من دفتر الإقامة

من دفاتر التدوين جمال الغيطاني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال الغيطاني

.. للوهلة الأوللى ظننت، توقعت أن الهدف الحقيقي من المجيء إلى هنا، ملبياً تلك الدعوة سينجلي خلال ذلك اللقاء، انه المدير نفسه، جاء أخيراً بعد جولة استغرقت عدة اسابيع حضر خلالها مؤتمرات علمية. وشارك في ندوات عُقدت شرقاً وغرباً. لم أتوقع انني سألتقي به قبل عودتي الى دياري. غير انني تلقيت رسالة هاتفية مسجلة على الهاتف الداخلي تطلب مني المرور عليها صباحاً لأمر هام، يقع مكتبها الى يمين الداخل والى يسار الخارج من القصر. هكذا اسمي المبنى الأنيق، القديم الذي نجا من القصق المتبادل خلال الحرب العالمية الثانية، لم أطلق عليه قط الاسم المعروف به، أي معهد الدراسات المتقدمة، حتى الآن لم أعرف بالضبط نوعية ما يدرس به. وأين أماكن الدراسة، بل.. أين الدارسون؟
صحيح أنني اقابل في غرفة الانترنت، في الطابق السفلي، استاذاً فارسياً، وعجوزاً برازيلياً تصحبه زوجته التي تقاربه سناً وترعاه ايضاً، مقعد، نتبادل التحية عليه سمت العلماء المنغمسين، لكن لم نتجاوز الايماءات، كذلك الفارسي الذي يتصادف وجوده احياناً الى جواري عندما اقصد الغرفة التي صفت بها الحواسيب الآلية وآلات اتصاف مختلفة. من هاتف وفاكس واخرى لم اتحقق منها. بل لم اتعرف عليها. كنا نتبادل بعض الألفاظ العربية تمر ثم يستغرق كل منا في التطلع الى الشاشة المضيئة. كنت واثقاً انه يتحدث العربية. يتقنها، خاصة بعد ان قابلني مرة ناطقاً بيتاً من الشعر
إن بيتاً أنت ساكنه
لا يحتاج الى سرج
لماذا انشده؟ لماذا في تلك اللحظة عند دخولي وخروجه؟ لماذا توجه الي بالنطق؟ حتى الآن لا اعرف سبباً، ابتسمت مجاملاً، وصباح اليوم التالي وجدته محدقاً الى الشاشة، وعندما سألني عن بيت الشعر الجميل الذي سمعته منه أمس، أجابني بالفارسية وكأنه لم يفهم ما قلت، عندئذ توجهت الى الحاسوب ولم أنطق الا رد التحية عندما غادر قبلي.
بعد عشرين يوماً من وصولي يطلب المدير مقابلتي، ما تبقى نصف المدة، بعد ثلاثة اسابيه تقريباً أدخل، لم يتحدد اليوم على وجه الدقة، السكرتيرة اخبرتني انها ستبلغني بتأكيد الخبر، سيتم الأمر كما طلبت، العودة مباشرة وبدون محطة في المنتصف، الخط موجود على الشركة الوطنية المصرية، ثلاث رحلات على مدار الاسبوع بالطبع يمكن السفر في أي دقيقة اشاء. الرحلات متاحة عن طرق مختلفة، لكنني طلبت المباشر. وسيتم تحقيق ذلك. الهدف من قدومي الى هنا، من تلك الدعوة التي تعتبر طويلة نسبياً بين ما تلقيت منذ شيوع أمري في ترميم المخطوطات القديمة، خاصة المصنوع أوراقها من الكتان أو البردى، لكن… لماذا أتعجب والأمر كله غامض منذ أن تلقيت الدعوة منذ بدء الترتيب. تلك الليلة في الفندق المطل على النيل، واللقاء مع الملحق في السفارة، كل مالاقيت مثير للغوامض للتساؤلات، لماذا جئت اذن؟ لكم نطقت تلك الجملة وانا اتطلع الى سقف الحجرة المستطيلة والنافذة العريضة المطلة على الحديقة غزيرة النبات والأشجار وأسطح القصور المجاورة والتي لا ألمح إلا أجزاء منها عبر الغصون والأوراق. انها منطقة أثرى الأثرياء. أصحاب القصر الأصليون باعوه بثمن بخس وهاجروا الى الشاطىء الآخر من المحيط الى الولايات المتحدة، لم أعرف السبب من السكرتيرة التي لم أتبادل معها إلا جملاً محدودة، قصيرة. عند قدومي وخلال ايام اقامتي. المؤكد ان ذلك جرى قبل الحرب. رغم اهتمامي بالأماكن التي أقيم بها ولو لفترة قصيرة الا انني لم أكن راغباً في معرفة كافة التفاصيل حول أصل البناية ومن تعاقب عليها. ومن أدخل عليها تلك التعديلات التي حولتها الى معهد داخله مكاتب وقاعة للمحاضرات ومطعم في الطابق الذي يقع تحت مستوى الأرض. به موائد معدة، وجبات على منضدة معدنية تحتها ثلاجة للمشروبات وصوان لأنواع مختلفة من الخبز، وآخر يضم زجاجات القهوة والشاي والنعناع ومشروبات أخرى لم أعرفها. كان الافطار جاهزاً باستمرار كنت أعرف عدد المقيمين من الأطباق المتراصة والطعام الذي تحويه، تختلف الأعداد عند الغداء والعشاء، غير أنني لم التق بواحد منهم قط. كذلك من يعد الطعام رغم أن الخضار والمرق واللحم كان باستمرار ساخناً في الأوعية المستطيلة التي أغرف منها وأختار…
