب الأدباء