محمد سليم شوشة
في رواية الست للكاتبة المصرية سمر نور (الصادرة عن دار العين 2018) نلحظ عددًا من السمات الفنية والجمالية التي تجعلها دالة على صوت سرد له قدر كبير من الخصوصية والتميز.
الرواية التي جاءت في لغة مكثفة وفي فضاء سردي قصير نسبيًّا لا تبلغ مائة صفحة تغوص في أعماق النموذج الإنساني الذي تطرحه وتذهب بعيدًا مع البنية النفسية للشخصية النسائية التي يأتي السرد بصوتها بشكل خاص، وفي تقديرنا أن هذه الرواية تتمثل كافة سمات سرد ما بعد الحداثة والكتابة الجديدة المستجيبة لكثير من التطورات الاجتماعية والنفسية والتكنولوجية وتعبر عن الراهن والآني من التحولات والتغيرات السلوكية، فتبدو على قدر كبير من الحساسية بما يموج به المجتمع المصري في أعماقه من تحولات في علاقة المرأة بالرجل وعلاقتها بفكرة العمل وبرد فعلها تجاه سلطوية الذكر وتسلطه وغيرها من المستجدات التي حكمت المرأة فيما يخص تطور العادات والتقاليد أو تلك المنطقة الصاخبة من تداخل القديم والحديث وتصارعهما، وتلك المساحة الدقيقة التي يكون فيها صراع الفردي والجمعي حتميًّا وفي أوجه ولكنه يدور في العمق وفي المنطقة المتوارية خلف الأحداث اليومية العادية أو الهينة العابرة، ومن هنا يمكن القول بأن السرد الذي يمتلك زاوية رؤية خاصة للعالم ويحمل شيئًا إضافيًّا فوق الطاقات الحكائية هو السرد المؤهل للاستمرار وتعدد القراءات والتأويلات، وربما يمكن عده بأريحية الأعلى قيمة لأنه ببساطة ليس للتسلية وإنما ينفذ من هذه النافذة الضيقة التي تبدو للتسلية إلى مناطق الوجع الإنساني ومساحات تأزم الذات الإنسانية وانقسامها وتشتتها بين ما عاشت في الطفولة من العادات والتقاليد والخضوع لها، وبين الرغبة في تحقيق الذات والانطلاق إلى آفاق حياتية أكثر رحابة بأن يكون للمرأة كامل استقلالها، ويصبح بيتها هو مملكتها الخاصة التي تهيمن فيها هيمنة كاملة، وبدلًا من أن تكون هي دائمًا في احتياج للآخر يصبح الآخر بحاجة لها. إلى منطقة التأزم النفسي الناتج عن الحاجة للرجل أو الشريك بدافع الرغبة والفطرة والحب، والبعد عنه في الوقت نفسه بسبب تقليصه للخصوصية واعتدائه على حرية المرأة وحقوقها.
بشكل تدريجي فيه قدر عال من الحساسية من التعاطي السردي مع الزمن، تنقل الرواية وترسخ حالًا من التوطين والاستقرار المتصاعد للمرأة الوحيدة في مملكتها، في شكل ناعم من التحول النفسي الدقيق الذي يتتبع السرد منعرجاته نجدنا أمام نموذج يتحول بعد مدة من النقيض إلى النقيض، من بيت العائلة بشكله الجنيني وغلافه المركب إلى المنزل المستقل والخاص، فيما يشكل مفارقة ممتدة تمثل خيطًا وروحًا شاملة لكل حياة الشخصية الرئيسة في الرواية، فهي تتحول من كائن أشبه بجنين لا يقدر على النوم إلا بين الأب والأم أو ملامسة كائن بشري له؛ بأن تعيش بعد ذلك مستقلة ومنفردة في شقة خاصة تصبح فيها كافة القرارات لها، وبعد أن كان يشملها الخوف ويهيمن عليها من العزلة والحاجة إلى النبع الأول والجذور، تصبح مستمتعة بكافة التفاصيل والقرارات الصغيرة التي تحقق بها ذاتها. وبالنسبة للزمن كذلك نجد هناك أكثر من تشكيل له، فكما أن البنية الإجمالية للرواية وفضاءها الكامل يكشف مراحل تحول الشخصية من الطفولة إلى الشباب، وتلك المرحلة الأربعينية من الانكفاء على الذات، فإن هناك نوعًا آخر من الحركة السريالية في الزمن وأنواعه ومستوياته، تمزج مشاهد الماضي بالحاضر، وتصنع نسقًا من التقاطع والتداخل المستمر بين الزمنين. لكن هذه السريالية في الحقيقة محكومة بالمعنى وليست عبثية بشكل كامل أو غامضة، فهناك الخط الآني/ الحاضر وهو الأكثر ثباتًا والمؤسس على مشاهد حياتية بسيطة في بيتها الخاص وفي عالمها المستقل المغلق نسبيًّا والجديد، ثم هناك الاسترجاعات والحركة الدائرية في الزمن بين الذكريات التي تعود إليها بنوع من الربط العاطفي أو النفسي أو ذات الصلة، والارتباط الدلالي بالمشاهد الآنية. ليكون هناك ربط واضح على أساس نفسي ووجداني بين الماضي والحاضر ولو من قبيل المفارقة والتغير أو التحول التام في العادات المعيشية والسلوك اليومي.
