د. محمد سليم شوشة
في المجموعة الشعرية «يخرج مرتجفا من أعماقه» للشاعرة المصرية آلاء حسانين والصادرة موخرا ۲۰۱۸ عن منشورات المتوسط بإيطاليا، نجد أنفسنا أمام صوت شعري على قدر كبير من الثراء والخصوصية وامتلاك زاوية الرؤية الخاصة به التي يطل منها على الوجود وعلى الإنسان في كافة تجلياته وأحوال وجعه وسعادته وألمه وتمرده ورغبته في تجاوز هيئته أو كينونته، إلى أشياء أخرى من الجمادات والطيور والحيوانات، وغيرها الكثير من الحالات الشعرية التي تأتي في إطار تكتيكات خاصة للقول والبلاغة وإنتاج الشعرية وبناء القصيد بشكل عفوي، أو يبدو حتميا وطبيعيا وبعيدا عن الاصطناع أو التشعير.
نبدأ مع أول – وربما أبرز هذه السمات التي تجلت في المجموعة الشعرية وهي التمرد على الحدود بكافة أشكالها، ورغبة الذات في تجاوز الهيئة لتشكل منها كلها حالا من التمرد والحركية الدائمة التي تحكم الصوت الشعري كله عبر كافة قصائده، ويأتي تجاوز الهيئة وفق نسق تبادلي مع الأشياء ومواقع القوة والحالات الشعورية كما نلمس في هذه الصورة
“مرة كنت يرقة، ومرة كنت فراشة، تحوم حول ضوء، مرة كنت كهربائيا، وهو يبدل مرة أحد الأضواء الخافتة، قتل فراشة، تحوم حول ضوء خافت، قتل نفسه في حياة أخرى”.
لدينا في هذه الصور ذات ترغب في تجاوز كينونتها الضيقة إلى رحابة العالم، تتفتت بين جنباته وعناصره وتحل في الأركان البعيدة والعناصر الجامدة الضئيلة والقوية والمرئية والخفية وغيرها الكثير من التجليات التي تجعل من الذات عالما موازيا قائما بذاته، وليس ذاتا مفردة أو كينونة جامدة إستاتيكية فجوهر الشعرية في تقديرنا في التبدل والحركة ومغايرة النمط واختلاف الأنساق الحاكمة والفاعلة في هذه الذات التي تقوم المجموعة على مقاربتها.
وتقول في قصيدة أخرى: “وبدلا من أن أكون شيئا واحدا، أريد أن أصير كرة وأوعية وعلبا صينية وكنزات صوفية وحبال غسيل، أريد أن أصير طريقا وعتبة قديمة وغرابا أسود”.
فلدينا من البداية إنسان يرغب في أن يجرب أشكالا كثيرة ومغايرة، ويتمرد على حدوده وما يقولبه أو يجعله نمطا رتيبا أو مکررا، هنا نلمس أقصى درجات القلق والرغبة في الفرار عبر ذوات الآخرين، لأن كل صورة جديدة رأت الذات فيها نفسها أو رغبت فيها هي في حسها أقرب لنافذة تحاول أن تمر منها عبر النجاة المؤجلة قدريا أو المرجوة منها، والمتأخرة بفعل القدر.
يصبح الموت بابا واسعا للتجربة، بابا للحياة وتجاوز الركود والسكون والعطب. “دعني أموت في المداخل/ أو في المداخن/ أو قمرا ضائعا في الثلج/ دعني أجرب كيف يكون اليباس/ وكيف يكون الغرق”.
ترغب الذات هنا في تجاوز الموت بالموت؛ فالموت بما وراءه يبدو ساحرا أو شيقا وبابا للمغامرة والتجريب والمعرفة، وبابا لمشاعر جديدة غير عادية أو مألوفة ومكررة. ولهذا فإن الحياة نفسها برتابتها قد تكون موتاً “دعني أعرف كيف يموت الإنسان من الحياة”. وهي نفسها في حال أخرى تكاد تتكرر بصورتها النمطية، حين تقول في قصيدة “كأن في الأمر مزحة ما»: «أنا عالق.. كما لو أن الدنيا حلم سيئ ومحال أن أصحو”.
