حسني حسن
لم يصدق عينيه!
بالقطع ليس هو، يستحيل أن يكون.
راح يقترب منه، رويداً رويداً. كان يستشعر استثارة وفضول لم يجربهما، على هذا النحو من قبل، قط. عدّ نفسه، دوماً، ممن يفتقدون، كليةً ونهائياً، لروح الدهشة وحس الصدمة، وما كان سعيداً، ولا تعيساً، بذلك، كجميزة عجوز شائخة، تقف وحدها، ضجرة، من كل أولئك الرائحين والغادين إلى اللا مكان. لكنه اليوم، قد استحال عشبة طرية بازغة بتفجر نسغ التوق، المتصاعد في عروقها، إلى يقين، ما، بشأن ما تبصره عيناه. اقترب من المقعد الخشبي، حائل اللون والذي نخره السوس، لمحطة قطار القرية الصغيرة النائية، حيث يجلس، ملموماً على ذاته، متدثراً بها. كانت هيئته الزرية، بقفطانه الترابي اللون والرائحة، وبلحيته الكثة المتهدلة على صدره ببياض السنين، الكثيرة العدد، العصية على الإحصاء المدقق، وخاصة بيديه الكبيرتين، الخشنتين المتشققتين، كيدي قن لم يغادر، يوماً، حقول السادة، تغريان المرء باقتحامه، دون خشية من العواقب. غير أنه، وبالرغم من ذلك كله، ظل يكابد رهبةً مكتومة كانت تدمدم، محذرةً ومشفقةً، في زاوية ما من القلب. جلس إلى جواره، دون صوت، محاذراً إيقاظه بعنف تطفلي من حلمه السادر مفتوح العينين على ما لا يدري. رفع رأسه الثقيلة ببطء، من فوق العصى الغليظة، ليقطع لديه كل شك ظل يرعى بداخله، حتى اللحظة، وليخترقه اليقين.
-إنه هو، بلا ريب، بجبهته العريضة ناتئة العظام، بحاجبيه الكثين فوق عينيه الغائرتين بعمق في محجريهما، وبنظرته النفاذة الحادة، كالنصل، يواجهني بها، في عيني مباشرة، فلا أملك إلا الانسحاب أمامها، بأقصى سرعة؛ نظرة لا يقدر على الإتيان بمثلها سوى كونت “موسكوفي” عجوز، طَمَحَ، ذات مرة، في ألا يغدو، بعد، مجرد كونت “موسكوفي” عجوز، وإلى أن يصير نسخةً أرضيةً عن إله، يفوق كل إله، سبق له أن رفع الصلوات لجلاله.
حدَث نفسه، متأرجحاً، على شفير الخيط، الرفيع اللا محسوس والممتد بين حافتي تلك المنطقة، الخطرة الجذابة، ما بين الشك واليقين.
-تتساءل عما إذا كنت أنا هو، أليس كذلك؟
همس الكونت، بهدوء، وبصوت عميق النبرة، وإن لاح له محايدًا، ضجراً، ومتشققاً، في آن.
-كنتُ، قبل مجيئك، مستسلماً، بكليتي، لشمس شتائكم اللطيفة هذه. كما ترى، المحطة خالية، وتلك السحلية، الصغيرة اللطيفة، تتمطى بكسل تحت أشعة الشمس الدافئة. إنها سعيدة، سعيدة ومكتفية، أمّا أنا، فقد كنتُ أستغرب نفسي! لماذا هي هي؟ ولماذا أنا أنا؟ لكن دعني مني، وقل لي عنكَ أنتَ، كيف وصلتَ أنت إلى محطتي؟!
هدر بالحديث، بغتةً، قاذفاً بتأملاته وأسئلته في وجه محدثه، من دون أن يعطيه فرصة للرد، أو حتى مجرد فسحة لتقليب النظر فيما يطرحه عليه، وكأنه غير موجود، وكأنه محض ماعون بشري يقذف في أذنيه أحلام صحوه الغافي. اعتدل في جلسته قليلاً، وراح يحدق في وجهه، بطيبة مستجدة هذه المرة، بعد أن تخفف من حياديته وسأمه الأول.
-لقد افتقدوك، كثيراً، هناك في “يوسنايا بوليانا”، وفي روسيا كلها، وقلبوا الدنيا سعياً في أثرك أيها الكونت.
نطق، أخيراً، مبهور الأنفاس، مشدوه الحواس، ومنذهلاً، بكل ما يحيط بالموقف.
-أين كنتَ كل تلك العقود؟ وكيف صلت إلى بلدتنا النائية هذه؟ بل كيف واصلتَ العيش طول تلك السنوات، التي تجاوزت القرن، أنتَ الشيخ العجوز؟!
افترت شفتاه، الشهوانيتان الشهيرتان، عن ابتسامة مشفقة الآن، فيما راحت يداه، الضخمتان المعروقتان، تضغطان بعنف مكبوح على عصاه الغليظة، في محاولة، غير مستترة، للجم شلال التوق للبوح والإفشاء الذي لا يليق، ربما، بالصنّاع والآلهة، بالصنّاع من الآلهة.
-إلى محطة قطار أخرى، أضخم من هذه المحطة، وأشد زحاماً، وأكثر حركة وامتلاءً بالحياة، جاءت السيدة “كارنينا” لتنهي أوجاع وجودها بضربة يائسة واحدة وأخيرة.
