ليليت فهمي
لم تكن هذه هي الطريقة المناسبة، على الأقل بالنسبة لنا أنا وهو؛ رجلان غريبان بلا أسماء أو أمنيات مشتركة على حافة كل الاشياء نقف. أزعم أني أعرفه جيدًا: ملاكي الصغير ذو القلب الصافي واليدان المخضبتان بالدماء. كنت أنوي في كل مرة عندما ألقاه أن أقول له من أي معركة قادم أنت! كي أخفف بمرح من اقتضابه البالغ، ولكنني عوضًا عن ذلك كنت أنزلق، كنت أرغب في نحت هاتين اليدين المخضبتين بالدماء، كنت أرغب في إخفائهما في معطفي وأن أمضي بهما إلى الأبد. أذكره دائما في الشتاء، أذكر اليدين في الشتاء، خشنتين دافئتين، طيبتين، وديعتين، عروقهما نافرة وجروحهما حية، أردتُ أن أخبئهما في معطفي، يدان للقتل الرحيم، هاتان اليدان التي عرفتهما أكثر مما عرفت أي شيء عنه، الآن فقدتهما إلى الأبد، لكنه نوفمبر شهر المفارقات المُهلكة، شهر للذاكرة.
أنا الذي يعمل مع الاحراز، أنا الذي يقتفي أثر الحقائق فاتني ان أحتفظ بتذكار يدلني عليه،بعداء رومانتيكي من كلينا للتذكارات لهذا النوع من المبادلات المادية السهلة لم أحتفظ بدليل واحد على هذا العالم الذي يربطني به، ومع هذا فإن الذاكرة تداهمني بهذا النوع الأليم من الذكريات، ملمسُ اليدين جعلني أعتقد أنني إذا ما فتشت الآن بعد كل هذا الوقت في الملابس القديمة سأعثر على اليدين دافئتين مخضبتين بالدماء في مكانهما حيثما تمنيت أن أسرقهما، حيث تمنيت من الذكريات أفضلها. قضى حياته كلها ينحت تمثالا وحيدا، تمثالا خشبيا عملاقا يصلح لأن يكون جسدا له بلا إعتلالات هائلة وبلا ألم. قضى حياته يتفنن في خلقه على الصورة التي يتمناها لنفسه، يحدثني عن هذه القطعة الفنية الفريدة التي لن تضاهيها أي قطعة أخرى في أي مكان، في كل مرة يأتي ليحدثني عن تفاصيل جديدة أخاديد تولد من الألم، من الفزع، من الجنون، والوحدة، والحب، تضفي ظلال بهيجة على النور، تشرح الضوء ببلطة حادة، ترسمه من جديد لآلاف المرات، ظلالا تجعل من التمثال أيقونة للحقيقة المطلقة، ياله من تمثال لم يسمح لي أن أراه مطلقا ولم أغفر له ذلك أبدا. رغم إننا صرنا أصدقاء، صديقان مقربان بل أكثر، ولكنه لم يسمح لي أن أزورَه مطلقا، أن أرى تمثاله، أن أراقبه وهو يعمل، وهو يفكر، أن أعرف مكانه، كان يفضل أن يصفه لي أن يسهب في وصف التفاصيل وأن يجعلنى أتخيل، أشتهي، أرغب، أفاوض الخيال على حيازته، أفكر في كل لحظة بالجريمة.
عينان بمحجرين كبيرين. فم مزموم يطبق على الكثير. رأس مائل قليلا وعرق نافر في الجبين يكاد ينبض من فرط الحياة. أذرع كبيرة مدلاة وصدر فائق الروعة بضلوع منحوتة برقة مفرغة كي تسمح بمرور الضوء عبرها تجعل هذا الجسد صندوق ضوء في الليل..بطن قوية خاوية كسحارة قديمة.. أرجل ممتدة في الأرض لأعماق بعيدة، وخيالات أخرى. صورٌ لا تنقطع لهذا التمثال الذي كان يُنحتُ في رأسي يوما بعد يوم، كلما قابلته وحكى لي شيئًا عنه، وتنبثق الأسئلة في رأسي.. كيف لهذه الجروح الغائرة أن تنشأ في يد رجل واحد؟ أي نوع من العمل قد يسبب قطوعا وخدوشا وكدمات كهذه؟ أي قطعة فريدة تلك التي حطمت هاتين اليدين؟ أستطيع أن أقول إن الخيال شيّدَ معرفتي به بالكامل، ظلّ بيننا عالمٌ وحيد معلوم، هذا العالم منسوجٌ من الخيال الصافي الذي لم يُشبه الواقع قط، ولم يجترأ عليه مطلقًا، هذا ما يمكنني قوله.. هذا ماقلته في التحقيق.
