“اسمح لليل بالدخول”.. هواجس الموت والغربة والدهشة في ديوان “زيزي شوشة”

أسمح لليل بالدخول
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد سليم شوشة

في المجموعة الشعرية الأحدث للشاعرة المصرية زيزي شوشة الصادرة مؤخرا عن منشورات المتوسط بميلانو، نلمح عددا من الحالات الشعرية المهيمنة يستمد منها الصوت الشعري خصوصيته وطزاجته ومصادر الدهشة بالإضافة إلى شعرية اللغة وجمالياتها الراسخة من انزياحات أو استعارات وصور جديدة وخاصة بهذا الصوت. ومن هذه الحالات الشعرية المهيمنة هواجس الموت والإحساس به وفق عدد من الرؤى المختلفة أو المتنوعة، فالموت عبر إحصاء حضوره في قصائد المجموعة هو ذلك الكائن الخرافي الذي يجلس على عتبته حارس تلح الذات الشاعرة في سؤاله والاستفسار منه عن طبيعة هذا الكائن وكيف تكون هيئته، هل يخرج عاريا أم يرتدي الظلام؟ هل يحمل أسلحة أم يخرج وحيدا كطلقة رصاص؟ وهكذا إلى نهاية عدد من التصورات المسبقة التي تشكلت في وعي الذات الشاعرة عنه ورؤيتها له بما يؤكد حضوره الضاغط ومساحته الراسخة المزعجة في وجدانها. والموت كذلك هو محطة الراحة والخلاص الأخير وتلك اللحظة المضئية التي تأتي تتويجا لحال من الاستبراء الشامل من كل هذا الوجود بأعبائه ومساوئه، وهو ما نجده في قصيدة (لم أودع أحدا) حيث يأتي الموت بعد حال من المقاومة والتجرد والتخلص من القبح فيما يشبه ما لدى الصوفية من ارتقاء وتخل يسمو بالذات فوق كل الوجود، حتى فكرة الوداع نفسها لم تعد الذات الشاعرة بحاجة لها لأنها تثقل الذاكرة، ولكون الوداع في النهاية رمز للاحتياج والتعلق بهذه الموجودات الأرضية التي كانت في وقت ما عبءا ومصدرا للألم حتى ولو كانت هي الأم أو القرية أو الجذور القديمة التي نشأت منها الذات الإنسانية.

ومن الحالات المهيمنة كذلك ما يبدو من مظاهر العجز والتقييد والانهزام ولو مؤقتا، فنكون أمام ذات شاعرة تنام بين قبضة يد شيء لا نهائي، ولصيغة التجهيل هنا دلالتها في الوحشة ومعنى الأسر والعجز، والأقدام مربوطة والرؤوس تحنيها السماء، فكأننا أمام ذات إنسانية محاصرة بشكل كامل من كافة عناصر هذا الوجود الذي يبدو في الغالب غريبا ومجهولا ومسيرة الإنسان الشاعر تحديدا مهما كانت عظيمة وتحاول تحرير هذه الذات أو تحسين حالتها لا تنجح في هذه المهمة وتبقى كلها مسيرة ألم وحيرة وشتات. على أن حال العجز هذه تبدو أقرب لخط أو نسق دلالي خفي يسري في جسد هذه النصوص الشعرية المكثفة التي تبدو في تصورنا نصوصا شعرية تتعاظم فيها مساحة اللاوعي عما تم إنشاؤه بوعي، فهي أقرب لحالات السباحة في مجهول المعاني والكلام واللغة والشعور أو أقرب إلى حال الرسم السريالي بعبثيته وانطلاقه ووحشية خطوطه وألوانه أحيانا وقدر ما بها من المصارحة أو الفجاجة بجانب الغموض والتخفي في مواضع وأحيان أخرى. في أفق هذه الحالات من العجز يتشكل العدم جبلا تراه الذات الشاعرة من بعيد وتحسه وترى فيه خلاصا، فقمة الحرية الحقيقية لكل الموجودات وليس للإنسان فقط إنما تكمن وتتحقق بهذه العدمية، فالعدم هنا يبدو خلاصا وملاذا مؤجلا أو مكافأة لنهاية السفر أو الطريق المحيرة الغريبة التي يجتازها الإنسان في هذا الوجود الغامض المعذب.