عندما وصلت بصحبة من انتظرني في المطار. تقدمني الى مكتب السكرتيرة، طويلة، غير ان خللاً في معمارها، كتفاها العريضتان، أردافها المسطحة الخلو من اي استدارة، اما ما نفرني من اي محاولة للتقرب فرائحة حادة منبعثة من تحت ابطيها على الأغلب، ليست عرقاً، لكنها حمضية حادة، لكل جسد رائحته، والرائحة تحدد المسارات عندي، قبل صعودها بصحبتي الى الطابق الثالث حيث أقيم، شرحت لي كافة ما يتصل توقفت عند المفاتيح، خاصة ذلك المغناطيس الذي يتم تقريبه من فتحة صغيرة في الباب عندئذ يمكن ادارة المقبض ودفع الباب هائل الحجم والوزن، لكنه يتحرك بيسر كذلك مفتاحي الغرفة. عندما فرغت طلبت منها ان تضيف الى الارقام التي زودتني بها، رقم اقرب مستشفى، ورقم الطوارىء الصحية التي يمكنني أن أستنجد بها وشرح ما قد يدركني بالانجليزية اعرف بعض المصريين هنا، لكنني لست حميماً، قريباً الى احدهم بحيث يمكنني أن أوقظه ليلاً لاطلب المعونة، طلبت خريطة للضاحية وارقام الحافلات العامة التي يمكن أن تقلني الى وسط المدينة، الحق انها افاضت في شرح ما يلزمني. مكان آلات الغسيل، المطبخ في نهاية الطابق اذا رغبت في اعداد طعام يخصني، غرفة التلفزيون والمكتبة الخاصة، وعندما قالت ان التدخين ممنوع قلت انني لا اسمح بالتدخين في أي مكان أنزله أو اجلس به، اضفت مبتسماً: ألم تلاحظي استفساري عن مستشفى الطوارىء؟ ان احوالي الصحية ليست على ما يرام، تلفت حولي، قلت ان كل ما طلبته اجده في الغرفة، خاصة جهاز الاستماع الى الموسيقى عدا شيء واحد انا المسؤول عنه. تطلعت مستفسرة، قلت إن الطابق الثالث مرتفع بالنسبة لي، لم أذكر انني اجريت جراحة دقيقة بالقلب. قالت إن الأماكن الأخرى مشغولة للأسف، انها الحجرة الرئيسية المميزة، اذ تطل مباشرة على الحديقة، بعد لحظة قالت: لا تقلق ان الهدوء اعمق، اومأت، اعرف هذا من الخطاب الأخير الموقع من المدير الذي سألتقي به أخيراً، اخطرتني السكرتيرة ذات الصوت المحايد بالموعد، الواحدة بعد ظهر الغد.
عندما بدأت أسفاري، داخل مصر أو خارجها، كان أهم ما يشغلني، الاناث، التعرف الى احداهن ، التواصل معها، كنت بمجرد مفارقتي محل سكني، خروجي من القاهرة أشعر باقبال يولد، ونزوع الى ما لا أقدر على تحديده، لكنه متصل بهن، متعلق بأمرهن، كنت مقبلاً، متوثباً، بمجرد الخروج أبداً حتى الى الصعيد، ظل ذلك متصلاً بالترحال، إلى ان جرى ما جرى، وتبدل ما تبدل، ها أنذا ابدأ اقامتي بالاستفسار عن مصح الطوارىء، بدلاً من ملهى ليلي، أو مقهى يمكنني التعرف فيه الى من اتعلق بها. هكذا صار أمري مع التقدم في المسار، والوهن المصاحب، بل انني اصغي متوقعاً ولوج الأبدية ليلاً، ما قبل النوم في الغربة، هذا الانفراد المبتوت رغم يقيني وجود آخرين داخل تلك الغرفة المغلقة، الصادة، ربما منهم المصاحب لانثاه او المستضيفة صديقها، لا أحد يتطلع الى احد هنا. ولا شروط للاقامة تحد من حرية النزيل، لكن من، وكيف التواصل مع من أجهل لغتهم، وبرنامجي يخلو من دخولي في دوائرهم، التقاطع مع التفاصيل اليومية لآخرين عند عودتي اتطلع الى النوافذ المضاءة خلال الاشجار موحية بالدفأ، بالكنة والألفة. بالمجاورة والمفاعلة. غير ان المباني تلوح نائية جداً، تبدو الكواكب اقرب اذا ما تطلعت اليها في السماء. بعدها منطقي الأبعد ما يبدو في المتناول ولكنه في صميم المنأى، عرفت مثل ذلك عندماامضيت عاماً في الصعيد متنقلاً بين مدنه الصغيرة. المنطوية على امورها، المغلقة في وجه الغريب شرط بقائه الالتزام بكافة الشروط غير المرئية، الخروج عنها يدفع الانسان الى الحافة، هنا كل شيء ممكن ومستحيل في الوقت نفسه، لماذا اتيت اذن؟ لماذا جئت؟ لماذا اضيع اياماً من رصيد صار محدوداً، امري عجيب! بدأت التهيؤ للموعد، انها المرة الأولى التي يطلب فيها أحد المسؤولين رؤيتي حتى من ينظف الغرفة ويرتبها يومياً، لا اعرف ان كان رجلاً او سيدة يختار التوقيت الذي افارق فيه. اما الى الانترنت أو حجرة الغسيل، أو الى مشوار ارتب له حتى اقنع نفسي انني اقوم بنشاط ما.
رغم اقامتي عشرين يوماً، خلالها تفحصت الغرف والمكتبة، وصالات الاستقبال غير انني لم اتوقع قط ان هذا السلم يؤدي الى الجزء الاداري من القصر، طبعاً اثار فضولي، ظننته يؤدي الى حجرة اخرى، غير انني طبقاً لوصف السكرتيرة اعبر باباً صغيراً الى شرفة داخلية مطلة على صالة فسيحة. قسم من المبنى لم اتعرف عليه بل انني لم ادرك وجوده حتى بالتخمين. تختلف الوان الجدران، وسط بين الرمادية والبني، لوحات أنيقة في اطارات خشبية متساوية الأحجام، متشابهة التكوين داخل بعضها رسائل او صفحات مدون بها خطوط اشخاص قدامى. ربما مشاهير كتاب او علماء. لم يتح لي الوقت للتفحص. يقف المدير امام الباب المؤدي الى مكتبه. لا احد غيره رغم ثلاثة مكاتب متساوية على كل منها أوراق وملفات وكراسات متفاوتة الاحجام، ومصابيح اضاءة عتيقة الطراز.