على مقهى المنيل حيث نسيت تذكرة السينما للمرة الأولى، حفلة التاسعة مساء بسينما فاتن حمامة، وجلستُ معه لأول مرة ولأول مرة يفوتنى موعد الفيلم، كان واحدا من بين أفلام الأبيض والأسود المُعادة، والتي حرصتُ على متابعتها، ربما كان فيلم “اللص والكلاب”. أخذ كل منا يقص الحكاية تلو الأخرى هكذا تبدد الوقت، بعضها حقيقي وبعضها مُلفق، وكلها محاطة بالخذلان بالفجائع الكبرى، كما هو الحال، لا أحد يحكي عن الواقعة الأساسية ـــ اللاشيء ـــ وقد نخترع حكايتنا من جديد لآلاف المرات كي نسدد فراغات الخواء العظيم، نضمدها بالنكات الفاحشة والمآسي الكبري، ولذلك وجدنا أن الحكايات الملفقة أجمل بكثير، على الأقل هي مليئة بذلك الخذلان النبيل الرقيق وبه قليل من المرح أيضًا. واتفقنا وقتها على ألا نروي شيئًا حقيقيا، كان هذا أول عهد بيننا.. لاشيء حقيقي، وكنت سعيد بذلك في أول الأمر، غير أن هذا لم يُنقص الحقيقة شيئًا، ما وُلدَ هذه الليلة كان صادقًا تمامًا، ومع ذلك بقي في موضع ما غائما بين الحقيقة والوهم، أخبرته عن حبي لفيزياء الكم، وصداقتي لـ آينشتاين، وعملي في الصحافة الخبرية، وأخبرني عن عمله كمفتش تموين، وصائد ثعالب في الليل.
كان هذا مرحًا للغاية، وقد أخذ يلقي بنكات عديدة واحدة تلو الأخرى وكنت أجدني أضحك، وبلا سبب أجد البكاء يتعثر بحلقي على غير ما أتوقع، نكات لم أسمعها من أحد قبل هذا الوافد، رجل سرقت حمارته ثم ذهب للسوق كي يشترى أخرى فاشترى حمارته مرة أخرى، وقد غير السارق لونها، فتيات وعوانس يفسدن احتمالية خطبة إحداهن بالسقوط في حماقات حذرن منها، شيء واحد يتكرر في هذه النكات الريفية.. هو الحماقة. أخبرته عن حبي للتلصص، عن مراقبة النوافذ وماتبوح به من أسرار، عن الفتاة المنتقبة التي أُغرمتُ بها فقط من طريقة سيرها وكيف تبادلنا أرقام الهواتف فقط من طريقة السير، وأخبرني عن علاقته بالعاهرات المبتدئات، أخبرته عن لعب الدومينو، وأخبرني عن موسيقى “فيفالدي”، أخبرته عن الدمى المُفزِعة في الطفولة وأخبرني عن الاختباء بين أشجار القطن، أخبرته عن الحاضر القريب وأخبرني عن الماضي البعيد، وكان الوقت يمر بأسهل مما يمكن والحكايات تنساب مثل الموت بلا مقدمات، ولا أعرف تحديدًا متى انتهت هذه التسالي إلى فجائع غير ممكنة.
فوتُّ الفيلم من أجله هذا ما لا أفعله من أجل أحدٍ، ومشينا سويا من المنيل إلى محطة قطار رمسيس، بلا مبالاة لم أحوزها من قبل، فقد فقدتُ لأول مرة الشعور بالزمن، في الرابعة صباحًا وعندما وصلنا إلى محطة القطار هناك ودعته وكان وداعاً قاسيًا على غير المتوقع، حتى إنني وجدت صعوبة في العودة من حيث أتيت، لم يكن من الممكن أن أعود من حيث أتيت وقد فوت الفيلم لأجله، لاشيء سأفعله في هذا الصباح، لا شيء، لا أريد العودة لمعهد أمناء الشرطة، للبيت، لمشاهدة السينما، لمراقبة الجيران. لا أرغب في النوم لا مجال للنوم. كان القطار يتحرك ويقف وكان تنتابنى رغبة في متابعته، رغبة في المضي خلف القطار أن أركض إلى ما لا نهاية. هذا هو الشعور الذي لم أفقده على مدار علاقتي به، عندما بدأ القطار بالتحرك كان بياض النهار الجديد يخرج ومعه كآبة لم أخبرها من قبل،كنت فقدتُ قدمايْ اللتان ستعيداني. كنتُ قد بدأت أرى كل شيءٍ بوضوح الرصيف، القضبان، السماء، الأبنية خلف المحطة ولكن بلا سيقان.
