حلم 2

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

لا أعرف ما هي العلاقة بين هذا الكرسي الهزاز الذي ياتيني في حلم متكرر وتلك الاصوات. أنات إطارات كاوتشوك لعربة نقل بدفورد تقل والدتي، تحمل ثمار الجوافة، الدنيا ليل، أقول لنفسي في الحلم بعد الواقع، الدنيا ليل يا عم فرحات، لأجدني وقد عدت للزمان القديم، في أذني نفس الصوت. وأسفلت أسود وعربة خشبية تجرها خيول في الظلام أيضاً في طريق ميت الكرمة، وفي البعيد كيمان بطاطس مبعثرة تختلط بحبات عنب انفرطت للتو من فوق العربة الخشبية وأخي الأكبر يمسك أذنه اليسرى، يتمدد في الطريق ورجل حارس لقطعة أرض بور يحذرنا من قطاع الطرق، ودماء تسيل فوق سواد الطريق وصابرين تنتحب وتمسك بيد شقيقي، وأنا أنظرهم من بعيد في وجوم، أحدق للمصباح الكيروسين الذي لم يزل معلقا في الدنجل اسفل العربة، أنظر شعلة وحيدة تتارجح داخل زجاج يكسوه الضباب، العنب يبرق، ورجال أشداء تهرول في جلابيب صوفية يخرجن من الزراعات، منهم من يمسك ببطارية تنير للمارة، والثكلى والجرحى، والأحصنة تجرى في البعيد بعدما تخطت الطوبان وهرست العنب، العنب يبرق، وحصان وحيد يقف منتصبا بعرض طريق الدلتا..وأبي يركب عربة وحده، في طريق آخر،يدخل اول اتلعرب، يخرج من المدينة فجراً على صوت الدانات، يرقب المناطيد وكشافات الإضاءة المبهرة وهي تهبط خلف مقابر الكاثوليك. والمسلمين والأقباط. كانت الأمواج تقترب من الطريق التاسع والسابع المتهدم قبل الجرابعة وهم يسألونه عن بطاقته فيبرزها ويقول للضابط “مستبقي”، والكرسي يهتز في البعيد، وأنا أتابع الأحداث، ليست كذكريات في أيام مضت، ولكنها أحداث جسيمة، تتوارد على ذاكرة النائم، اليقظ، المستسلم لاحلام اليقظة ينظر الكرسي الهزاز في صحراء بعيدة ويسأل نفسه كل حين، متى كان هذا التاريخ، ومتى كانت الأحداث، وأين كنت أنت من كل ما حدث. في مكان جاف، قطعة من صحراء رملية غائرة تبتعد عن طريق المناصرة جنوب الشرق الواصل لمدخل المدينة الساحلية المنكوبة، كان أبي يرتدي بالطو أسود فوق حلبان صوف رمادي، يتحسس علبة سجائرة، ومنحة المهجرين، وولاعة رونسون سيلفر، وأنوار الفوانيس الامامية ساطعة في الطرق، عند قسم الميناء فجراً، عند البحر، قبل مدخل بورسعيد، في الطريق المسفلت قريباً من الدلتا وحبات العنب المنفرطة في أكوام تتلألأ وسط صراخ صابرين ونرجس وهانم التي خرست وباتت تعقد إيشاربها الساتان فوق شعر أصهب وكثيف، وأنا معلق فوق شجرة سرو قريبة من سماء الله، أرقب اللصوص، قطاع الطرق الآتيين من زرعات القصب وقد ظهر الطين عالقا بأحذيتهم البالية.

بت أرقب فتخايلني فردتا حذاء أبي اللامع، الحذاء الكرب الأسود الهاف بوت والذي رأيته منذ أسابيع في غرفة قديمة تسمى المسافرين. أتقلب بصعوبة وأنا نائم وحدي بعد ليال عصيبة استسلمت فيها الذاكرة للصهر والعصابية وحراك العقل، مابين الواع واللا واع، كنت أتحسس طريقي للحمام، بفردة شبشب صيني زرقاء، وكتف يؤلمني،وجبين معروق ورائحة عرق. وثمة بقايا لصورة كرسي هزار وحده في صحراء بعيدة عن واقعي في تلك الأيام.

……………

*مقطع من يوميات البناية

مقالات من نفس القسم