يرتدي قميصاً وبنطلوناً رمادياً، تتقدمه ابتسامة يرحب لي باسطاً يده الى الداخل اتقدمه يشير الى مقعد وثير في ركن الغرفة يواجهه مثيله، يجلس اليه، تلك علامة ابداء الود، حميمية المقابلة.. تمنى ان تكون الاقامة مريحة. استفسر عن الوجبات ثم قال ان بعض المشاهير اقاموا في غرفتي احدهم عالم كيمياء امريكي فاز بجائزة نوبل اثناء اقامته بلغه الخبر من السكرتيرة.
شكرته على كل شيء، غير انني ابديت ملاحظتي على خلو البرنامج من اي نشاط يخصني.
يقول ان كل شيء كان واضحاً خلال المراسلات مع المستشار الثقافي. قلت ان من قابلته كان الاقتصادي حتى انني تعجبت. ابدى اسفه، قال انه لم يعلم ذلك، هم لا يطلعونه على كل التفاصيل التي تجرى في السفارات خلال الترتيبات التي تتم لدعوة الباحثين.
قام ليتناول كتاباً صغيراً من فوق الرف، سألني عما اذا كان في غرفتي نسخة منه، قلت انني لم اره، قال انه سيعطيني فكرة جيدة عن الذين اقاموا وما أنجزوه، اي تأثير مشاركتهم على اعمالهم التي تلت ذلك. المعهد لا يوجد برنامج معين له، لكنه يوفر المناخ والمصادر والامكانيات لكل من يأتي بحيث ينعكس ذلك على اجتهاده وبحوثه.. كدت استفسر عن اسم المعهد وماذا تعني الدراسات المتقدمة. لكنني لم انطق، اطرقت محاولاً استنتاج الغرض من المقابلة، موقناً ان ثمة شيئاً آخر لم يفصح عنه، سألني فجأة عما اذا زرت المتحف المصري؟
رفعت اصبعين، مرتان. قلت ان الموجودة هنا خاصة وبها قطع نادرة.
قلت ان لدي خطة لزيارة كافة المتاحف. وترددت اكثر من مرة على المكتبة الوطنية وعندما طلبت اطلاعي على بعض المخطوطات استجابوا بمجرد إبراز بطاقة المعهد.
بدا مسروراً، متوجهاً بنظره الى نقطة ما في الارض. متطلعاً إلي بين جملة وأخرى. قال ان اي جهة. خاصة أو عامة ستقدم لي كافة ما اطلب. طبعاً في حدود القواعد المتبعة.
فجأة, اتجه الى مقطباً، كأن خاطراً طرأ عليه فجأة.
اعرف انك سافرت كثيراً…
أومأت. قال ان لديه اقتراحاً يمكنني ان افكر فيه، لقد بقي حوالي عشرين يوماً، الآن نصف المدة انقضى والنصف الآخر متبق، طبعاً يمكن انهاء الاقامة في أي وقت ارغب، لكن اتمام المدة تترتب عليه فرص أخرى في المستقبل، خلال الأيام التالية يقترح ان اخصص وقتاً، فلنقل ساعتين أو ثلاثاً يومياً، ادون فيها اية خاطرة او واقعة مررت بها خلال ترحالي في البلدان المختلفة.
قلت انني لم افكر قط في كتابة اي شيء، لا مذكرات ولا خواطرولا يوميات ربما لانني اجد ما ارغب قوله مدوناً بخطوط الأقدمين.
قام متجهاً الى المكتب. فتح درجاً تناول منه جهازاً صغيراً في حجم القلم الحبر. قال متسائلاً: ومن طلب منك الكتابة هذا الجهاز سيصغي اليك كلما خطر لك او تذكرت شيئاً ما يمكنك ان تمليه عليه. هذا أحدث تسجيل رقمي يستوعب الفي ساعة متصلة، يمكنك الاحتفاظ به. قلبته بين اصابعي، قرأت الاشارات المدونة عليه.
استخدامه سهل:
جداًَ..
ثم قال مواصلاً: انه هدية شخصية منه الي، لن يسأل ولن يستفسر ولن يلزمني بأي شيء لكن اذا تجمع شيء ورأيت ارساله الى المعهد. سيتم اجراء الاتصالات لنشره.
اشار باصبعه مؤكداً
اذا رغبت
لماذا جئت؟
لماذا لبيت مع أن الأمر كله بدا غامضاً منذ البداية؟
لماذا ابدد ما تبقى لي من وقت مع أنه نادر وعزيز؟
ماذا أقول؟
من أين يبدأ حديثي؟
كل شيء باد لي, كأنه يخفي شيئاً آخر. ليس في متناول السمع والبصر والحس ادراكه. مبنى المعهد. مكتب السكرتيرة. درج السلم الكتب المرصوصة فوق الارفف المصابيح، النوافذ العربية، المدير الذي بدا صوته اقرب الى الأصوات الآلية الموجودة على أجهزة الهاتف الحديثة. ذو مستوى واحد. عندما استرجعه يدركني خوف غامض.
هل الاقتراح مرتب من قبل. او انه عفوي. جاء استجابة للضجر والسأم الباديين والاحتجاج المبطن على خلو الاقامة من برنامج يشغل الوقت.
ما من يقين، احاول فحص ملامحه وصوته عبر الذاكرة، لكنني احار. اعدز عن استحضار ملامحه في تفاصيلها. كأنه ينتمي الى زمن اقدم من ذلك الذي رأيته فيه. لماذا أمسكت بهذا الجهاز، لماذا اخذته بدون ان استفسر حتى عن طريقة تشغيله.؟ كل ما فكرت فيه عندما قال انه هدية شخصية منه. كيف أرد عليه؟ قررت اهديه علبة جميلة مطعمة بالصدف احضرتها معي لهذا الغرض.