صورتا الأب والأم في قصائد هذه المجموعة غير نمطيتين وتصبحان خاضعتين للديناميكية أو الطبيعة الحركية ذاتها التي تجعلها تتجاوز القولبة أو التنميط، فهما ليسا بالجيدين أو ليسا مثاليين طوال الوقت، وإنما تأخذ بعض القصائد وتفيد ـ عبر حالة هذه القصائد الكلية ـ من الإيجابيات والسلبيات على حد سواء بحسب الحاجة، ففي بعض الأحيان تتجسد الأم بحال سيئة إلى أقصى درجة وتبدو في حال تناقض مع الأب، وأحيانا تكون متناسبة معه في المساوئ والسلبيات، وفي أخرى توظف القصيده حالا خاصة ومغايرة للسابق عن الأم التي تصبح مصدرا للدفء ولا يمكن الاستغناء عنها، والأب الذي يكون في بعض القصائد مثل معطف يرتديه المرء في الصيف بما يمثل من التقاليد والثقل وغيرها من أبعاد لصورة سلبية كاملة، هو نفسه يتحول إلى حلم ضائع ولا بد من وجوده وعودته ولو لمجرد أن تراه الذات الشاعرة وتستمتع به وهو يحدق في النافذة، فكان مجرد الحضور وفق هذا الشكل المجرد من الأفعال والتأثير هو قمة الأهمية ولا يمكن الاستغناء عنه بأي حال.
ثمة حال من التبدل الدائم من الشيء لنقيضه؛ من القيمة الدلالية إلى نقيضها في غياب كامل للثبات والاستقرار، وفي هذه الحال جوهر الشعرية القائمة على مقاربة القلق والمفعمة بالخوف والمسكونة بعديد الحالات الشعورية والحالات الشعورية المغايرة والمضادة، الخوف والقلق والإيمان والكفر بكل شيء، الألفة والغربة، السعادة والحزن، وهكذا في حركية دائمة تصبح هي الأمواج التي تجعل من هذا الصوت الشعري لافتا وجاذبا بتقلباته وتدفقه وهديره الذي لا يمكن أن يتخيل القارئ له انقطاعا أو صمتا. في تناسب مع هذه الحركية في القيم والمعاني والدلالات والحالات الشعورية تأتي هناك حركية أخرى في الزمان والمكان، بين الماضي والحاضر، الماضي بمستويات عدة بين القريب والبعيد والأبعد والموغل في البعد والقدم وبين الحاضر والمستقبل، على نحو ما نرى في مخاطبة الصوت الشعري للأجيال القادمة وكيف يمكن للقصيدة عبر حس مرهف وطاقة شعرية مشحونة بالقلق أن تجمع الماضي بالمستقبل، وأن تتخيل سيرورة كاملة للأجيال القادمة التي تبدو كالمحتل لمن كانوا في الماضي أو الحاضر، وكيف تحاول في ظل هذه الحياة أن ترى تلك التي لم تأت بعد.
وفي كثير من هذه القصائد الشعرية يأتي رافد الرؤية أو التصور مصدرا مهما للتشويق وإنتاج جماليات القصيدة وإكمالها وفق استراتيجية تعتمد على التصور والتخييل بتناسب واضح مع المخاطبة والصراخ وبث اللواعج والأحزان أو إرسال الحالات الشعرية كزفرات دافقة في الهواء أو كطلقات تحذيرية لكافة عناصر الوجود.
لا تستمرئ الذات الشاعرة في أي من قصائد هذه المجموعة أي شكل من أشكال الاستقرار أو الثبات الشعوري، أو أي حال عاطفية أو نفسية كما ذكرنا، بل تموج بقلق لا ينتهي. تسكن في الحداثة تارة وتعود إلى الأزمنة القديمة أخرى، وتتجلى في الرجل العصري أو الشاب الذي يركب المترو أو يلبس بنطال الجينز المثقوب، كما تتجلى في المسيح على صليبه، أو في غريب في أرض الثلج، بما يجعلها كذلك تتجاوز حدود الهوية الواحدة أو الحدود الجغرافية أو العمر أو النوع أو غيرها من الأسوار والحدود والسدود التي تقولب هذه الذات، بما يجعل القارئ في هذه القصائد في مجملها يشعر بقوة أنه أمام ذات شاعرة تتسم بقدر كبير من المرونة والقدرة على الانسراب في اتجاهات عديدة وفي فضاءات لا يمكن توقعها، كما تتمثل شهوات الرجل أو الشاب ومشاعره بمثل ما تتمثل المرأة أو الفتاة، وتتمثل الحياة كما تتمثل الموت، ومن هنا يحدث تحول مفاجئ أو شبه مفاجئ من حال الاستقرار النوعي التي تكون في مطلع هذه القصائد إلى ما يشبه الغليان أو الفوران الخاطف والمندفع بدفعات شعورية لا يملك المتلقي غير تصديقها والاندماج فيها أو تلبسها، وليكون جزءا من القصيدة وجزءا في سيرورة هيمنتها وقدرتها على اجتذاب مشاعره وتشغيله ضمن إستراتيجيتها الحتمية للبلاغة والتأثير أو الفاعلية الشعرية والنفوذ إلى عمق القارئ.
