محمد مبشور
كانت لحية باسلام أطول لحية بين لحى الرجالو الشيوخ في منطقتنا، كانت تصل إلى اسفل ركبتيه بطول معطفه الكاكي الذي لم يكن يغيره ابدا، وكان الأخير يملك طاقيتين يضع الأولى فوق رأسه في فصل الخريف والشتاء ثم يغيرها بثانية بنهاية فصل الشتاء إلى الصيف و هكذا دواليك..
الطاقيتان معا كانتا تلامسا حاجبي با سلام الكثيفين، لذا لن أستطيع أن أصف لكم لون شعره ولا حجم جبهة رأسه.. هيئته عبارة عن مزيج من شخصية كرتونية شريرة تكره الأطفال والأرانب والأزهار ومن حكماء السيخ بتلك اللحية الرمادية الطويلة و المتسخة.
با سلام كان يأتي مساء و يقف وحيدا في ركن جانبي من رأس الدرب بجانب المنزل الذي كان يخرج منه، و يشاهد المارة والسيارات بثبات ودون أن يحرك رأسه او يدير حتى عنقه أو يشاهدنا نلعب كرة القدم أو نبحث عن حيوان تعيس يقع في أيدينا لنعذبه.. يشاهد فقط دون أن يتكلم … لا يكلم أحدا أو يكلمه أحد، لم يفتح فمه قط ولم يتكلم قط ..ولهذا فأنا لا أستطيع أن أصف لكم أيضا مخارجه الصوتية ولا حتى حالة أسنانه أو لسانه، كان يفتح فقط جزءا صغيرا من فمه ليدخن سيجارة، وتختفي هذه السيجارة بين شاربه ولحيته التي تخفي ايضا تضاريس وجهه وتعابيره .. لا نشاهد سوى دخان يخرج من وجهه الجامد … أما نحن فلم نجرؤ على الاقتراب منه يوما..
وحتى إن قذف احدنا الكرة تجاهه دون أن نقصد ذلك نقفز ذعرا ونركض هاربين خوفا منه، البعض منا كان يظنه مصاص دماء لاننا لم نكن نراه سوى مع غروب الشمس، و البعض الآخر يعتقد أنه جني متنكر في هذه الهيئة، وأنه زوج عائشة قنديشة، وأقسم عادل ابن الحاج إبراهيم أنه شاهده مرارا يتسلق المنزل الذي يخرج منه بخفة مثل عنكبوت نشط.
ذات يوم لم يأتي با سلام إلى مكانه المعتاد، اختفى فجأة دون سبب، اختفى فقط دون سابق إنذار، قال الحاج إبراهيم لساكنة الدرب إن سلام ناداو عليه صحاب الحال، ثم جلب صباغا ومنظفة عريضة البدن لتنقية وصباغة غرفة بسطح منزله والتي كان يكريها لباسلام، ثم غير مفاتيح المنزل واشترى خروفا وقام بذبحه فرحا بخروجه من بيته لطرد الأرواح الشريرة بالمكان ولتحقيق نذر قطعه على نفسه، ولكن الحاج العربي أكل الخروف مع أسرته فقط، و لم يقم بدعوة أي أحد من الجيران، أو يتصدق بأي جزء منه على فقراء الحي.
هكذا اختفى با سلام و لم يودع احدا أو ي يخبر عن وجهته اي شخص نعرفه، وقال لنا عادل مجددا ان مهمته الانسية انتهت و عاد جني كما كان، و اعتقد صديقنا خالد بأن البومة التي صارت تحلق هذه الايام ليلا بالدرب هي با سلام عينه، و انه لا يمكن ان تخفى عنه مثل هذه الاشياء.. و مات رجل فجأة بالدرب دون سابق انذار ، فتداول الناس انها البومة او باسلام و قد بدأ في انتقامه من سكان الدرب، و قال بعض الرجال و بجانبهم نسوة يستمعن اليهم بخشوع و علامات الهلع بادية عليهن.. و لماذا لم يبدأ انتقامه بالحاج ابراهيم ؟ فأجابهم رجل حكيم من ساكنة الدرب و يرتدي جلباب و بلغة و لا يضحك بأن الحاج ابراهيم قام بدبح خروف ، لذا فهو محصن من كل سحر و شر.. وماتت امرأة عجوز ايضا بعد أن سعلت طويلا بسبب ابتلاعها لضرس صناعي سقط من طاقم اسنانها و حشر في حنجرتها، وانزلقت رجل امرأة بعد أربعة ايام في المكان الذي كان يقف به با سلام وانكسرت رجلها ولم يجرؤ احد على الاقتراب منها لسقوطها في مكان وقوف باسلام و صارت المرأة تعوي من شدة الآلام حتى فقدت الوعي. فخاف الجميع لحظتها و صار جيران الدرب يخرجون جماعة و يدخلون باكرا ويتكلمون بصوت خافت كي لا يسمعهم با سلام وانتشرت القصة وتغير اسم الدرب من الدرب الوفاء إلى درب با سلام.
وقال لنا لحظتها خالد إن جده نصحه بالبصق حين يلج الدرب وحين يغادره لاتقاء لعنة با سلام فصرنا نبصق جميعا في الدرب وخارج في كل الأماكن التي نشعر بالرهبة منها ، ومرت سنوات على هذه القصة الغريبة، وكنا نضحك كثيرا حين نتذكرها ولكننا لم نوقف عادة البصق لحد الساعة..