ومن الجماليات البارزة في الرواية كذلك قدرتها على إنتاج قيمة دلالية مهمة أو ذات طبيعة إنسانية عامة من مشاهد حياتية عادية وهينة، مثل سماع صوت في المطبخ وكأنه نوع من الاقتحام لحياتها وخصوصيتها، أو دخول فأر أو دبور أو نحلة أو غيرها من الحشرات الطائرة أو الزاحفة، حيث تبدو الشخصية في حال صراع مع الطبيعة وعناصرها من أجل تحصين مملكتها وتسييجها بكافة الأسوار والحواجز التي تبعد المتطفلين، فهنا تتجلى حال من المعاندة والإصرار على تحقيق الحرية عبر العزلة وأن تكون الشخصية ذات دور انتقائي يحصنها من شرور العالم، ومن هذه الزاوية التي تبدو عادية نجد تماسًّا دلاليًّا لمسألة الحب وعلاقة المرأة بالرجل، وهل يمكن أن يكون الرجل في وضع مشابه لهذه الحشرات المتطفلة، ولكن الجميل في هذه التلميحات والطاقات الرمزية للعمل أنها تبعد عن الفجاجة والمباشرة، ويتمكن الخطاب السردي من الإيحاء بهذه الأسئلة عبر اليومي أو العابر من الأحداث المتكررة في حياتنا، ويحدث نوع من التحول بين الكامن الخفي والظاهر السطحي عبر أصوات أخرى في السرد، على نحو ما نرى من توظيف مع شخصية أم فاطمة زوجة البواب، التي مازالت في إطارها التقليدي تردد الأمثال الشعبية المختزلة لرؤية المجتمع وللتصور الجمعي لوضع المرأة، فتقول “ضِل رجل ولا ضل حيطة”، لتبرز في هذه المساحة الضيقة وفي العبارة الخاطفة أشكال التنازع الفكري بين الشخصيتين، ولتتبدى تلك الرؤية النسائية الجديدة التي ترى أن الخصوصية والحفاظ على مملكة المرأة وحرية تصرفها في أهون الأشياء، ولو كانت تخص إعداد أكلة معينة أو التعامل مع البهارات مثلًا، تجعل منها مسألة مصيرية موازية لهذا التصور التقليدي في علاقة المرأة بالرجل عبر الزواج، أيًّا كانت صورة هذا الرجل أو دوره، فقد يكون بلا عمل ويترك زوجته هي التي تعمل، ومع ذلك تبقى له الغلبة ويباح له ما لا يباح لها. والأمر نفسه يتم بشكل عابر وعلى قدر عال من الحساسية في إنتاج المعنى، نجده متحققًا مع شخصية رانيا الكوافيرة، وكيف تصارع الشخصية الرئيسة في الرواية من أجل فرض رؤيتها وتصورها في العلاقة بالرجل، وأنه يمكن دائما للمرأة أن تعيش بمفردها متمردة على كافة العادات والتقاليد الموروثة، التي تحد من حريتها وتسلبها الإرادة أو تجعل منها تابعها. على أن هذه الحال من الشد والجذب وتنازع الرؤى وتنوع اتجاهات الشخصيات النسائية وتناقضها أحيانًا يخلق حالًا من الثراء والتشويق، لأنه ينتج مصائر معلقة يظل القارئ متفكرًا فيها، ولا ترتبط بنتيجة محددة من البداية، فهذه المرأة التي استقلت هل ستنجح في حياتها أم ستنهزم وترتد أم ستقنع أخريات باتجاهها؟ إلى آخره من الاحتمالات السردية التي تتحرك معها مخيلة المتلقي في نوع من الركض الموازي للخطاب السردي نفسه.