هل يتصل الجهاز بجهة ما. هل ما اقوله بهدف التسجيل يسمع من جهة أخرى؟
رما، لماذا كرر حرصه على احتفاظي به، الانه يعرف عن حفظ كافة ما سأقول؟ لكنه لم يبد اقتراح الحديث الا عندما ابديت تحفظي على الكتابة. على التدوين، على اي حال سأفترض كل الممكنات، احتمل اصغاءه الى ما انطق به، سأبدو في لحظات معينة وكأني اوجه اليه الحديث. بل اتعمد الاستفزاز او التعبير عما لا أقدر على نطقه، ذلك انني جبلت على الخجل. وهذا ضيع علي سلوك طرق، وجنبني اخرى، ودفع بي الى ما لا اقدر عليه.
أحار، بماذا أبدأ؟. ظننت أنني غير قادر، لن أجد ما اقول. لكنني منذ ان ضغطت الزر الأحمر والصور والاخطاء تتزاحم، تتدافع، بماذا؟ بماذا؟
لماذا لا أسجل تفاصيل مجيئي الى هنا؟
ثمة دافع لتحدي شخص ما لا اعرفه، استفزه، بنظرة، بكلمة، بايماءة. بوضع اتخذه، لا أعرف من هو، تماماً كما لا ادرك المخفي خلف كلما أطالعه.
لكن… لماذا أتعمد ذلك؟. الحق انني لم ار ما يسيء، لا من المدير، ولا السكرتيرة، ولا الفارسي الذي أتعد أنه يتحدث العربية لكنه لا ينطقها معي، كذلك العجوز وزوجته. ربما لأنني لم افضفض مع احد، كل ما يحيط بي، ما اراه يقصيني، لذلك اردد: لماذا لبيت؟ لماذا استجبت؟
بدا كل شيء مألوفاً، اتصال هاتفي من سكرتيرة المستشار الاقتصادي، تتحدث العربية بصعوبة، وعندما خاطبتها بانكليزية أتقنها انطلقت بمضمون الدعوة. أبديت دهشتي، ما علاقة المستشار الاقتصادي بذلك النوع من النشاط؟ دائماً توجه الدعوات من المتخصصين في الشأن الثقافي، غير انني لم انطق ذلك، هاأنذا اقول به لأول مرة، مكتبة في مبنى مستقل، مستطيل، يجلس في آخره، نظارته الطبية قديمة الطراز، دائرية، كأن عينيه تتطلعان من وراء حاجز غير مرئي، حدثني عن رسالة المعهد، وتجاوز سمعته ارقى وأعرق الجامعات، من اكسفورد الى هارفارد وغيرهما، ان الاقامة به، او المشاركة في انشطته تضاعف القيمة العلمية، مجرد المكث به ولو شهرا واحداً، التواجد فقط حتى بدون اي مشاركة تجعل الضيف مقبولاً في ارفع المحافل العلمية وتفتح امامه الفرص، بدأ حديثه هادئاً تمر تصاعد حماسه، خاصة عندما قال: ان معهد الدراسات المتقدمة.
كدت ابدي سخريتي، لكنني كتمت، ما الذي يمكن ان يحصله المرء بدون بذل جهد لمجرد الاقامة؟ أليس المعنى رمزياً الى حد كبير؟ ربما، قدم لي مظروفاً يحوي كتيبات صغيرة تتضمن المعلومات اللازمة، ومظروفاً اكبر يحوى نسختين من العقد المبرم، فلا بد من اتفاق بين طرفين، ثمة مبالغ ستدفع مقابل مصاريف الاقامة، والمشاركة في الأنشطة.
أي أنشطة؟
لا أعرف عنها شيئاً، لا الكتيبان او المستشار، او المدير، اي منهم لم يوضح لي التفاصيل، غير ان كافة الالتزامات التي تضمنها الاتفاق، خاصة تلك المتصلة بما يجب دفعه لي مقابل مصاريف الجيب والاقامة، اما بالنسبة للانتقال، فقد سلمتني السكرتيرة صباح اليوم التالي بطاقة حمراء، مكتوبا عليها التاريخ، يوم وصولي، ويوم مغادرتي، فقط ابرزها عند استخدام اي وسيلة داخل الحدود، براً وبحراً وجواً، عدا المركبات الخاصة طبعاً. قالت اذا اضررت الى استخدام عربة اجرة، كل ما ستفعله ان تطلب ايصالاً، سيصرف اليوم التالي.
بعد ايام من بدء اتخاذ اجراءات سفري اتصل بي المستشار الاقتصادي، ابلغني بدعوة الى العشاء، مساء الأربعاء القادم، لان الوقت ضيق فهو يستأذن من رقم الفاكس لأنه لا يمكن طبع دعوات في هذه الفترة الوجيزة، المناسبة وصول وفد علمي اتم دراسة بدأت منذ عشر سنوات تحت اشراف المعهد لدراسة الرياح المتصلة والرياح المضادة ومحاولة تحديد نقطة انطلاق كل منها، بالطبع الهدف تأثير ذلك على الملاحة الجوية والبحرية، بين الجماعة متخصصون في وثائق ومخطوطات الأسفار القديمة سواء بحراً أو جواً.
ليس أغرب من الاقامة في المعهد الا تلك الحفلة، مضيت الى الفندق المطل على النيل، منذ اقترابي والكل يتطلع الي كأنهم يعرفون شخصي مع انها المرة الأولى التي اجيء فيها الى هنا، ايقنت ان احدهم وزع عليهم صوري، بل خيل الي ان احدهم نطق باسمي، من الباب، الى المصعد، الى الطابق الثاني حيث القاعات التي تقام فيها حفلات العرس والاستقبال، وتوقيع الاتفاقيات، عند مدخل القاعة محدودة الاتساع وقفت شابة عارية الكتفين، ثوبها من القطيفة السوداء اللامعة. عندما انحنت لتحدد لي موقعي على خريطة المائدة التي اتصلت بها وريقات مستطيلة كتب على كل منها اسم الضيف حتى يتجه الى مكانه مباشرة، سلمتني وردة حمراء.