في مواضع وحالات معينة ترغب الذات الشاعرة في مجاوزة حال البطولة والأسطورية إلى نموذج الإنسان العادي المنسي، تجاوز حال الضوء إلى العتمة والأهمية إلى الإهمال، من حال الألفة إلى الوحدة ومن الجهل إلى العلم والعكس صحيح
في كل ما سبق، من الملل من أن يكون للإنسان إخوة إلى تمنى تلك الحال الهينة أو التي تبدو كذلك من تجليات الإنسان بأن يكون له إخوة ينازعونه الغطاء في رقاده، وهكذا.
تملك الإستراتيجيات الشعرية التي تعتمدها قصائد آلاء حسانين وبصفة عامة صوتها الشعري بما له من كل المقومات، تملك تلك القدرة الساحرة على النفوذ إلى عمق اليومي والعادي أو المعتاد وإنتاج الشعرية أو بالأحرى تقطيرها منه، في مآسي الإنسان العادية والعابرة أو الهينة التي ربما لا تلحظها لشدة ألفتها، وتنفذ إلى ما وراء هذا العادي وقدر ما يخبئ في باطنه من الشجن والإحساس بمرارة الفرص الضائعة أو الوقت المنسرب أو العدمية التي تقبع في أعماق وهم الحركة والصخب، فعلى سبيل التمثيل نجد أن فعل تقدم الإنسان في العمر أو كبره ومرور الأعوام عليه بما له من ألفة واعتياد التكرار مع كل البشر، تستطيع الذات الشاعرة أن تدرك ما يبطن من مرارة حتى وإن كان قد جرب كل شيء في الكون، تقول: “ومثلما يحصل عادة / حينما يصبح المرء كبيرا وينتهي تقريبا من تجربة الأشياء كلها / يتخلص الناس من أقدامهم وينشغلون بعد الأيام المتبقية في جيوبهم”.
فهنا يبدو سؤال النهاية التي ليست نهاية جبرية بل اختيارية هو المصدر الأكيد للمعاناة والألم والخوف والقلق والرتابة وكل ما لم تصرح به القصيدة من معان وقيم دلالية وحالات كلها سلبية، كل شيء يبدو ويتجلى في مرآه شعور هذه الذات الشاعرة بالصورة السلبية التي تهيمن عليها حال التشاؤم وتصبح النبع الأهم والأكبر للدفق الشعري، فحال الصخب والتبدل وثراء الحياة التي جرب فيها صاحبها كل شيء تقريبا تصبح هي ذاتها مفضية إلى كآبة وانتحار أو ما يشبهه، تجن كل الحالات تقريبا بداخلها ألما ما أو انتحارا بكيفية أو صيغة ما ولو خفية، فهؤلاء الذين يتخلصون من أقدامهم إنما ينتحرون ويرغبون في النهاية المبكرة؛ لأن حياتهم لم تكن في مجرد التنفس بل كانت في أقدامهم وحركتهم، وحين تخلوا عن هذه الأقدام بإرادتهم فهم منتحرون، يسعون للمل ولمزيد من العدمية والألم لأنهم قطعوا ذواتهم عن التجريب والحركة وعكفوا فقط على عد الأيام المتبقية في جيوبهم، وليس هناك في تصورنا ما هو اشد قسوة من تلك الحال التي تصبح فيها الحياة ثقيلة يستل أصحابها نفاذ ما تبقى لهم فيها.
والانتحار المتكرر في عدد من القصائد وقد يكون جائزاً رؤية الإهداءات ضمن هذا التكرار لأن كثيراً منها موجه إلى أصدقاء انتحروا أو يبدو منها أنهم قرروا الموت، أو كما كانوا كذذلك، أقول يأتي الانتحار المتكرر جزءاً من هذا النسق الشعري القائم على التبدل أو التحول وغياب البات وهو النسق الأبرز في انتظام هذه القصائد والحالات الشعرية التي تمثلتها المجموعة، ذلك لأن الانتحار ببساطة هو تبدل إرادي من الحياة إلى الموت، اجتياز اختياري لرتابة الحياة، أو هو قرار مفارقة واجتياز لها إلى ما وراءها أو إلى ما تتصور هذه الذوات المنتحرة أنه كامن وراء هذه الحياة، فهو في النهاية تبدل واجتياز الحدود الحياة وخروج عنها.
