رشا أحمد
لن يكف قارئ رواية “باب الليل” لوحيد الطويلة عن تلمس طريقه هو الآخر، تحت فضاء هذا العالم المغوي، وماهيته المترامية المتجددة في جسد الطبيعة والبشر والأشياء.
إن السؤال المحوري، سيظل يرافق هذه الرواية، سواء في طبعتها الثانية عن دار بتانة أو في طبعات أخرى: في أي شق من شقوق الليل وعلى أي جسد سيجد القارئ ذلك الطريق، في رواية تكرس عوالمها لاستكناه واستعراض العلاقة الإنسانية لشخوصه الواضحة إلى حد الغموض، رواية تعرض للقارئ من جهة حياة فتيات الليل ومن جهة أخرى حياة المخبولين والهاربين والمشردين، من عالم البشر والسياسة والنضال ضد كل شيء ولا شيء معا.
إن ستارة الليل المترامي الأطراف تتكشف كالبرزخ بين هذين العالمين خضم، وتتشكل في إيقاع سردي يمزج بأناقة مخيلة، بين الخفة والثقل ـ ما يجعل القارئ يدرك أنه يقرأ الرواية وهي تنمو بين يديه، تترعرع بدرجة نستطيع معها تمييز الفرق بين أشكالها المختلفة في بنائها، ونرى في جسدها آثار حيواتها السابقة، فهي تأخذنا بهدوء من الدوران الرتيب المعاصر للأشياء المقننة والمحددة بإطارات هذا العالم، إلى الحياة الأخرى التي لا يتبع فيها أبطالها الإطار نفسه بكل الأدوار، ولا يبقي لأحد أي شيء.
هل رواية باب الليل رواية النساء الجريحات أم الرجال المهزومين، أم أوطان لفظت مواطنيها.. مزيج من الشخصيات تدخل من باب أحد المقاهي التونسية، مقهى “لمة الأحباب”، كل الجنسيات العربية من نهر الفرات لحدود جبال الأطلسي، غانيات ومناضلين شحاذون ونبلاء، مجانين وعاهرات، خلف كل هذا قلوب منكسرة، تشف عن معادلة الإنسان العربي المهزوم المهموم الموجوع.. فهل يقصد وحيد الطويلة أن مقهى لمة الأحباب كوطن بديل يجمع كل المخبولين، وهل أراد من خلال “باب الليل”، أن يستر ويعري الأجساد والأرواح المعطوبة والأوطان الجريحة ؟؟
“كل شيء يحدث في الحمام”:
الطويلة روائي ماكر يخدعنا دائما بعنوان يشي بكثير من اللذة والشبق لتكتشف فجأة أنك وسط عالم إنساني يتلاقح فيه الوجع والألم والهزيمة والخيبات العربية والانكسارات… فلسطينيون مغلولو الإرادة، لا يستطيعون العودة لديارهم أو الحرب من أجلها؛ “لمة الأحباب” المقهى الأم الذي لم يكن سوى ملجأ للمعطوبين والمقهورين، بعين حكاءة متميزة، يفتح الطويلة بابها، لتتسرب في الظلال والشقوق، وفي بياض العتمة، القضايا الكبيرة، وتتناسل واحدة تلو الأخرى، كأنها زبون دائم ـ وفي حضرة حكّاء، هو ابن المقاهي وعاشق لها، على طاولاتها يجيد اللعب مع الكلمات والسرد الذي يجعلنا دائما على شفا متاهة من الأسئلة كلعبة بازل، نتابعها ونتحسسها، وندخل عالمها بشغف ونخرج منه بشغف أكبر.
إن العنوان، “بوصفه ملتبسا، هو تلك العلامة التي بها يفتتح الكتاب: من هنا يجد السؤال الروائي نفسه مطروحا، وأفق انتظار القراءة معينا، والجواب مأمولا من العنوان. إن القارئ يجهل ما في داخل النص، وهو بحاجة لعنوان يبدد القليل من عدم اليقين، حيث تكون القراءة، هذه الرغبة في معرفة ما يسترعي الانتباه على الفور كحاجة للمعرفة وإمكانية لها”.
هكذا يتحدث فانسون في كتابه “وظائف العنوان”، مشيرا إلى أن له وظيفة تحديد الكتاب، كالاسم الذي يحدد شخصا، ووظيفته ووصفه، إذ يمنح العنوان القارئ إشارات عن محتوى الكتاب. وهناك القيمة الإيحائية للعنوان والتي تحيل إلى المعاني التي يتضمنها النص، وأخيرا الوظيفة الإغوائية، فأحد الأدوار الرئيسية للعنوان هو إغواء الجمهور، وشد انتباهه، و تحديدا كما وصفه في “آلام فيرتير” يوهان غوته بقوله : “إنّ العنوان الجذّاب هو قوّاد الكتاب الحقيقي.