مُسمر بالرصيف لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، كأنما نسيتُ بالفعل من أنا؟ ومن أي عالم قادم، حتى ربتت هذه اليد على كتفي مجددا وعندها تنفست،وقبل ان ألتف إليه كنت قد تعرفتُ على هاتين اليدين المدغدغتين مرة وإلى الأبد، قال بصوت متهدج ووجه مكفهر عابث: “أنتَ طفلي”. قلتُ فورا بلا أدنى تفكير: “لعلني كذلك”. سرنا معًا على القضبان صامتين في السادسة صباحًا، القطار يسبقنا والأرض تمضي خلفنا والوقت يمر بلا أي شعور بالندم، مشينا سويا ليس كأب وولده، ولا كحبيب وحبيبه، ليس كأي شيء قد عرفته من قبل.
وأخذنا نتسلى هكذا على مدار عام كامل يأتي ليومين في الأسبوع بقطار الصعيد، ولا أعرف أكثر من ذلك، رغم أنه حكى كثيرًا عن أشياء لا تخطرُ على بالٍ، عن صيد الثعالب -عشيرته الأولى التي انحدر منها- كما كان يقول: ليلاً أتسلق الجبل وحدي، معي عدة النار وعدد من الفئران السمينة المخدرة لأجلها خصيصاً، حتى أصل إلى مخابئها،أعرف تحت أي جزء من الإرض الصلدة حفرت هذه الثعالب غرفها الممتدة في سردايب وأنفاق رطبة، حتى تلمع عين واحد في البداية ثم اخرون حتى تخرج قبيلة الثعالب كلها بعيون لامعة وخائفة تخفي رغبة عميقة في القتل،أكون مستعدًا لإضرام الحرائق والفرار في أي لحظة، الثعالب تخاف النيران ، أليس مثيرًا للانتباه أنها تخاف النيران بالذات!”.
يصمت قليلاً ثم يستأنف: “إنني ألف قدماي بالفئران أجعل من نفسي طعمًا لهذه الكلاب الشرسة التعيسة وبالفعل تأتي لتلتهمنى، فأقتنصها، هذه الكلاب المفترسة الخائفة تثير شهيتي، إنها تُغرَم بوحدتي، ولذلك على المغرمين بالوحدة أمثالي أن يتمكنوا من الدفاع عن وحدتهم”. مُضيفًا: هذه الشياطيين الملعونة فائقة السرعة التي أبت أن تدجن هم أصدقائي الوحيدون مع ذلك، هم يريدونني جزءًا من عالمهم، وأنا أريدهم جزءًا من عالمي، والأسرع سيفتكُ بالآخر”.
بطريقة ما كانت تخيفني هذه الحكاية التى لم يكن يتوقف عن سردها كانت تجعله يبدو لي شخص غير حقيقي،كان يتلذذ بذلك،يفضل الحديث عن أشياء ليس لها وجود حقيقي أستطيع أن ألمسه، فيحدثني عن التاريخ ونضالات السابقين، وعن وقائع تعود لأيام الاحتلال الإنجليزي، بل كان يمتلك وثائق نادرة وتحقيقات على حسب قوله وكنت أمقت التاريخ، كما حدثني عن المصريات، كان الشخص الوحيد الذي عرفته يجيد الكتابة باللغة المصرية القديمة، ذات مرة أخبرني أنه نحت لي تمثالًا صغيرًا على هيئة حورس الابن، ولكنني لم أرَ ذلك التمثال مُطلقًا.
