راية في الأفق

سعد القرش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعد القرش
يقبض «تسو» التّبتي على عجلة القيادة، والسيدة «حياة» في المقعد الخلفي، ويشارك الثلاثة في دفع سيارة «نواف» إلى أبعد من قدرة المتنصت، في اليخت، على سماع هدير الموتور حين يدور.
يُذكّرها مصطفى، مرة أخرى، أن أمامها خمس دقائق للوصول إلى الفندق، وأن تدخل مرفوعة الرأس، وتمشي بخطوات واثقة تصرف نظر أي متطفل عن تفحّص ثوبها المملّح، وملاحظة أنه لا يخفي مشدّا للصدر. وبعد الوصول إلى المصاعد ترجع إلى موظف الاستقبال، وبأنفة تطلب مفتاحا بديلا لمفتاحها الذي ضاع. وتكفيها نصف الساعة للتحمّم، والمغادرة.
مصطفى ينهى «تسو» عن تبادل أي كلام معها طوال الطريق، وعن الاقتراب من الفندق؛ لإبعاد السيارة عن نطاق كاميراته، ويرجع إلى هنا في خمس دقائق، ومن هنا إلى فندقه خمس دقائق أخرى، وسوف يتخذ إجراءات المغادرة في بضع دقائق، ثم يأخذون السيدة «حياة» ويتجهون إلى المطار.
يطالبها بأن تُسمعه خطوات أوصاها بتنفيذها، فتقول إنها سوف تتحمم، وترتدي أشيك ثيابها وأغلاها، وتترك الغرفة كما غادرتها هي والرجل قبل السهرة، ولا تمس شيئا: الإضاءة نفسها، الحقائب مفتوحة أو مغلقة أو نصف مغلقة، دولاب الملابس، الأوراق على المكتب بترتيبها أو فوضاها. حتى إذا رجع، تأكد له أنها لم تدخل الغرفة، ولا يستطيع رؤية أي تغيير أو اختلاف في التفاصيل، ولا يجد شيئا تحرك من مكانه أو اختفى، باستثناء هاتفها المحمول وجواز السفر وأي وثيقة تؤكد الزواج، والأوراق الرسمية التي دخلت بها البلاد. ويأمرها بإحضار العملات النقدية كلها، وألا تخفي لنفسها شيئا، وستقسّم الأموال أربعة أنصبة، للذكر مثل حظ الأنثى، ويشير إلى نواف وتسو وأنيل الهندي وإليها. وتنظر إلى الرجلين الوافديْن ولا تعلّق، وتكاد تستنكر استحقاق رجل من أهل البلد، فيهددها بألا تعترض، وألا تحاول أن تحيد باللعبة عن المسار.
ـ نواف ابن البلد، مهضوم الحق. يحتاجون إليه حين يمثّلهم في معرض فني خارج بلده. وإذا تعرض البلد لغزو، سارع إلى حمل السلاح دفاعا عن بلد سيهرب منه حكامه. يخاطر الليلة بسيارته، ومن حقه أن ينال ربع أموال ابن بلده.
يوصي «تسو» بالقيادة الحكيمة للسيارة، يستحلفه بالدالاي لاما ألا يرتكب مخالفة تفسد الخطة كلها.
ـ ننتظرك هنا بعد عشر دقائق.
يستريح «أنيل» بالقعود على السور الحجري المشرف على الخليج، ويسلم وجهه إلى السماء. لا قمر في ليل يوشك أن ينتصف، ولا سيارة تؤنس الطريق المفضي إلى اليخوت، وقلما يرتاده في هذا الوقت المتأخر إلا من يلحق بأصدقاء أو يعود من سهرة.
ويتوجه نواف إلى مصطفى بالسؤال:
ـ حيرتني يا مايسترو، لم تنطق أمام المرأة اسم أي منا، وكذبت عليها لما سألتك عن اسمك.
ـ الحذر لا يضر.