من ناحية البنية والإستراتيجيات البلاغية وتكنيكات القول التي تميل إليها قصائد المجموعة، نجد نسقا بنائيا بارزا وثابتا من المزج بين الإخباري والمشهدي، دمج السرد بالقول الإنشائي، وهنا تتجلى القصيدة في نسيج يمتزج فيه ميراث القصيدة العربية مع مستجدات العصر والحداثة وما بعدها، لنكون أمام قصيدة مرنة في بلاغتها وتكنيكاتها ولا يمكن تنميطها، فهي تتمثل بلاغة الصوت الصاخب بما له من سطوة التأثير عبر التنبيه والانفجار والصوت المرتفع والأسئلة والوقفات وجماليات إيقاع خاص للتراكيب واتساق البنية اللغوية عموما، وبجانب كل هذا مما قد يبدو كلاسيكيا نجد كافة تكنيكات القصيدة الحديثة من السرعة والاختزال والتكثيف الخاطف والسرد السينمائي ودمج الألوان وثقافة التداخل بين السمعي والبصري والتشكيلي والحذف أو المونتاج والقص والقفز في الفضاءات الزمنية والمكانية بنمط سريالي، أو وفق نوازع غامضة وخفية للقصيدة.
ومن أبرز هذه التقنيات في التأثير والفاعلية وبلاغة القصيدة هو ما يتحقق للقصيدة من مزج الإخباري بالسردي المشهدي والخبر بالصورة والصوت باللون والتحول بينها جميعا بشكل مفاجئ في كثير من الأحيان، كما في هذا المقطع على سبيل التمثيل: «أصبنا بالتعاسة بسبب آبائنا على الأرجح/ بإمكانك تبسيط الأمر لأي غريب في حانة في حال سألك عن صباحاتك/ ولم تبدو غائمة/ الآباء.. بعدها يصبح كل شيء جليا » هنا ثمة تحول في مساحة صغيرة بين الخبري متمثلا فيما يصرح به الصوت الشعري بشكل ذاتي، حين يعلن في المطلع «أصبنا بالتعاسة بسبب آبائنا على الأرجح»، ويتحول الصوت بعد ذلك بشكل كامل من هذه الذاتية المتمثلة في الخبر إلى الغيرية الناتجة عن المشهد، أو بالأحرى التي ركبها وجسدها بعد ذلك في هذا المشهد، الذي أوجد له الصوت الشعري بطلا بشكل خاطف تمثل في (المخاطب) في كلمة (بإمكانك)، ليكون لدينا في هذه المساحة الصغيرة جدا من القول بؤرتان للفعل وإن كانتا متفاوتتين من حيث المركزية، لأنه واضح أن البؤرة الأولى الخبرية (الذاتية التي تأتي على لسان الذات الشاعرة هي المهيمنة والمحركة أو المطلقة للبؤرة الثانية، متمثلا في هذا الشخص المصطنع بوصفه مخاطبا، فيتجسد في مشهد يجلس فيه مع أحد أصدقائه في حانة، ويسأله أحد الأصدقاء عن يومه الذي لم يكن غائما، فلا يجد إجابة غير كلمة “الآباء” يرد بها، لتكون كل الأمور جلية بعد ذلك ولا حاجة لمزيد من الأسئلة.
والحقيقة أن وراء هذه الكلمة ما وراءها من الإيحاءات غير المتناهية تقريبا بطبيعة الشعر الحقيقي الذي يكتنز اللانهائي من المعاني والاحتمالات التأويلية في أقل الكلمات والتراكيب، فكلمة «الآباء» إنما تؤشر في تقديرنا نحو البدايات الغامضة للإنسان، تؤشر نحو إرادة المجيء إلى هذا الوجود والانغماس في لعبة الحياة دون إرادة فهؤلاء الآباء هنا في تلك الحال الشعرية أقرب لهؤلاء الأشخاص السيئين الذين يأتون من الخلف ويقذفون بآخرين في حفرة عميقة، وهنا تتجلى صورة مغايرة لما ذكرنا في البداية من تجاوز نمطية صورة الأب أو الأم بأن يكون لهما تجليات عديدة، ليتجسد الآباء جميعا في حال من أسوأ أحوالهم في تصور الأبناء ورؤيتهم وشعورهم، بحسب مقاربة هذه القصيدة التي مالت إلى تمثل هذه الحال الشعورية السيئة بالإنابة عن كافة البشر المعذبين في هذا الوجود بسبب هؤلاء الآباء الذين قرروا بأن يغمسوا أبناءهم في هذا الوجود ولعبته جبرا، وربما يكون لهذه القصيدة الوجه الحداثي والجديد لمعنى ألقى به شاعر العربية المتفرد أبو العلاء المعري قبل قرون حين قال: «هذا جناه أبي علي.. وما جنيت على أحد».