أغرمت بهذه الحكايات، وبالنحت، وقد تبدلتْ حياتي رأسًا على عقب فقد عرفتُ بأنني لابد وأن أصبح نحاتًا، ولكنني مع الوقت صرتُ على يقين بأنه لن يُسمح لي بأن أذهب إلى هناك أبدًا، وأنه لن يُسمح لي ولو بجزء من الحقيقة، فقد كنتُ أدرك أنه لا ثعالب هناك، إنها محض حواديت، ولكنني قد بدأتُ السأم من الحواديت، مع الوقت صرتُ أفقد مرونتي ويزداد غضبي فأفقد ذلك الخيال الحر القديم، وفقدتُ قدرتي على تخليق الحكايات، وبدأتُ أثرثر برغبة عنيفة في هذه الوقائع السابقة المؤلمة عن الفشل والنكران عن كرهي الشديد لميكانيكا الكم عن فشلي في أن أصبح طبيبًا بسبب الرسوب المتكرر في الفيزياء، عن موت أبي بالفشل الكبدي عن هذه الليالي شديدة الطول التي قضيناها وهو ينزف، عن هوسي بعدوى فيروس سي، عن الليلة التي ادعيتُ فيها النومَ وكنتُ في الثامنة من عمري، بينما فشل أبي في أن يغمض عينيه لبرهة، كان فمه مفتوحًا طوال هذه الليلة حتى معدته، يتقيؤ الدمَ وكنت وقتها أعرف رغم انى في الثامنة بأننى سأصبحُ إلى الابد ذلك الوغد الجبان الذي أنا عليه الآن، يومها أخبرته عن مهنتى الحقيقية.. قلت له أنني شرطي حديث التخرج.. وصمت، وعدت أقول له سأكون مثل أبي ليس إلا ، مريض بالفشل الكبدي..
لم يُثِرْ هذا فيه شيئًا، ظل مُتمسكا بصلابة لم أرَ مثيلها ولم يخبرني في المقابل عن حياته القريبة، عن الحقيقة المائعة التي نرجوها عربون للمحبة وللثقة، لم يخبرني عن ذلك الخذلان المنحط وكنت آمل أنه سيفعل، كنا قريبان دائمًا من الحقيقة الشيئية التى يمكن أن ألمسها ولكنها دائما ما تفلتُ، لم أتوقف عن التفتيش وراءه من وقتها عن التنقيب في الحقائق خلف هذه الأكاذيب.
من هذا الغريب الذي أوقفني ليسأل عن عنوان لم يذهب له؟ لماذا أوقفني؟ لماذا عاد في تلك الليلة ولم يرحل؟ هذه الأسئلة التي تجاهلتها في البدء ظلت تكبر يومًا بعد آخر، تتبعته لأفتش كطفل عن الحقائق، عن الأسرار، ولم أعرف أنهم يتبعونني. رجال أفظاظ بوجوه مكسوة بالقسوة كانوا يبحثون عنه، عن مُفسدٍ صغير، مخربٍ، هاربٍ، وبطريقة ما كنت أنا طُعْمَ صيده، وكان هو دليل براءتي من تهمة إضرام النيران وتبديد الاحراز. في التحقيق عرفت أنه كان مطلوب ضمن متهمين عدة في مجموعة جرائم قتل مسئوليين حكومين وكنت لا أعرف عنه سوى قصص وهمية ليست ذات قيمة لأولئك الذين يبحثون عن حقائق دامغة ووقائع مثبتة وكان قد اختفي وقتها.
ركبت القطار في عربة مجاورة له، وتنكرت ولم أكن أعرف أنهم يراقبونني، وما أن توقف القطار و نزلنا تتبعته في مسارات ملتوية، أزقة ضيقة تفوح منها روائح رطبة، وفي نهايتها يكون الجبل، وعيون تلمع في عتمته أنصاف بشر و أنصاف ثعالب، كان قلبي يرتجف، في كل لحظة كنت أتوقع الموت، وكانوا ما يزالون يتبعوننى شرطيين بملابس مدنية، يريدون جسده يريدون الامساك بهذه الروح البرية، وظللت أراه وهم ورائي، حتى ظهرت قبيلة الثعالب وعندها فقدته ، فقدت ظله في البداية ، فقدت خشخشة أقدامه القفازة ، رائحته، نسيت يديه، عندها رأيت بيته الصغير للمرة، عرفتهُ دون أن يشير لي أحدٌ، كل شيء احترق،مضيء بالنيران، الشيء الوحيد الذي لم يحترق كان التمثال، الحرز الوحيد الذي حصلت عليه الشرطة بينما اختفي هو إلى الأبد، تمثال لرأس فقط، مُحطم الوجه.
كان عليَّ وقتها أن أهرب وحدي أعود من حيث أتيت مخلفاً ورائي النيران والشرطة، ولكني أستعدت لحظة الوداع الاولى مرة أخرى وفقدت قدماي، كنتُ على يقين من أنه موجود في مكان ما يراقبني، لم أشك في ذكائه يوما ولكنه لم يظهر، إلى الأبد لم يظهر ولم تظهر قبيلة الثعالب تلك. حتى يوم دق الباب وعرفت أنه هو،فتحت و لم أجده، كان معطفه الرمادي وفي جيبه يداها المخضبتين بالدماء.
………………………….
* القصة من مجموعة بنفس العنوان صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020