كلهم اجانب عداي، حتى من دعاني لم اجده، في مواجهتي جلس رجل خمسيني يبدو انه رئيس المجموعة او الشخصية المحورية، اومأ فأجبت، فيما بعد، عندما كنت استعيد الكلمات المتعاقبة وملامح الوجوه، والاشارات المتتالية الى الجهود التي بذلت والتي اتخذت من المحيط الهندي مركزاً لها، كنت اردد ساخراً: الجواب ظهر من عنوانه لكنني لم الحظ، لم يكن الحفل الغامض الا تمهيداً للمعهد الذي لم اعرف لا الهدف من قدومي اليه، ولا من المعهد نفسه، غير ان ما بقي عندي من تلك الليلة، هذه الأنثى الهشة، جاءت الى جواري، مرتدية ثوباً رمادياً، باقته خضراء، ذراعاها في ارتواء ركبتيها.
أومأت مولية ملامحها تجاهي فبدأ ارتياحي، وهبَ عندي حنين الى زمن اول كان وجه عابر رأيته صدفة يؤثر في اكثر من معاشرة. استداراتها مذهلة، هالها الخفية استردتني الى خدر تمدد داخلي فأيقظ عندي رغبة اصبحت عصية.
مالي اراها الان جلية واضحة، كأن اجلس امامها وليس الى جوارها، بل انني اشهدها من سائر جهاتها، وأكاد امسك بمصدر جاذبيتها. بمحورها غير البادي، بعد ان بدأت بسرعة، ابطىء ايقاعي، ارفع صوتي قليلا، استحضر كل التفاصيل حتى رائحتها الخاصة جداً. فيما بعد قالت عبر الهاتف انها تذيب قدراً من عطر مستخلص من الصنيبر، تغمر جسدها فيه، تبلله، تعشقه، هكذا قالت بالضبط، ارى كتفيها بمفردهما، كأنهما لا يتصلان بجسدها. كذا ركبتيها. لكل تكوينه ومجاله.
عجيب هذا، ان ارى بالاستعادة اوضح مما عاينته في وقته، ان المَ اكثر بالتفاصيل التي لم اتوقف عندها في حينها، مثل الخاتم الماسي القديم الذي يبدو لي الان، غير انني اسأل، أحقاً خاتمها ام انه يمت الى اخرى، ام رأيته في واجهة معرض عتيق صغير للمجوهرات في احد دروب خان الخليلي؟ المؤكد انه اصبعها، حدث انني كنت اتناول عشائي ذات ليلة بحضور استاذ كبير من ايران، المائدة التي جلست اليها مستديرة، بجواري سيدة ترتدي جلباباً انيقاً فضفاضاً لا يكشف تفاصيلها، تغطي رأسها بحجاب منمق بعناية، تظهر في برامج تلفزيونية، وتنشر صورها احياناً في الصحف التي تستطلع الآراء، او تدافع عن الحريات، رغم مظهرها المتحفظ، يمكن وصفه بالمتشدد، الا انني لمحت في حضورها عياقة، قلت لنفسي وقتئذ، الانثى أنثى، غير ان ما عرفته منها اذهلني، عند انصرافنا لم يكن بوسعي الا ان اتقدمها كي افسح لها، لسبب ما لا اذكره الان، لا اعرفه، ربما غطى عليه ما جرى، توقفت فجأة، انكفأت على ظهري، جسدها كله تحمل على جسدي، ماروعني استداراتها. هذا الفستان الفضفاض، المعسول على كثير يخفي استدارات، ثدياها، بطنها، اخمصه، فخذاها، دوائر، دوائر متدخلة، سرت عندي قشعريرة، لم المسها بيدي، تمالكت.. آه، اعي الان اكتشافي فجأة درجة عريضة لا بد من نزولها، التفت معتذراً، غير انها تطلعت صامتة كأنها تعرف اي بصمة أودعت عندي، ليس على امتداد ظهري فقط، انما عبر كافة الوقت الذي تلا ذلك، استعيدها عارية تماماً. فلم يكن ثمة حائل أو مانع، ما اثار عجبي، كيف يمكن لرداء ان يخفي تلك الثمار؟ ما زلت استعيد نظرتها، احيانا استعيد دهشتي، ومرة ابتسم ربما ساخراً، ومرة أحاول استكشاف الرغبة.
أما تلك الجالسة الى جواري فاستدعى وقارها. وأقارن بما صدر عنها بعد ذلك فابتسم كما افعل الان، وان كنت متردداً في ذكر ما جرى بيننا، ما زلت بصراحة متردداً فيما يجب ذكره وما ينبغي حجبه، لكنني الان اقل تردداً، خاصة انني كلما امعنت كلما تذكرت وتبينت، ربما اتخلى شيئاً فشيئاً عن حرص، او ما تبقى من خجل قديم يحول بيني وبين الافصاح، يطغى حضورها تلك الليلة على ما عداها. لا اذكر ملامح اخرى تمت الى اي من الحاضرين، لا احتفظ بأي من المعاني التي سمعتها عبر الخطب المتتالية عن التيارات الهوائية ومساراتها. حتى الان لا اعرف سبباً لدعوتي أنا المتخصص في المخطوطات القديمة وترميمها. لفترة ظننت انها محاولة جرت لاستدراجي او توريطي في تجارة المخطوطات، خاصة ان عصابات دولية تعرف الرصد والتسلل الى المواضع الكامنة في البلاد العتيقة مثل مصر، واليمن، والمغرب، وبالطبع تعرف المتخلين من ذوي الصلة، غير انني استبعد ذلك الان، عند خروجي تقدمت الفتاة التي استقبتلني، طلبت عنواني بدقة، وقالت ان هدية رمزية ستصلني تقديراً للدور الذي اقوم به، طبعاً لم اعرف المقصود بالضبط ولا ما اقوم به الا اذا كان بعض ما اقوم به له علاقة بالتيارات الهوائية الاساسية والعكسية وانا لا اعرف ما خرجت به من القاعة بطاقة جارتي، قدمتها لي بعد ان سلمتها بطاقتي التي تحمل عناوين كافة، فقط كتبت رقم هاتفي النقال، لاحظت ترددها قبل ان تفتح حقيبتها وتخرج بطاقتها، خشية الا افقدها خصصت دفتراً صغيراً ادون به العناوين التي تهمني كذلك ارقام الهواتف.