ـ هل تمثّل هذه المسكينة أي خطر؟
يقول مصطفى إن عمله في المحاكم قربه من مجرمين وأفاكين طلقاء، ومن أبرياء مظلومين يدفعون من أعمارهم أثمانا لجرائم غيرهم، ومن قضاة يحكمون بما بين أيديهم من أدلة، ولو كانت ضمائرهم غير مطمئنة، وتلومهم أنفسهم وتوجعهم أحكامهم؛ ليقينهم بأن الحقيقة في مكان آخر، ولا دليل عليها إلا قلوبهم. ويروي له اقتران بداية ارتداء المحامين للروب الأسود بغياب العدالة، وإن تحققت شروطها وأركانها. في نهايات القرن الثامن عشر شاهد قاض فرنسي، رأي العين من شرفة بيته، جريمة قتل انتهت بفرار القاتل، وتطوع عابر سبيل بحمل الضحية لإنقاذ حياته، فاتهموه بقتله، وحكم القاضي نفسه على هذا البريء، وهو يوقن ببراءته، وبأن القاتل هارب ولا دليل عليه، ولكن القرائن تدين هذا البريء المحكوم بالإعدام. ولم يحتمل القاضي عذاب ضميره، فاعترف بالتفاصيل، وأصبح هدفا للانتقاد والاتهام بفقدان الأمانة. ثم رأى محاميا يدخل المحكمة، بملابس الحداد، «الروب» الأسود، وسأله القاضي عن سبب ارتداء هذا الزي، فأجاب المحامي: «حدادا على بريء حكمتَ ظلما بإعدامه».
لا يسلّم مصطفى بشيء، ولا يحب مقولة «للحقيقة أكثر من وجه»، إيمانا بأنه لا حقيقة، وأننا من يسبغ على شيء أو أحد وجها ما، ثم ندّعي أنه حقيقة. ويدعو نواف إلى التفكير في أن هذه المرأة ربما لا تكون مصرية، وأجادت الكلام بهذا اللسان، وكذبت عليهم أو على رجل زعمت أنه زوجها.
ـ من أدراك أن المرأة اسمها «حياة» أو «موت»؟
ـ من أدراني؟ صحيح، من أدراني؟ كل شيء جائز.
يشير بالعصا إلى ناحية اليخوت، ويقول إنه لا يعرف من، أو ما، وراء امرأة تقول إنها «طريدة». ولا يهمه أن تكون زوجة أو خليلة. ولا يتأكد له أن رجلا حاول اغتصابها، ولعلها قتلته ثم رمت جثته في الجانب الآخر لليخت، وقفزت هربا منهم حين اكتشفوا قتلها للرجل، ثم ألقوا إلى الماء بجثته بعد إثقالها بعمود حديدي أو كتلة خرسانية.
ـ هل صدقتَ أن الماء نزع حمالة صدرها؟!
يجيب نواف:
ـ ماء الخليج قادر على كل شيء.
يقولها ويبتسم، فيسأله المايسترو:
ـ كل شيء؟
ـ نعم، كل شيء. الحمالة والصدر وصاحبته وصاحبها إذا لزم الأمر.
ـ تتكلم عن كيان خرافي لا يعجزه، بالمال، شيء؟
يومئ نواف بالإيجاب، ويقول مصطفى إنه سيطمئن من جواز سفر المرأة إلى اسمها الحقيقي، وأما بقية التفاصيل فحين تقلع بهما الطائرة، وفوق السحاب يخبرها باسمه. وقبل ختم جواز السفر وبطاقة الطائرة بالمغادرة، لا يدري أي مصير ينتظرها، وإذا قبض عليها في المطار، فلن تستطيع الافتراء إلا على رجل اسمه «حابي».
ويضرب صدره بطرف العصا:
ـ أنا أيضا لا أعرف من يكون «حابي»!