في مستوى آخر يمكن أن نلمح قدرًا من الثراء فيما يخص تمثيل حياة الإنسان المعاصر وعلاقته بالتكنولوجيا بكافة أشكالها، وكيف يبدو السرد الروائي متأثرًا بهذه التقنيات الحديثة في الاتصالات، وكيف تتحول المشاعر إلى تعبيرات مصطنعة عبر الواتس آب أو غيره من برامج التواصل، وكيف يمكن أن تتجلى مسألة العزلة في هذا الإطار من التواصل عن بعد، ولكن الرواية برغم هذا الثراء لا تغلب عليها حال واحدة من التواصل، بل ترصد حياة الشخصية وتشكلها في إطار من التنوع بين تواصل واقعي وتقليدي على نحو ما نرى مع شخصيات البواب وزوجته أو بعض الجيران، وتواصل آخر افتراضي إليكتروني مع الأصدقاء والصديقات المسافرين أو القاطنين في بيوت أخرى، في نوع من التنويع في مسألة المسافة أو القرب والبعد، وهي في غاية الشعرية لأنها تشكل حياة لا تسير على نمط واحد، ونجد كذلك أن هناك نوعًا من التغيير في استخدام الضمير السردي ولغة الحوار بين ضمير المتكلم أو المخاطب أو كلام الشخصيات فيما بينها، ويأتي التنويع في الضمير تبعًا لتغير المسافة أو تغير التقنية أو الحالة التي يتم عبرها التواصل، فلغة العالم الافتراضي مختلفة عن لغة الواقع بدرجة كبيرة، ولغة البوح عن الذات والكتابة عن الكتابة أو حالات ما وراء الكتابة تختلف عن كل ما سبق، لأن حالات البوح عن الذات أقرب للغة الاستبطان والطب النفسي والفضفضة المخلصة أو غير المحكومة بأي اعتبارات، بخلاف الرغبة في معرفة حقيقة الذات واستكشافها، وكأن الشخصية تحاول استكشاف آلامها وأوجاعها عبر الكتابة والسرد والتدوين. وهنا تحديدًا تختفي تمامًا المسافة الفاصلة بين الحياة في حقيقتها والسرد بشكله الفني، وتحدث مطابقة تامة بينهما حتى نصل في مرحلة ما لأن يكون المتلقي مستشعرًا لحالة من الصدق النادرة في الكتابة، وأنه أمام منتج أدبي بعيد تمامًا عن أي صنعة فنية.
ومن النقاط الجمالية البارزة كذلك في هذه الرواية هو توظيف الأغنية بشكل يبدو على قدر كبير من الاختلاف والتميز، حيث تستغل الساردة الأغاني -وبخاصة أغاني أم كلثوم- لتصنع مساحة فريدة من الحوار مع أم كلثوم بشكل تخيلي، أو مع بعض الجيران الحاضرين بصورة ما عبر الأصوات المتسللة إلى شقتها بيوت هؤلاء الجيران. تراجع الشخصية الرئيسة أم كلثوم فيما تطرح أغانيها من معان، تحلل علاقاتها العاطفية في نوع طريف من الحوار الذي لا يمكن فصله عما قد يوحي به من إسقاط على الذات، فهي في الواقع تحاول أن تحاور نفسها وأن تراجع مفاهيمها عن حياتها وعن علاقتها بالآخر، ولكن بشكل غير مباشر عبر هذا الإسقاط والتوظيف الخاص للأغنية أو لكافة الأصوات الأخرى التي تملأ فضاء النص السردي، وأم كلثوم بأغانيها إشارة إلى أنس الفن ودوره في صناعة الاستقرار والألفة والشعور بالأمان وتحقيق الذات.
لغة السرد لا تمضي على وتيرة واحدة، فتتفاوت بين اللغة التداولية الواصفة والصانعة للمشهد بقدر من الحياة، والمشكلة لحياة يومية مليئة بالمفردات عن الطبخ والعمل والكتابة والأصدقاء وتجهيزات المنزل وغيرها من المشاهد، بالإضافة إلى لغة أخرى شعرية تأتي في إطار حال البوح التي تتملك الشخصية وتتحكم فيها، تتأمل في هذه المساحات مشاعرها تجاه الآخر وتجاه الزمن وتحولاته ومرحلة الطفولة ومشاعر الخوف والقلق والاستهجان لكثير مما حولها من المظاهر المعيشية للأخريات اللائي سبقتهن في التمرد عليها. كما تبدو لغة السرد كذلك في مواضع كثيرة لغة ساخرة وقادرة على إنتاج جماليات خاصة من التشبيهات والاستعارات المحسوبة، والمرتبطة بالحالة النفسية والوجدانية للشخصية صاحبة الصوت الرئيس، فهي ليست لغة مسطحة في أغلب الأحوال، وإنما تتفاوت وتتنوع بين المستويين بحسب الحالة الشعورية التي يخضع لها السرد. والحقيقة أن الرواية برغم قصرها تعد نموذجًا أدبيًّا ثريًّا على المستويين الجمالي والدلالي، وتؤكد خصوصية هذا الصوت السردي، وأنه ليس حكيًا مجانيًّا وإنما هو محكوم بدوافع نفسية، ويحمل رؤية وتصورًا خاصًّا للذات وللعالم، ويحمل كذلك كمًّا من الشواغل والأسئلة التي يتأسس الرد عليها.
……………………
*نقلاً عن “ميريت” الثقافية