بعد ثلاثة ايام رن الجرس في موعد لا اتوقع فيه قدوم احد، تطلعت من العين السحرية، حسن البواب، قال لي مشيراً الى شاب يحمل علبة متوسطة الحجم: الأخ يريدك، يحرص حسن على مصاحبة من لا يعرفه رغم انه غير مزود بأي سلاح او عصا حتى، يطلع مع محصل الكهرباء والغاز، وبعض الصينيين الذين يبيعون الملابس وأدوات كهربائية، ومنهم المتخصص في الحلاقة، حال جديد يتناقل الناس اخباره، طلب مني الشاب ان اوقع في دفتر يحمله، فقط توقيع بالاستلام، الدفتر والصندوق والمظروف الملصق به عليها شعار المؤسسة التي حضرت عشاءها الغامض، سفينة من القرون الوسطى، كل اشرعتها مفرودة، تجر في موج ما، لمحت ايضا شعار المعهد، بوابة قريبة من تكوين المحراب، او البوابات المؤدية في العمارة الأندلسية، المؤسسة تتبعه، لم اعرف درجة التبعية، اهو اشراف ام ادارة ام استرشاد، وضعت الصندوق، قلت لأفتحه غداً بعد عودتي من العمل، لكنني تطلعت اليه، قررت الان، لفافة تليها اخرى. مادة بيضاء لينة، اخيراً.. ظهر الوعاء الزجاجي، كأس مفلطحة من زجاج يميل الى الأزرق الفاتح، فيما بعد قال صاحب حميم انه نوع نادر جداً لم يعد يصنع مثله الا في قرية يحيط بها الماء من كل جانب قرب فينيسيا البندقية، لا تنتج من هذا الا اربعمائة كل سنة، انها صناعة يدوية نادرة جداً من هنا مصدر ارتفاع قيمتها. قال بلهجة العارف انها تساوي الكثير. لم اخرج الكأس من رقدته، من المادة البيضاء التي تحيط بها، تمنع عنها الصدمات، افسحت لها مكاناً بين صناديق اخرى لم افتح بعضها منذ سنين، داخل صوان قديم، لكن هذا بالتحديد، اغيب عنه وأرجع اليه. ربما لانه مرتبط بما لم اجد له تفسيراً، وربما لصلته بتلك الانثى التي تتضح ملامحها كلما ذكرتها، اما المؤسسة فلا تقل غرابة عن المعهد الذي جئت بقدمي اليه بدون ان اعرف اي شيء عن مهامه، او حتى المطلوب مني…
لا يحيرني الا تلك الملامح التي عبرت بصري، تحلقت بها لحيظات، في الطريق، في مكان، في محطة قطار، في مداخل الفنادق والمستشفيات، مضى اصحابها – خاصة الاناث منهن – بدون ان اعرف شيئاً.
في البداية ظننت انني لن اجد ما اقوله، ستدركني لجلجة، الان مع بداية اليوم التالي تتزاحم عليّ الرؤى والمشاهد والأقوال، يتضح لي ما لم يتضح في حينه، لا ادري ايهما الواقعي؟ ذلك الذي مررت به او ما اذكره بعد استعادته. وجوه اماكن ظننت انني لن اذكرها، بعضها نسيته، لكنني مع تذكرها كأنني استعيدها اول مرة.
تطل على الاستاذة، تروح وتجيء، تغيب وتحضر، وقفتها بميل قليل الى الأمام، رجفة جانب فمها المفاجئة، عيناها الجافتان، الانثى التي لم يبتل رحمها بماء الذكر، اقطع بذلك، بل اكاد اثق به، لا اعرف كيف الممت بما جرى لها، ليس في قعدة واحدة، انما عبر طلات، وقفات، لا اقدر على القول انني عرفت إصرار والدها الشيخ المهيب، محمود السمعة على رفض اتمام زواجها من اول المتقدمين اليها، الحب الوحيد الذي شب ونما عندها ولم يكتمل. اصر على فسخ الخطبة لسبب غريب.
متى عرفت ذلك؟ اثناء العشاء الذي اقيم في بيت مدير الجمعية الداعية الى المؤتمر، ام في مقر الكلية التي اقمت في قسم الضيافة بها. ربما في بيت المدير المطل على حديقة غزيرة الخضرة والزهور، كأنه حرش متبقى من الطبيعة الأولى.
قالت ان مسارها كان ممكنا ان يتبدل تماماً لو ان اللقاء بين الأبوين لم يتم هذا اليوم، فيما بعد اعترف ابوها ان مزاجه كان غامقاً ذلك العصر لانه لم ينم جيداً، ولمشاكل في معدته. اضمر انهاء الصلة مقدما وربما وجد في الخلاف الذي نشب حجته، عندما اصغت الى قوله هذا دهشت واضمرت تعجباً. كيف يغير ويبدل مصير ابنته لهذا السبب؟ ظننت انه يعلق النتائج على اسباب تبدو غير مقنعة لها ويظن هو انها كافية. توقن انه منذ لقائه بوالد العريس لم يدع له، والدها شيخ معروف، موقر، عضو المجلس الأعلى، له برنامج اذاعي بعد صلاة الجمعة يبصر الناس بشؤون دنياهم. والد العريس رجل اعمال بعد تقاعده من وظيفته الحكومية، في ذلك الوقت لم تكن تغييرات التصدير والاستيراد شائعة، انه اول من تلتقي به ويوصف بأنه مصدر، يعمل في منتجات خان الخليلي، المصنوعات الجلدية، الخشب المطعم بالصدف، النسيج اليدوي، معظم معاملاته مع اوروبا الشرقية، كان ذلك في نهاية الستينات، قبل هزيمة يونيو، كان مظهره حسياً، شديد الميل الى النساء، وكماعرفت فيما بعد لا يفضل الا العاهرات المستترات، اي اللواتي تعمل كل منهن لحسابها، لا يوجهها قواد او تنتظم في شبكة، كان ينفق عليهن، لكنه يقيم مع بعضهن علاقات وصفها بالانسانية، او يتصور هو ذلك، بالطبع امرأته لم تحتمل، ويبدو انها لم تستطع تلبية رغباته، كانت سيدة جميلة، كريمة، لا تتذكرها الا ومعها وصف النبيلة. تعزها جداً، وحتى الان تتصل بها في الأعياد والمواسم من سنين، نعم في استراليا حيث تعيش مع شقيقها المهاجر هناك بعد اختفاء ابنها الوحيد في العراق، ابنها الذي كان خطيبي..