***
ليس لدى مصطفى يقين بنجاح خطة تسفير المرأة، ولا يضمن ولاءها أو ذكاءها. ويخطر له لو أنهم استغنوا عن أحد المجذافين، وثبّتوه صاريا، وشدّوا عليه فستان المرأة المبلول شراعا، وتركوا القارب «يمخر»، ويشق عباب الخليج، وبمثل هذا الشراع لم يكن لأحد أن يعترض القارب على الضفتين.
السخرية من تخيّل رحلة لم تبدأ لقارب متعطل لا تصرف مصطفى عن التشاؤم بساعة الزُّلّة، فيحمل حقيبته ويتأبط عصاه، ويتقدم نواف وأنيل رأسا لمثلث في اتجاه الخلاء. لا يتشاطأون، ويعطون ظهورهم لمياه الخليج والأسفلت، وتبطئ الرمال خطواتهم. يتوقفون ويطلب المايسترو إلى أنيل أن يحمله على كتفيه، ويتسامق ملتمسا نور سيارة نواف، وقد انتصف الليل، وها هو الأسفلت يتشقق، ويتوارى سواده أمام خضرة زاحفة، ويمسح عن وجهه ما ظنه مطرا، ويتساءل وهو يتذوق لزوجته ودفئه: منذ متى يترذرذ الدم؟
فيرتج الفضاء بموجة من الديوك تنقر الأرض، وتطلّ تيجان الرؤوس من العشب، تبدو هاماتهم ندوبا تكسر بيضة الأسفلت، أوتادا لا تلبث أن تعلو، وتنمو لها أجساد. وتدعوهم صدمة الإنارة على وهنها إلى فرك أعينهم، والإفاقة من عماء الغيبوبة، ويتناسخون سراعا، وتنبت في الأيدي أسلحة، وتستعجل الأصابع إطلاق البارود، وفي الوجوه ألسنة من لهب، ولا تكفّ الصحارى عن إمدادهم بحشود من الممسوسين بالغضب والرجاء، ويتعالى الهتاف والتلويح والتهديد. يركضون من الطريق إلى الشاطئ، وينبعثون من الماء إلى الطرق، وكل ممشى إلى يخت يئنّ بالمقتحمين الصاعدين، وتشتعل السفن واليخوت الرواسي بأضواء تُلهب فضة الماء، ويتحسر أنيل على قاربه، وتتسلل إليه المياه، ولا يعرف ـ في جهنم الخليج ـ هل يهرب القارب من الحريق مفضّلا الغرق على الاحتراق؟ ويحاول الذهاب إلى القارب، ويحفن السائل الدافئ، ويصيح فزعا:
ـ «دم، دم».
يفيض الخليج دما، ويستمر دوي الرعود، ومن أعلى اليخوت ينطلق الرصاص، وتعلو الأدخنة، وتلقى أجساد أو تلوذ بالمياه المثخنة بالدماء، وتتناثر على الطريق رؤوس وأعضاء مبتورة، وفوارغ طلقات ساخنة تنفث بقايا الدخان. ومن بعيد تتصادى أبواق من عمق الصحارى والمياه والسحب والغيوم، وتزمجر جنازير مدرعات، وتتنادى إغاثات مطافئ، وتصهل أحصنة، وتفزع طيور ولا تصل إلى غاية فتسقط وتوقد حرائق أخرى، وتتقافز هوامّ وزواحف ودواب لا تعوزها الرعونة. وتتراص براميل نفط وبارود، لحماية اليخوت والبنايات الصرحية، فتنطحها وعول وخراف، وتثقبها عقبان، فتنفجر الحمم في الصدور العارية، ويتدافعون ويتصادمون في ذعر وأمل.
يهبّون من كل وادٍ، ينتظرون أن يعلن أحدهم نفيرا، أو ترتفع في الأفق راية.

………………..
*مشهد من رواية “المايسترو” تصدر قريبا عن دار العين للنشر، القاهرة

مقالات من نفس القسم