تقارب قصائد هذه المجموعة عديد الحالات الشعورية لإنسان الراهن الحضاري والثقافي بأزماته وتفتته وغربته واغترابه وشجنه وانقسامه على نفسه وإنكاره لذاته أو للوجود، لحالات الإدمان على المخدرات واليأس والملل وتعاطي الجنس مع الغرباء أو النوم على الأرصفة أو الثورة على الحكام أو التمرد على الموروث والجامد من المفاهيم، تصور حالات من الوطنية الخالصة والتضحية في سبيل الوطن وأخرى من التمرد عليه ورفضه أو إنكاره، حالات من ائتلاف الغربة واستوحاش الأليف والمعهود وغيرها الكثير مما يتجلى في الحياة الراهنة وإنسان اللحظة، وبخاصة الإنسان العربي الذي ينكره كل العالم ويصبح نتوءا أو شيئا قبيحا في وجه العالم بحضوره وثقافته وكل أشكال وجوده عبئا وقبحا وتشوها لهذا العالم المستقر المستمتع السعيد بكل ما لديه.
في المجموعة أكثر من قصيدة قاربت الثورات العربية وحال الحرب السورية بأثرها على الإنسان السوري الذي تبدل وأصبح آخر وفق التصور الشعري الذي يجعل من الموت شبحا يبدل هيئات البشر تحت ثقل مطرقته الكئيبة المرعبة، وكيف هي حال الإنسان العربي عموما والسوري بخاصة في ظل هذا الشتات والهجرة والقتل والطائرات التي تقذف بالموت على الرؤوس، لتكون هذه الذات الشاعر في تقديرنا عبر تلك القصائد قد كشفت انحيازا إنسانيا واضحا لكل مظاهر الوجع والألم الذي يحاصر حياتنا أو تتلون به، انحيازا صريحا لكل ما هو إنساني وعداء لكل ما يسبب ألما أو يزيد فيه أو يتواطأ على هذا الإنسان الذي يبدو ضحية وفريسة لوجود لم يختر شيئا منه، ومن هذا الإحساس بفكرة الضحية تتشكل الحال الشعورية الأبرز وهي التشاؤم واستيلاده من كافة مظاهر الحياة وتجلياتها، ولو كانت الزهور أو المواليد الجدد وضوء الأقمار والنجوم ولمعانها فوق الأنهار، أو غيرها مما دأب الشعراء على أن يروه بشكل رومانسي حالم.
تقارب المجموعة حالات عديدة من الانسحاق الإنساني والضعف المتبدل الذي يتجلى فيه واضحا أثر الزمن أو نزق الإنسان وملله ورغبته في المغايرة، فالقوة نفسها والصحة التي قد يتمناها ويجدها في غاية اللذة قد تكون هي بذاتها مصدرا للملل والألم وتصبح دافعا للتمرد؛ فنحن دائما أمام ذوات تستعصي على الثبات أو الاطمئنان، بأي شكل من الأشكال، أو على أي حال شعورية معينة، فنجد مثلا تصویر
حال الضعف لدى الآباء حين يكبرون وتبدل مشاعر الأبناء تجاههم، أو حال اللامبالاة التي تهيمن وتصبح هي الأقوى ثم دون وعي تختفي وتحل محلها حال أخرى.
وإجمالا يمكن القول إن ثراء صوت الاء حسانين الشعري يصبح دافعا في تقديرنا إلى درسه ومقاربته من أوجه عديدة ومن كل زاوية، ربما على انفصال أو اتصال مع الزوايا الأخرى، فالصورة فقط لديها في جدتها وطزاجتها ومقدار ما بها من خصوصية جديرة بالبحث والدرس لكشف الأنساق الحاكمة لها وكيفية إخضاع القصيدة لهذه الصور في إستراتيجيتها الشاملة، بشكل كبير من العفوية، أو كيف تتشكل هذه الصور مدفوعة أو مرسومة بالحال الشعرية الجامعة للقصيدة، وكذلك اللغة في اتصالها مع التراث وانفصالها عنه في الوقت نفسه، وكذلك صورة الأب أو الأم ورمزية القديم والجديد وصراعهما القديم المتجدد بكيفيات مغايرة وبشكل غير مباشر في هذه القصائد، وكذلك المكون الديني والميتافيزيقي في هذه القصائد ورؤيتها لما بعد الموت أو ما رواءه، وغيرها الكثير من الجوانب المهمة والثرية الجديرة بالبحث والدرس.