تعرف ان والدها لم يرتح لأبيه منذ ليلة الخطبة التي حرص على اقامتها في النادي النهري على النيل. واختار ابوها موعداً يوافق حلول ليلة النصف من شعبان، الا انه فوجىء بالرجل يحمل كأساً من الويسكي مما اثار حرجه امام زملائه العلماء والمشايخ وصحبه واقاربه، لم يبد اية علامة على ضيقه او عدم رضائه، الحق انه كان متسامحاً، متفهماً، وله صحب من كل الملل والعقائد، بل ان بعضهم كان من الشيوعيين، لكنه بدا متحفظاً تجاه الرجل، اقتصرت الصلاة على مظاهر رسمية، الى ان حل ذلك العصر الذي اتفقا فيه على لقاء في النادي نفسه المطل على النيل. بدآ الحديث عن تفاصيل الزفاف، وعندما قال والد العريس انه اتفق مع فرقة بلدي للزفة، رفع الشيخ يده، ابدى اعتراضه، انه يفضل زفة افرنجي، بالكمنجات وليس بالمزمار، هذا افضل.

***

هي لم تعرف بما جرى بالضبط. التفاصيل عرفتها من خطيبها الذي اتصل بها سراً اكثر من مرة بعد الشبكة وخاتم الخطوبة الذي ما تزال تنتظر ملمسه لإصبعها وهيئته وتطلعها بين الحين والآخر اليه. والدها المح وذكر بعضاً من تفاصيل، ويبدو ان ندماً اعتراه، بعد عامين قبل سفرها إلى انجلترا للدراسة قال لها: سامحيني يا بنتي، وعندها تطلعت اليه دهشة، حائرة.
أنا اسامحك يا بابا…
لم يفسر، ولم يشرح، لكنها تثق انه قصد فسخه لخطبتها بدون الرجوع اليها, أو معرفة رأيها او سؤالها مشاعرها، عاد غاضباً لينهي قراره الى أمها وإليها، استجابت وخلعت الدبلة، غير أنها بكت بين يدي أمها، وقبلت يدها لتقنعه، رددت.
معقولة.. معقولة يا أمي.. فستان الزفاف عند الخياطة وخطبتي تتفسخ…
قالت إنها موجوعة حتى الآن. لكنها لا تعتب على أبيها ولا تحمل له، سامحته، سامحته والله، رغم انه ضيّع نصيبها الذي لم يتكرر.
ماذا جرى بالضبط؟ ولماذا جرى ما جرى؟ لا تعرف، كل ما تأكدت منه أن رد فعله كان مباغتاً، عنيفاً، هو الذي لم تعرفه الا متفتحاً، صبوراً، ودوداً، لا يجبر أحداً على شيء ولا يصعب الأحوال.
زفة بلدي لابنتي مستحيل.
الآخر خاوي. لا تهمه الا المظاهر يستدير بحساب. ويتلفت بحساب. ويتظلم ضاغطاً على مخارج الحروف، ويستخدم الألقاب مثل بك وباشا كثيراً، كان ذلك في وقت من النادر ان يلفظ انسان بها. اعتبر اصرار الشيخ على الزفة الافرنجي اهانة له، ومنذ بدء الرفض وظهور التعنت جفت النظرات، واحتدت الكلمات، وظهرت عداوة كامنة لم تتسق قط مع كل ما اتسمت به الصلة من احترام متبادل في الظاهر وعدم تخطي الحدود.
لا أعرف ماذا جرى له، لاأعرف.
قالت إن الخاسر على المستوى المادي كان والدها، فقد أنفق على تجهيز الاثاث، وعلى ملابسها، كل شيء كان معداً، ألم يكن النقاش على مكان الزفاف وترتيبات الحفل، حتى الآن لم تصدق حكاية البلدي او الافرنجي، كذلك تعب ابيها ومرض معدته، انه صبور، حمول، لكنه ينفجر احياناً منفعلاً لأمور صعب تبريرها، فسر كل ما دفعه، وهم لم يخسروا شيئاً، شبكتهم عادت اليهم، والهدايا الصغيرة التي احضرها طوال تسعة شهور، قالت ان الشاب كان طيباً، ذكياً، واضح القصد، لكنه النصيب..
