ستانلي كيوبريك مر من هنا

البريق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى ذكري
أثناء قراءة رواية الرعب، لستيفن كينغ، “البريق”، أو “The Shining”، المتخمة بعدد الصفحات، 669 صفحة تقريباً، والقراءة فقط بهدف المقارنة الجمالية بينها، وبين فيلم ستانلي كيوبريك، المأخوذ عنها، والذي يحمل نفس العنوان، “البريق”، 1980، أردد بصوت هامس، بيني وبين نفسي، جملة “ستانلي كيوبريك مر من هنا”.

المقصود بالمرور، هو أن كومة من أحداث الرعب، والإثارة، متوسطة القيمة، بحكم نوع روايات الرعب، المحدودة جمالياً في عالم الأدب، والتي تُصبح جثة هامدة بعد القراءة الأولى، صنع منها ستانلي كيوبريك، فيلماً عظيماً، لا تنتهي مشاهدته، ويُعتبر من كلاسيكيات السينما العالمية.

لأكثر من ثلاثة عقود، كان ستيفن كينغ يُجدد دائماً إعلان كراهيته، لفيلم كيوبريك، ويؤكد على أن سيناريو الفيلم ابتعد كثيراً عن الرواية. هذا الابتعاد يفترض ضمناً انتقاصاً في رؤية، وموهبة ستانلي كيوبريك.

الغريب أن ستيفن كينغ لم يحمل تحفظات ما، أو كراهية عصابية، لسيناريوهات الأفلام العديدة التي أُخذتْ عن أعماله الأدبية، على الرغم من تواضع قيمتها، بعد معالجتها السينمائية، وخروج الفيلم للجمهور، بل المعروف عنه، تسامحه الفني أمام كل التغييرات الدرامية الممكنة في مراحل إعداد العمل الأدبي للسينما.

يبدو أن المؤلم لدى ستيفن كينغ، هو أن إضافات ستانلي كيوبريك إلى فيلم “البريق”، أصبحتْ علامات فنية، ومنها على سبيل المثال، البنتان المقتولتان، الشقيقتان، التوأم اللتان تظهران لداني ابن جاك تورانس في الفيلم. في رواية ستيفن “البريق”، البنت في سن الثامنة من عمرها، وشقيقتها في العاشرة من عمرها.

في فيلم “البريق”، لستانلي كيوبريك، هناك المتاهة الهندسية، المهيبة، النباتية، العملاقة، التي يموت فيها جاك تورانس متجمداً في نهاية الفيلم. وهناك أيضاً المشهد الرهيب، عندما ينظر جاك تورانس من علٍ، على ماكيت المتاهة في بهو الفندق، ينظر نظرةً فوقية على زوجته وابنه، ضائعين، ضئيلين في عمق المتاهة.

في الرواية “البريق”، لستيفن كينغ، مجرد بعض الحيوانات النباتية، المتناثرة في حديقة الفندق، أرنب، أسدان، كلب، والرعب الهزيل يتمثل في هذيان جاك تورانس، بعد تشذيب أذن أرنب بمقص الأشجار، يُصوِّر له الحيوانات، وكأنها تتحرك قليلاً من وراء ظهره، وتغيِّر أماكنها.

في رواية “البريق”، جاك تورانس يكتب مسرحية، ويحكي عن بطليها، ثم تظهر له فكرة كتاب عن تاريخ الفندق نفسه. في فيلم “البريق”، يكتب جاك تورانس جملة واحدة مُخْتصَرة، مُرعبة، الجملة مكتوبة بتكرار يحمل بريقاً من الجنون، قد يزن هذا البريق روايات ستيفن كينغ جميعها. الجملة هي “كل عمل دون لعب يجعل جاك ولداً مملاً”، وهي مكتوبة آلاف المرات، بترتيبات، وأشكال مختلفة، على مدار مئات الصفحات.

الجملة لها تاريخ في أحد القواميس عام 1659، وصارت مثل المثل الشعبي. استخدمها جيمس جويس في قصة “أرابي”، واستخدمها جاك كرواك في قصة “بيغ سور”، واستخدمها أيضاً لوريل وهاردي في فيلم “أبناء الصحراء”، إلا أن تكرار كيوبريك للجملة، وتوزيعها البصري، الرياضي، الهندسي، على فراغ مئات الصفحات، يجعلها أشبه بنوتة موسيقية غامضة، يعزفها كيوبريك طوال الفيلم.

هناك تغيير لعبي، خفيف الظل، صنعه ستانلي كيوبريك، ليس دون ابتسامة، ففي رواية ستيفن كينغ، غرفة الفندق المخيفة تحمل رقم 217، وهي في فيلم كيوبريك تحمل رقم 237، وكأنّ نصيحة اللعب الطفولي، القديمة، لا بد أن تجد لها موطئ قدم في عمل كبير يتسم بالجدية الشديدة.