هناك كذلك حال ثقيلة من الاغتراب والفكاك من بيت العائلة والجذور البعيدة إلى مدينة الغرباء والوجوه التي تحاصرها، حال الغربة في هذه النصوص الشعرية تتشكل وفق استراتيجية جمالية خاصة جدا، وتصبح مقصورة على صوت زيزي شوشة الشعري لكونها لا تكون خالصة في عذابها، بل لهذه الحال كذلك متعتها وفوائدها، فهؤلاء الغرباء دائما منهم الحبيب ومصدر الدفء والصداقة والشراكة في السير في الطرقات، هناك حال من الامتزاج بكافة مفردات الغربة، شوارعها وبيوتها ووجوهها وتجاربها وخبراتها من الحب والسفر والطرق، فهي حال غير نمطية أو سطحية كما يبدو في كثير من نصوص الشعر الأخرى والتجارب الأدبية التي تقارب الاغتراب والابتعاد عن الجذور، كما نجدهما بثرائهما المبكر عند أحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر على سبيل التمثيل، فهي لديها كذلك الحال المركبة نفسها التي فيها ومنها كل اللذة والألم ولا تبدو سهلة في الحكم عليها أو تفسيرها، فهي الغربة الحتمية أو التي لا مفر منها والتي يصبح وجود هذه الذات منقوصا بدونها، هي الغربة التي تشبه حتمية فرار الطائر من عش أمه ليجد ذاته وسبيله ومهما طار لن ينسي أو ينفصل عن هذه الذاكرة المؤلمة التي تطارده أو تصبح جزءا من جوهر ذاته ومنها يتدفق الشعر أحيانا.

في مستوى اللغة والاستعارات والمجاز نجد أننا أمام طاقات شعرية دافقة تصنع صورها الخاصة واستعاراتها التي دائما ما تكون ابنة الحال الشعرية وجزءا حتميا من جسد التجربة والكتابة المخاضية اللاواعية، فكافة الصور في تقديرنا خاصة وجديدة في تصورنا الشخصي وبقدر مطالعتنا، والأهم من ذلك كما قلنا إن هذه الصور يبدو الصوت الشعري مدفوعا نحوها بقوة المعنى الكلي الذي يهيمن على هذه الذات الشاعرة ويدفعها من الأساس إلى القول وإنشاء النصوص والبوح بها، فهي جزء من كل، أو ميكانيزم خاضع لاستراتيجية كلية لاواعية هي استراتيجية هيمنة حال شعرية معينة ومعنى معين. ويتحكم في هذه الصور عدد من الأنساق والأنماط الفاعلة مثل تكبير الصغير وتصغير الكبير أو نسق القلب فالسماء مثلا تصبح هي الأصغر بالنسبة للإنسان، والغرفة هي الأساس، والإنسان هو مركز الوجود وليس شيئا جزئيا أو تابعا لمراكز أخرى. وهناك نسق المفارقة وكذلك نسق التصوير الغريب أو المفرط في الغرابة والقائم بعضها على استبدال الصفات مثل أن يمسح الطرقات أو يزيلها عن الأقدام، وكأن الأقدام تلوثت بالطرق أو التصقت بها لا الأقدام التي تلتصق بالطرق وتنطبق عليها كما هو في منطق اللغة العادية، لتكون لغة الشعر الأجمل في تصورنا هي تلك التي تفترق كثيرا عن هذه اللغة المعيارية أو النمطية المعتادة، ومن هذه المغايرة والافتراق التام تكون مصادر الدهشة والمتعة. مثل تلك الصورة التي تجسد فيها التفتيش عن حرف شعري بعد سكب الدماء على الأوراق البيضاء، فمن الدماء يكون الحرف بما يشكل أو يتفرع وينبني عليه وعنه من الكلمات والشعر والجمال الذي يضيء العتمة. ومفردة العتمة من المفردات المتكررة بكثرة في نصوص هذه المجموعة الشعرية مما يشيء بحال ثقيلة وكثيفة من الخوف والغموض اللذين يتركزان في وجدان الذات الشاعرة حيال هذا العالم، ومن الصور الثرية والمدهشة كذلك تلك التي تجعل فيها الدماغ يتم إفراغها على الوسادة والحُفَرُ التي بداخلها يتم ردمها، على أن جمال كثير من هذه الصور إنما ينبع من ثراء الاحتمالات التأويلية ومن ترتيب الصور أو تراتبها في بنية النص الشعري، فالترتيب بين ردم الحفر التي في أعماقها وحرق إهانات الأصدقاء وإفراغ الدماغ على الوسادة إنما هو الذي يكرس لسيرورة من التجدد لهذه الذات الإنسانية القادرة على التخلص من مساوئ هذا العالم وآثاره التي تعلق بها في نوع من الاستبراء الاعتيادي الذي يصبح نقطة مركزية لمقاومة القبح والتشوهات التي يحملها الوجود في ثنايا تفاصيله.

والديوان هو الثاني للشاعرة المصرية “زيزي شوشة”، بعد ديوانها الأول “غرباء علقوا بحذائي” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، بالإضافة إلى ديوانها الفائز بالجائزة الأولى لصحيفة “أخبار الأدب”، ويحمل عنوان “الوظيفة الحقيقية للمشي” والذي لم يصدر حتى الأن ومن المقرر صدوره قريبا.

………….

*عن صحيفة “القاهرة”

 

مقالات من نفس القسم