أحمد عبد المنعم رمضان
تصاعد صوت زخات المطر مع بدايات النهار، كنت لا أزال فى سريرى عندما بدأت الأمطار فى الهطول فجأة، صوت ارتطام قطراتها بأرضية الشرفة وأسقف السيارات مثل طلقات رصاص متتالية. فتحتُ النافذة ونظرت عبر فرجة ضيقة فهُيئ لى أنى أرى قردًا يسقط من السماء، أغلقت النافذة سريعًا وارتعبت. جلست بجوار الشيش المغلق، وأخذت أراقب الأصوات التى تصلنى عبره، أسمع بين الحين والحين صوت ارتطام عنيف أو اصطكاك معدنى، فأخمن أن دشّ الجيران قد طار ووقع أو ربما كان طبقًا طائرًا صغيرًا، ومن بعده تعثر غراب فى إحدى الشجيرات وسقط عمود النور فدهس قطة وهى تجرى نحو مدخل عمارتنا.
جميع النوافذ مغلقة مثل نافذتى، وجميع الآذان تطرطق من خلفها، خلت الشوارع إلا من سيارات متناثرة تطير بطيش فى الطرق الخاوية، أسدلتْ كل المحلات الأبواب واحتمى أصحابها بجدرانها. هرول جارنا على السلالم ليغطى سيارته خوفًا من اتساخها، أمامه يقف عسكرى المرور محتميًا بإحدى البلكونات، يهمهم بشتائم لحظه العسير، شقت سيارة فارهة الطريق بينهما، فغطت عابر عجوز بالماء وأضافت إلى بلله بللاً، تحولت الشوارع إلى بركة مياه واسعة فأبرزت عدم استواء أسطحها، أشارت امرأة متوسلة إلى سائق الأتوبيس كى ينتظرها، بينما صرخت أخرى فى زوجها عبر تليفونها المحمول، تأمره أن يطلقها إن لم يأت فورًا.
ارتفع منسوب المياه فوق سطح الشارع وبدأت فى التسرب إلى مداخل البيوت، وتدفقت نحو مصنع صابون أقامه شريكان فى الدور الأرضى من العمارة المجاورة، فتحولت الشوارع المحيطة إلى فقاقيع من الصابون، وكُسيت الطرق بالرغاوى البيضاء والفقاقيع متباينة الأحجام، كما تطاير عبير منعش وروائح متداخلة، لافندر وأوركيد وورد بلدى وخوخ.
بين الرغاوى يمر رجل يسعل بقوة، أصاب مجاوره برذاذه فشتما أحدهما الآخر دون أن يتوقفا، تعثر آخر فى المياه المُصبنة وانقلب على ظهره وغرق فيها، أما الأطفال فقد اندفعوا نحو الشوارع غير مبالين بالمطر أو بصرخات أمهاتهم المحذرة، لعبوا بفقاقيع الصابون ونثروها على وجوه بعضهم البعض وعلى شعورهم.
فى الجهة المقابلة، على كورنيش البحر، احتضن شاب عشرينى صديقته البضة تحت شمسية فردها فوق رأسيهما، استغل برودة الجو فزاد من التصاقه بجسدها وضمها تحت جاكت يتشاركان فيه، بينما أوقف آخر سيارته وعرض على مارة بشعر أسود متطاير أن يصحبها إلى حيث تريد.
مرت الساعات الأولى من النهار دون أن يتوقف المطر أو تخف حدته حتى حان موعد صلاة الجمعة، أصوات التكتكات تملأ البيوت، والمطر لا يأبه ويستمر فى الهطول. أذّن إمام الجامع المجاور فى ميعاده بالضبط، لا يفصل الجامع عن البحر إلا طريق الكورنيش وعمارة واحدة مزروعة بغير موقعها المفترض، اصطف المصلون تحت المظلة التى امتدت بين المسجد والعمارة، تأخر معظمهم وتلكأ الكثيرون، ولكنهم ما لبثوا أن توافدوا واتخذوا مواقعهم، كل سرحان فى همومه، المصاريف، الحب، الموت، الزواج، الرواية التى لم تكتمل، المحبوبة التى لا تلين، وقليل من يستمع إلى كلمات الشيخ المكررة. تسللت فتاة عشرينية، أو ربما فى عمر أقل قليلاً، من ساكنى العمارة المزروعة بغير موقعها الطبيعى، إلى شرفتها المطلة على الجامع من ناحية وعلى البحر من الناحية الأخرى. اقترب الماء المُصبن من حدود المصلين، فصاح أحدهم بالشيخ أنها تمطر، فقطع الشيخ خطبته وأجابه فى الميكروفون ” وأنا أعمل ايه يعنى ؟؟”.. تقدمت الفتاة نحو سور شرفتها، وتطاير شعرها الناعم وهى ترفع يدها عالية إلى الله، بدت متجهة نحو البحر أكثر من اتجاهها إلى المسجد متمتمة بشفتيها الرقيقتين بأدعية متتالية، ربما كانت تدعو أن تنجح فى الامتحان أو أن يحبها زميلها الأسمر ممشوق الجسد أو أن يوافق والدها على خطبتهما، تزيد فى رفع يدها عالية كما تزيد فى إغماض عينيها وزمهما بينما ترتسم ابتسامة غامضة على وجهها الخالى من الحسنات أو التجاعيد، حتى حب الشباب لا أثر له على بشرتها الصافية. أطال الشيخ فى خطبته، قال أن بكل يوم جمعة ساعة إجابة، وأنها ربما تكون تلك الساعة، إلا أن المصلين كانوا مشغولين بحماية أجسادهم من المطر المفاجئ، أمتدت رغاوى الصابون نحو ساحة الصلاة وعلى أبواب الجامع، فصاح ذلك المصلى المتمرد مجددًا (ما تخلص بقى يا شيخ).
انقطع المطر فجأة، سطعت الشمس مجددًا فغمرت البحر والمصلين وشرفة الفتاة التى توقفت عن الدعاء وانتظرت على أمل أن يتجدد المطر، مرت بعينها بين السحب والبحر فى أثناء انتظارها مستجدية المزيد من القطرات. لمع الصابون تحت ضوء الشمش، وظل الشيخ يخطب طويلاً دون تركيز منى، وعندما قال بنبرة إذاعية ” أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة”، رفعت يدى كما فعل الجميع، وبينما سمعت تمتماتهم بأدعية تخص الصحة والمال ومصاريف العيال، نظرت إلى نافذة الفتاة، لم تعد وموجودة الآن، ولكنى لمحت خيالها خلف الشيش، بينما يتقافز قرد بخفة وسعادة بين أفاريز الشرفات وفوق أسوارها.