بالطبع لم يتطرق ستيفن كينغ إلى تغيير رقم الغرفة في فيلم كيوبريك، خوفاً من وصفه بالتفاهة، أو بكونه لا يفهم المزحة الرمزية العابرة، التي مفادها جملة أخرى، وهي “ستانلي كيوبريك مر من هنا”.

اتهم ستيفن كينج فيلم كيوبريك “البريق”، بالبرودة الشديدة، ووصف أداء الممثلة شيللي دوفال في دور ويندي زوجة الممثل جاك نيكلسون في دور جاك تورانس، بأنها آلة صراخ طوال الفيلم، وأن كيوبرك أغفل بقسوة الجانب العاطفي الذي يربط جاك بأسرته.

الرد على ستيفن يجب أن يكون هكذا. في روايات الرعب لا مكان تقريباً للمَشَاهِد العاطفية، ويجب المرور عليها سريعاً. مَشَاهِد الحب بين جاك تورانس وويندي زوجته في رواية “البريق”، تخفف من حدة خوف القارئ، أو مُشاهِدْ السينما فيما بعد.

وكأنّ ستيفن كينغ كان يطمع في شيء آخر، يُضاف إلى نوع روايات الرعب، كأنْ تخرج رواية “البريق” عن نوعها الصارم، لتكون رواية أدبية بالمعنى الرحب لكلمة رواية، على سبيل المثال، تكون في مكانة رواية “موبي ديك” لهيرمان ميلفيل.

عادةً تكون رواية الرعب مشدوة مثل رق طبلة، لا زيادات، لا حشو. رواية “البريق” لستيفن كينغ، تقع في 669 صفحة، ولهذا يخوض كثيراً في تاريخ أبطاله، وتاريخ الفندق المالي، بعيداً عن الحدث الرئيسي، على الرغم من أن أستاذه في الرعب، الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو، كانت أغلب أعماله المرعبة، صغيرة الحجم.

المفارقة أن ستيفن كينغ يُصدِّر روايته “البريق”، المترامية الأطراف، بفقرة من قصة إدغار آلان بو القصيرة “قناع الموت الأحمر”. لم يتعلم ستيفن كينغ أيضاً من أستاذه، أن الرعب يلزمه شيء ضروري، وهو الغموض، وستيفن كينغ يفتقد صناعة الغموض إلى حد الفقر، أما التفسيرات التاريخية للبطل، مثل لماذا أصبح جاك تورانس مثل وحش كاسر، يريد قتل زوجته وابنه؟ يجيب ستيفن كينغ، لأن والده كان يضرب والدته بوحشية.

يخوض ستيفن كينغ في سيرة والد جاك تورانس، لكن ستانلي كيوبريك لا يعنيه والد جاك تورانس، لا يعنيه لماذا أصبح جاك تورانس على ما هو عليه، بل يكفيه أن يُصوِّر الوحش الكاسر، دون ضغط، وإلحاح على الأسباب. الأسباب عندما تساوي النتائج في الدراما، تُنتج دراما متواضعة. ستانلي كيوبريك أراد في فيلم “البريق”، أن تكون النتائج أضخم كثيراً من الأسباب.

من اتهامات ستيفن كينغ لفيلم “البريق”، أن شخصياته الروائية كانت تتمتع بدفء إنساني، وهو مُفتقد في فيلم كيوبريك. الحقيقة أن رواية “البريق”، تتمتع شخصياتها بفصام عقلي، والفصام العقلي يسمح في الدراما، بإمكانيات كثيرة، وقد بالغ ستيفن كينغ، بسبب إطالة صفحات الرواية، في تردد جاك تورانس بين حب زوجته وابنه، وبين الرغبة في قتلهما.

ستانلي كيوبرك أظهر حب جاك تورانس لزوجته وابنه، أقل كثيراً من الرغبة في قتلهما، لكن في مقابل تلك القسوة، ارتفعتْ العلاقة الإنسانية بين الأم ويندي، وابنها داني، كما لم يحلم برقتها، وتفانيها، ونبلها، ستيفن كينغ نفسه، فطلبتْ الأم من ابنها قبل نهاية الفيلم، الهروب، مضحية باحتمال موتها في الحمَّام على يد جاك زوجها.

في النهاية ضغينة ستيفن كينغ، كاتب البيست سيلر، مُوجَّهة مُباشرةً، لفن ستانلي كيوبريك، فالإهانة التي لحقتْ بستيفن كينغ، تزداد مرارة مع الزمن، لأن قيمة فيلم “البريق”، تزداد أيضاً مع الزمن، فيخفتْ شيئاً فشيئاً بريق رواية ستيفن كينغ، ويلمع أكثر فأكثر، بريق فيلم ستانلي كيوبريك.

……………

*عن 24

مقالات من نفس القسم