حينما صاح الغيطانى: مجلس حرب!

جمال الغيطاني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن عبد الموجود

أول مرة انتبه فيها الأستاذ جمال الغيطانى إلى وجودى فى “أخبار الأدب” كانت بالتزامن مع الضربة الجوية الأمريكية للعراق، فى نهاية التسعينيات. كنا فى رمضان نحضر إلى الجريدة بعد الإفطار، وأشاهده يمرُّ عبر الصالة فى الدور الثامن من المبنى الصحفى لمؤسسة “أخبار اليوم”، مبتسماً، يرفع يده محيياً الموجودين، وربما يتوقف أمام أحدهم ليتبادل معه حواراً سريعاً، أو يصطحبهم إلى مكتبه. كنت أسأل نفسي: متى يكون هنالك حديث خاص بينى وبين الروائى الكبير؟

فى هذا اليوم خرج من مكتبه ممسكاً بحقيبته الجلدية الضخمة قائلاً إنه يشعر بالإرهاق وسيغادر إلى منزله، نهضنا لنحييه، وعدنا لاستكمال حديث ما، قبل أن نفاجأ بأقل من دقيقتين بالباب ينفتح مرة أخرى بقوة، وبالغيطانى يعبر منه عائداً إلى مكتبه، وقد اكتست ملامحه بمزيج من الجدية والقوة، وبدا كما لو كان يعلن صيحة الهجوم: “مجلس حرب”. كنت مندهشاً للغاية، ولا أفهم ما يدور حولى، لكن ما كنت أراه بوضوح هو أنه خرج قبل أقل من دقيقتين شخصاً وعاد شخصاً آخر.

دخلوا جميعاً إلى المكتب وتركونى وحيداً. كانوا يتركوننى وحيداً دائماً فى البدايات، غير أن الباب هذه المرة، باب مكتبه، انفتح فجأة، وأطل منه وجه أحد الزملاء، الذين أحبهم، قائلاً: “الأستاذ جمال بيقولك تعالى احضر معانا”. كانت تلك لحظة تاريخية بالنسبة لى، أن أحضر أول اجتماع مع الأستاذ.

رحب بى بحفاوة، وأشار إلى ركن خال من الكنبة الجلدية السوداء فجلست، وفهمت أنه قرر تغيير العدد الجديد من “أخبار الأدب” بالكامل، قال إنه لن يصبح عدداً عادياً، وإنه لا وجود للتبويب الأسبوعى، قرر الأستاذ جمال أن يخصصه للعراق، وكان عليَّ، كما كلفنى، أن أحضر شهادات من مثقفين توثق لما يجرى. كانت تلك اللحظة بداية معرفة بجمال الغيطانى “الإدارى العظيم”، سأكون كاذباً بالطبع لو سقت الموقف السابق لأقول إنه لم يكن مهتماً بمواعيد تسليم المادة وإخراجها وتسليم الأفلام إلى المطبعة فى توقيتات محددة وصارمة، فالغيطانى كانت تنتابه كوابيس بسبب التأخر فى تسليم مقال ما، وكان يظن أن الجريدة قد تصدر بصفحات بيضاء، لكنه، وكما كان يحترم المواعيد، إلا أنه لا يرضى أبداً بـ”تكفين الجريدة”، أن تكون مادتها بتعبيره مثل “الطبيخ البايت”.

كان قلقاً دائماً ويطلب من محرر واثنين وثلاثة أن يقرأوا تلك المادة، أن يقولوا آراءهم، وكان يحدث أحياناً أن يتفق الجميع على أنها جيدة، ومع هذا لا يقتنع، ويرفعها فى اللحظة الأخيرة من البروفات، ويضع مادة بديلة لها. كان ديكتاتوراً حينما يتطلب الأمر، وديمقراطياً حينما يرغب، وكان مقنعاً فى الحالتين.

كان مهتماً بكل التفاصيل، مهما صغر شأنها، وأتذكر على سبيل المثال أنه كان يطلب منا دائماً أن نفصل فقرات الأعمدة الطويلة بمجموعة من الدوائر أو النجوم الصغيرة، قائلاً إننا يجب أن نضع كبار السن فى اعتبارنا. ونسينا ذلك فى إحدى المرات، وجاء موعد اجتماع الخميس، وكان يضحك، كان يضحك حتى رأى الأعمدة الطويلة مصبوبة صباً بدون فواصل، ولأنه يعرف أننى المسئول سألنى بغضب: “ليه ما كسرتش الأعمدة الطويلة دى؟!”، وببلاهة منقطعة النظير ابتسمتُ على اعتبار أن الأمر بسيط، وتكهرب الموقف فجأة لأنه سألنى بغضب متزايد هل ما أسألك عنه يستدعى الضحك؟! كان مبالغاً بعض الشيء دائماً، ابتسامتى البسيطة رآها ضحكة مجلجلة، وجعلنى هذا الموقف أفهم مبالغته المفاجئة أحياناً، فمثلاً لو أخطأت وهاتفته فى العاشرة مساء كان يتهمك فى اليوم التالى بأنك اتصلت به فجراً، ويقول إنه يحتاج إلى مبرر قوى لإزعاجه فى ذلك التوقيت، لكنه، بالطبع، لا يفعل ذلك إلا إن كان غاضباً منك لأى سبب، ولو كان راضياً عنك تستطيع أن تفعل ما تشاء، لكن تذكر دائماً أنه يُخزِّن فى عقله المشهد تلو المشهد، وأنه يستطيع استدعاء ما يدلل به على تسيُّبك واستسهالك وعدم التزامك الدائم، وكالعادة، يصدِّر الغيطانى عن نفسه فكرة الشخص الذى يعانى ألزهايمر، وفى لحظات غضبه ستكتشف أنه كان يسجل تصرفاتك فى دفتر.