ولا ريب أن معايير الإغواء، هي م يؤسس عليه الطويلة عنوانه، حريصا على على بنية تواصلية يثيرها الغنوان، قائمة على مرتكزات هي: المؤلف والقارئ
والنص والعنوان، الذّي عدّه النقاد العنصر المركزي في البنية التّواصلية. فإذا كان العنوان يعلن، فإن النص الروائي يفسر ويجلي إيماءاته، فلا يمكن دراسة العنوان دون النص والعكس صحيح. فالعنوان يمثل هوية النص، التي تميزه عن غيره، ويفتح ذاكرة المتلقي، وخياله على عالم إبداعي جديد، يُشبع رغباته الجمالية.
برواية باب الليل يشرع وحيد الطويلة أبواب الليل ليكشف عوراته، ولتهمس أرواحه المهمشة بآلامها.. في باب الليل الكتابة الجيدة دائما قابلة للاحتمال ليقدم عالما مدهشا من تضافر الواقع مع الخيا،. الوهم مع الحقيقة.. في عالم الليل العالم التي طغت به المادية وانهزمت فيه القيم والأخلاق تطالعنا شخصياته التي تعيش الاغتراب الذاتي، في ما ” يحدث في الحمام”،وتنتهي أيضا بها، وكأننا ندور في حلقة مفرغة، تختلف الشخصيات والأماكن، لكن الأحداث واحده مع فارق الوسيلة أو الغاية من ذلك.. قد تعتقد بالبداية أن الكاتب يتحدث عهر ومجون ممثلا في فتيات الليل وكل ما يصادفهن، لتصدم بأنه يحكي عن عهر مواز، عن وطن يتحكم به أشخاص فاسدون مدعو فضيلة تحت عباءة الدين.
حيوية درامية وتعدد خطابات :
تتعدد الخطابات في الرواية، وتكتسب حيويتها دراميا من خلال تعدد الشخصيات، و مطامع وآمال كل منهم، لكن النهاية واحده وهي سقوط الأقنعة، وشتات الجميع لكن اللعبة ما تكاد تنتهي لتبدأ من جديد، حيث تحضر الذاكرة بحكاياتها، ومحمولاتها في الرواية، ولكن ليس كأثر لصراع. كأن الصراع الذي صار صراعاً في باب الليل لزمن مضى زمن أخطاء وهزائم ومقاومة، يصطدم بما تبقى من غباره، كأنه فعل مقاومة مبدَّد، وفي حالة حيثيات مختلفة، عن عدم المقاومة، عن الصمت، عن الغربة.. ورغم تعدد التيارات والاتجاهات والأيديولوجيات التي تحلق في فضاء الرواية، فإن معانة الشعب الفلسطيني ونضاله لاستعادة أرضه وحقوقه المشروعة تقف في صدارة المدخل الرمزي للرواية.
لقد كُتبت عشرات الروايات عن فلسطين الواقع والمعاناة، وسواء أكانت هذه الروايات ذات منحى كّلي أم جزئي، فلا نعدم أن نجد في شخوصها ما أطلق عليه هيجل”البذرة المثالية” وسط ضجيج الهموم الذاتية، والانشغالات اليومية التي تنهك الإنسان بالمحافظة على نفسه الفردية، لكن أمام عوامل الفناء الظاهرة والمستترة، كيف يتسنى لنا أن نميز هذه ” البذرة” من غيرها، ونراقب الوعي بها ابتداءً من كمونها في الذات، إلى انكشافها وانتظامها في خيط متصل، وتجليها في حركة الزمن.
لجأ وحيد الطويلة لسبر الحكاية من أقصى الوجع ليقدم لنا شخصيات عانت وتألمت واجترت الحزن بصمت وإن بدت على خلاف مظهرها. مدركا أن الشخص في هذه الحالة إذا لم يعد ممتلكا لجوهره، تحت قبضة الوعي واللاوعي، فإنه يصبح مغتربا عن ذاته وطبيعته الجوهرية في الوقت نفسه. فالذات عندما تصدم بالحواجز المجتمعية مثلا، وتتوقف عن نموها الطبيعي، أو “أضفي الغموض عليها أو تعرضت للاختناق، فهي ذات تعيش حالة اغتراب ذاتي”.. هكذا يصرخ السارد الكاتب في الرواية مجسدا هذه المعاناة:” أصبحنا بقايا، الحكاية كلها بقايا، بقايا نضال، وبقايا حياة، هنا لا أعيش ولا أموت”.