همس الكونت متذكراً، قبل أن يتابع:
-لعلَها، في ذروة القنوط، كانت أشجع مني. ما الذي حدث بالضبط؟ لقد أيقنتْ أنها ما عادت صالحة للحياة. الحب ينقضي، ويُخلي مكانه للتفاهات اليومية، وللضجر الاعتيادي، ولقدرة الإنسان، اللامحدودة، على إيقاع الألم بالإنسان، على تعذيب من يحبهم، قبل غيرهم. أما “ليفين”، فقد توهم أنه أنقذ نفسه بالإيمان، وبالقدرة السحرية الشافية للعمل! هل يؤمن أحدٌ، حقاً، بقدرة العمل على شفاء النفس من محنتي الحب والوجود؟
تساءل، مرتبكاً قليلاً، ومتطلعاً، إلى شفتي محدثه، كما يتطلع غريق يائس بقارب شاحب يُخايل عند الأفق البعيد.
-الكونت الذي جرؤ على الصراخ، مرّة، إن حذاءً في قدمٍ عارية خير من كل مؤلفات شكسبير، والذي وزّع أراضيه الشاسعة على أقنانه، وراح يؤلِف لهم كتباً في التهجي ومبادئ القراءة والكتابة والحساب، بل واشتغل لهم اسكافياً يرقّع أحذية “الموجيك”، ذلك الكونت المتأله، يسألني، أنا، عن هذا؟
أصغى إلى محدثه صامتاً، قبل أن يرفع عينيه المخضلتين بدمعة متحجرة، متسائلاً:
-أوقلتُ هذا حقاً؟ أوفعلتُ هذا حقاً؟ تعرف! لقد أحببت “بيير بيزوخوف”، أحببته أكثر من أي رجل آخر عرفته، أحببته وأنا أعرف أنه أخرق، وأنه سريع الاستهواء، مندفع في حماساته الرومانتيكية التي لن تقوده إلا للضلالات الماسونية أو للدروشات الشعبية ل”أفلاطون كاتاريف”، وكان صديقه الأثير “بلكونسكي” يحبه مثلي، ولذات الأسباب، لكنه كان، بدوره، مثخناً بجراح حُلم من قماشة أخرى، حلم البطولة والمجد، الحلم “البونابرتي” العظيم المغوي والتافه، وفي “استورليتز” انقشع الغيم عن ناظريه، بغتة، وفي اللحظات الحرجة الأخيرة، قُبيل تحطم سفينة الحلم، بل والحياة نفسها، على موجة “البونابرت” الأصلي نفسه، ليلوح كل شيء، أخيراً، على نحو ما لاح، معكوساً، للسيدة “كارنينا”، السماء المتسعة، الأوسع من روح الإنسان ومن حلمه، السماء المرصعة بنجوم لا نهائية العدد، باحتمالات للوجود خارج الوجود، بلا حصر، السماء اللامبالية، وربما الضجرة، هل تفهم ما أعني؟
هزّ له رأسه مجاوباً. صحيح أنه لم أكن واثقاً، تماماً، من فهمه الدقيق لما عناه العجوز، لكن قلبه راح يحدثه أنه يعي، وبدأ يضطرب في صدره، بشدة.
-سألتَني كيف بلغتُ بلدتكم هذه، البعيدة، والحقيقة أني لا أدري، على وجه اليقين. لقد هربتُ من البيت، في “يوسنايا بوليانا” لا ألوي على شيء. فقط أردتُ المسير أملاً في شق سماء “بلكونسكي”، والولوج إلى قلبها، وما ورائها. خلتُ أني قادر على المضي حتى أبلغ حافة الأرض، فلا تعود تتبقى إلا خطوة وحيدة لتنزلق القدم نحو الفراغ الشامل المضيء والمعتم، فهل ترى خطوي؟ الطيران سيراً، والتحليق مشياً على قدمين، أو حتى زحفاً على البطن، غير أني لم أبلغ إلا ألف ألف “استورليتز” أخرى، وألف ألف حريق موسكو آخر، فأينما ذهبتُ، ومهما تأخرتُ أو بكرتُ، لن أصادف إلا الحرب والمجاعة والحريق والانتحار، والأخطر من ذلك كله؛ التكفير والتخوين . عشتُ لأرى القيصر يُشنَق، و”ستالين” ينصِّب نفسه قيصراً أحمر، و يُرسِل خلف “تروتسكي” من يذبحه في المكسيك. وعمّرتُ لأشهد قرناً عجيباً يأخذ البشر إلى القمر، ويأخذ منهم مائة وخمسين مليون نفساً، في محارق امبريالية، هزلية في تراجيديتها. وشِختُ لأتابع أحداثاً، عجيبة، يزعم فيها بعضهم أنهم موعودون بالجنة وبالأبدية، لا لشيء إلا لأنهم قد وضعوا حول خصورهم أحزمة ناسفة، وبعثروا أشلاء مخالفيهم في الاعتقاد، كتقدمة منذورة للرب. والآن، هل ترى مقدار ما أعانيه من اليأس، ومن الضجر؟!
أومأ له برأسه مجدداً، وبدون كلمة إضافية، نهض عاقداً العزم على ترك الشيخ لحاله، ليمضي، هو الآخر، في حاله. أولاه ظهره، مُنتوياً عدم الالتفات للوراء، مهما جرى. لم يكن قد ودَع، نهائياً، مدار جاذبيته، حتى أتاه صوته متهكماً:
-لا قطارات تسافر من هنا، أبداً. لا قطارات تصل إلى هنا، أبداً.