كان منظماً بشكل خيالى، بمجرد جلوسه على المكتب يخرج مقلمته، كل قلم يستخدمه فى أمر معين، كان يخصص لوناً للتوقيعات الإدارية، لوناً للكتابة، الورق المسطر للكتابة الصحفية، الورق الأبيض لأعماله الإبداعية، بمجرد أن ينهى مقالاً يطلب من مساعده نسخه عدة نسخ، يضعها فى الأرشيف، من السهل جداً أن تجد مئات الأوراق بخط يده، فقد كان حريصاً على الحفظ، فى مواجهة عملية المحو التى تحاصره، كان يريد نقش اسمه كفرعون على الأوراق، كثيراً ما وقعت فى يدى أوراق كان يتركها على مكتبه، وقد ملأها بتوقيعه، لم تكن هذه إشارة إلى أنانية كما قد يفسر بعض أساتذة الخطوط، بالنسبة لى، بقدر إشارة إلى رغبته فى تدوين اسمه على كل أوراق العالم، لطالما أراد أن يُخلَّد اسمه، ألم يخصص لـ”الاسم” كتاباً كاملاً هو “الرن” محاولاً إدراك كيف يؤثر “الاسم” على صاحبه، كيف يبقيه أكبر من عمره؟! كان الغيطانى فرعوناً ضل زمنه، ولم يعد مسموحاً له بالنقش على الجدران فلجأ إلى الأوراق ليحافظ على اسمه.

كان الغيطانى يكتب مقاله مرة واحدة بدون تلعثم، أو توقف، تنظيمه واحترامه للكتابة جعله الأكثر غزارة بين مجايليه، ربما هو الوحيد الذى ينافس أستاذه نجيب محفوظ من حيث الغزارة، ولا أظن أن الأجيال اللاحقة ستصل إلى غزارة الاثنين. كان الغيطانى يتحدث عن الإلهام أحياناً، لكنه لم ينتظر الإلهام مثل نجيب محفوظ. سيبدأ الكتابة فى أى وقت يشاء من النقطة التى انتهى عندها بالأمس.

لم يعقه عن الكتابة سوى المرض، لكنه كان ينهض فى كل مرة مواصلاً مراكمة ذلك الإعجاز الضخم، هرم الكتب، الذى يجمع بين فرادة المبنى وضخامته.

كان إدارياً لا يشق له غبار، يستطيع المواصلة إلى ما لا نهاية، نتساقط أمامه ضجراً، بينما يواصل هو استمتاعه بالعمل المكتبى، يواصل معاركه الصحفية ويفاجئنا، رغم تركيزه البالغ فى تلك المعارك، برواية جديدة كل فترة. كنت أسأل نفسى باندهاش عظيم: “ما هذا؟!”. كنت ألفظ أنفاسى كلما كتبت بضع صفحات فى عمل جديد، بينما يضع فى يدى “مخطوطاً مكتنزاً” ويقول إنه “عمل نحيف”. كان يتحدث عن مائتى صفحة، كأنه يتحدث عن قصة قصيرة.

كان اجتماعنا يستمر أحياناً لساعات، وحين نبدأ فى التقاط أنفاسنا بالكاد ينادى على أحدنا، ويقول إنه يريد مناقشته فى خطط استراتيجية للجريدة، ثم يبدأ فى حديث جديد طويل بينما يكون هذا الشخص على وشك البكاء. كان يستمتع بكل ما يفعله، وربما هذا ما منح “أخبار الأدب” بريقها، إذ كان مؤمناً بها وبنا، وبقدرتنا على خدمة الثقافة والإنسانية، كان مدهشاً ذلك التصميم العظيم، تلك القوة المفرطة، رغم أنهما صادران عن قلب متعب ظل يعانى آلاف السنين، كما كان مدهشاً تواضعه البالغ الذى جعله يعاملنى كندٍ له فى معظم المواقف، لا أنسى أبداً أنه كان يقدمنى إلى كل ضيوف الجريدة باعتبارى نائب رئيس التحرير، فى وقت كنت فيه محرراً تحت التمرين، لا يملك إلا ربع بطاقة مهترئة.

مقالات من نفس القسم