بمقهى “لمة الأحباب” الذي يعج ببائعات الهوى والمغربين واللاجئين حيث كان المقهى الملاذ الآمن لهم من القهر، تبرز مشهدية السرد والحكي دون ثغرات أو فواصل، فكل أبواب الحكاية تنهض كجسر، يقف عليه القارئ والمؤلف، يتأملان أبوابها الخمسة عشر، كأنها قوس واحد وموجة واحدة، بدءا من “باب البنات” وحتى لطشة الختام “باب النساء”، تتعدد خطابات الشخوص. لكن يظل المقهى هو سيد الحدث، وبؤرة الإيقاع، يجمع مرتاديه ، ويقيهم شر الضياع، فهنا من يبحث عن الوطن، وهنا من يبحث عن الدفء، وهنا من يبحث عن الانتقام.عالم طبيعي ملئ بالأحقاد. والعاهرات والمناضلين الزائفين والحكاوي الليلية العادية التي من الممكن أن تقابلها في أي مكان.. بينما يراقب المؤلف المشهد من كل الزوايا، يقرب العدسة ويبعدها، ويجعلها في المنتصف أحيانا، ويبقيها على الحافة أحيانا أخرى، ولسان حاله يقول : “نصنع أحيانًا اللعبة ثم نصدقها ونذوب فيها”.
المكان يتصدر البطولة :
لا يقف المكان عند حدوده الطبيعية كبطل للرواية الرواية، في إطار مقهى “لمة الأحباب” فهي رمز للوطن الضائع من الجميع، وفى نفوس وقلوب الجميع وليس كأى وطن أو مجرد بلد كمثل أى بلد، لا بل يتحدث في واقعه عن ألم الأمة الأكبر ونزيف القلب العربي الوحيد (فلسطين)، يجمع لك الكاتب المجاهدين والأنذال والوطنيين والكافرين بالأوطان والذين سقطوا سهوا من كشوف الحياة وماتوا وهم أحياء ببطء في مكان واحد يعج بالعاهرات وبائعات الشرف والأجساد وكلاب السلطة والمال حتى مدعين الدين.. وكما يقول الراوي: “هذا وجه استطيع أن أقابل به الله والشيطان ولا استطيع الدخول به إلى بلد آخر”
يكتشف القارئ لاحقًا أن كل الفصول مجرد تمهيد للانتقال الكلي، إلى بقية الفصول التي تستغرقها الرواية على تنوع وتكاثر شخوصها، حيث كل شخصية لها سماتها وحكايتها الأبرز، وما كان من قبل مجرد أسماء عابرة بفراغات كثيرة تغدو ممتلئة بالحياة مع معرفة القارئ لحكاية تلك الشخصيات، التي قد تبدو بأنها تأخذ سمة محددة نهائية، فيما نكتشف بعد فصل أو اثنين أننا أخطأنا الحكم، وأن هناك الكثير مما لا نعرفه.
بالنظرة الدقيقة سنجد أن جسد الرواية لا يخلو من ترميم لاحق، وبضع تعارضات، منها مثلًا أن تستأثر شخصيتان في العمل بخطاب طويل لكن في المجمل يبدو ذلك كالتجديد الذي صعد عاليًا بالعمل وجعله يبلغ عسل الرواية، فختامها هو تمامها الداخلي، وتمامها الداخلي نجده في تلك الحياة التي تسيل بين أبواب الليل المتعددة والمختلفة، وتنتقل صورها بعفوية بين بيئة وأخرى، بين العشاق، والسكارى، والمنفيين والمنعزلين.. حتى الضحك يخرج عن أدواره:” الضحك يبعث فيهم روح التمرد والتوحُّش؛ إذ يخرجون من عباءة الوجع إلى سلطة المكان والمطلق، هناك حيث لا تحدك الحدود، إذ تقف في الصمت بينك وبين نفسك، لا فاصل بينكما، وإذ تستمع لترددات الزمن وتحولاته.”
هكذا تتكشف “باب الليل” عن أبواب متعددة، رغم ما توهم به من أن كل باب هو قصة مختلفة، وحياة مختلفة، مؤكدة قدرة كاتبها الاستثنائية علي الحكي، وخلقه من فجوات وعثرات الواقع والوجود، وتنويع مدراته لتصبح الكتابة الوعاء الأشهى لمحبة الحياة.