كيف جاءت إلى انجلترا؟
آه، هنا شابة، ربما تبدو منفصلة، لكنها متصلة،
بعد حوالي ستة شهور من فسخ الخطوبة، وفشل كافة المحاولات التي قامت بها الأم من هنا. والأم من هناك، فوجئت بالوالد يقول لها إنه سيوفدها في بعثة إلى لندن. ثمة فرصة متاحة. تدخلت عوامل عديدة لتوفيرها. لن تتكرر. البعثة لدراسة الدكتوراه. الماجستير أعدته قبل اقتراحه هذا. قال إنه لن يترك لها أو لشقيقها ثروة. اي مال تقل قيمته مع الوقت. ليس عنده الا الستر، لن يقيهما الحاجة إلا العلم. إنه الوقاية الحقيقية من مخاطر الايام، ما يرجوه الاطمئنان عليهما قبل انتقاله. عليها هي بالذات، تقول إنه عندما ينطق الاطمئنان فإياها يعني، تثق أن احساسه بالذنب تضاعف مع الأيام، لديها شواهد كثيرة على ذلك لن تبوح بها لأحد, لكنهم جميعاً تجنبوا الحديث في هذا الموضوع. هو صمت، أمها كذلك وبالطبع هي، اما شقيقها فكأن الأمر لا يعنيه، من يجرؤ على مناقشة مشيئة الوالد، المهيب، صرامته حادة، ما يقرره، ما ينطق به لا يجادله فيه أحد، رغم رقته البادية وحنوه الدافق وتفتح أفقه، مرة أمها ـ دائماً والدتها لا غير ـ بعد الغداء وأثناء شرب الشاي قالت بلهجة استفسار وليس سعياً الى النقاش. ألم يكن من الأفضل انتظار النصيب وسفرهما معاً؟ كان عمرها وقتئذ اثنين وعشرين عاماً، ما تزال تذكر إجابته، لم يحتد غير أنه بدا حاسماً: النصيب يجيء في أي وقت. في أي مكان؟
غير أن النصيب لم يأت، لم تقابله قط، النصيب أنها بقيت وحيدة، وأثناء دراستها رحل والدها الشيخ الجليل، تبعته أمها بعد شهور ستة، اما شقيقها فاستقر في بروكسل. التحق بمكتب محام دولي، الى من ستعود؟ بمن ستلحق. في الوقت عينه كان عرض الكلية بالتدريس لا يمكن اهماله أو الغض من أهميته. تخيلت ما كان يمكن ان يبديه أبوها لو أنه ما يزال يسعى. حتما سيوافق. اقنعت نفسها. بل صارت متيقنة من رضاه، هكذا بقيت، لا تقدر على الدخول في علاقات المجتمع الذي لا يمكنها ان تساير تقاليده بحكم نشأتها وميراثها الأخلاقي، لم يتقاطع مع مسارها آخر يفهم ويقدّر. في الوقت نفسه ظهر الوعد بكتابة اسمها على الجدار.
ماالجدار؟
فيما بعد أخبرتنا به. بل وأطلعتني عليه، غير أن وجهها الأسيان المقدد، ملامحها الأنثوية غير المسقية تؤرقني اذ تطل علي من هناك. من أفق المستعصي على النسيان. وهي من حققت رسوخاً ومتانة علمية تذكر في المراجع الدقيقة المعتمدة. اما اسمها فأصبح من الأسماء العالية في مجال الاختصاص.
هي هناك، وأنا هنا، أياً كان الأمر، فأنا هنا بالنسبة لي، وهي هنا بالنسبة لها، انا هناك عندها، وهي هناك عندها، ماذا يعني الوجود في نقطتين متباعدتين، منفصلتين، أين هما؟ أين حلولهما؟ اي انتقال يجمعهما. يبدل الوضع فيصير ما يوجد هناك هنا؟
قبل أن احّل بالمعهد أمضيت ثلاثة شهور لم أسافر خلالها الى أية جهة، في الداخل أو الخارج. غير أنني في العام الماضي لم أتوقف عن الترحال. حتى انني درت حول الكوكب مرتين. إنها طبيعة عملي. كل ما أحضره مؤتمرات ومنح علمية قصيرة.
يحدث احياناً أن أتلقى دعوة إلى مؤتمر او لقاء ما قبل شهور من انعقاده، أدون التاريخ في دفتري، غالباً ما يكون الفاصل عدة شهور، تبدو المسافة بعيدة، يحضني ذلك على القبول، فما يزال بعيداً، غير ان البعد يولي وأفاجأ بضرورة تلبية الوعد، وتنفيذ الالتزام، اضطرب بعض الوقت، غير أنني في الأغلب العم ألبي.
سفري الى الصين بدأ الإعداد له قبل عامين من صعودي الى الطائرة المتجهة الى الشرق ليلاً عند بدء إقلاعها. التاسعة وخمس وأربعين دقيقة من مطار القاهرة. الى بانجوك أولاً. ثم استئناف الرحلة الى الصين، الى بكين تحديداً في ثاني مرة اقطع فيها الطريق وان اختلف الأمر قليلاً. في المرة الأولى الى شانغهاي.
يحدث أن أفاجأ بتقارب أسفاري لتسلمي الدعوات قبل مدد طويلة. عند اطلاعي أول مرة أقول مردداً: ما زال عام متبقٍ، ما أنأى ذلك، ربما اتسلم رسالة تالية، كل ما أفعله أدون حتى لا تتداخل التواريخ، لا تبدو الفترات الفاصلة مقلقة عند النظر من بعيد، عندما أوشك أتبلبل وألوم نفسي، كيف لم أراعِ الفاصل بين الوصول والرحيل. اوشك على إرسال اعتذار، لكنني أخجل، اعرف الترتيبات التي تُتخذ وما يمكن ان يسببه ذلك لمن أظهروا العناية بي، مرة فضفضت لمن أثق به من رفاق الصبا، غير أنه قاطعني مبتسماً: انت لا يمكنك المكث، أنت خلقت للرحيل.. تطلعت اليه مردداً بيني وبين نفسي.
كلنا في سفر حتى المقيم ظاهراً.
هنا. هناك، أقرب، أبعد ماذا يعني ذلك؟ عن من؟ ولمن؟ إلى أين الأين؟ ماذا تعني خمس ساعات، تسع، عشرين، ماذا تعني مغادرة نقطة وبلوغ أخرى.
سؤال يليه آخر. الحق أنني دهش. هل أضمرت كل هذه الاستفسارات؟ احياناً يخطر لي ذلك. لكن عبر مسافات مكانية وزمنية. هنا تتدفق الحيرة علي، السؤال قرين الحيرة، كثيراً ما يكون اهم من الجواب، يهدىء بمجرد النطق به، كانه الوصول الى صياغة ثم النطق به نصف الطريق.
هل أصف حالي الآن؟
منذ استعادتي ملامح ابنة الشيخ، عالم الأزهر الشهير، طلتها الوحدانية، جفاف ملامحها، عرفت هذا الحال مرات، لكل ظروفها وأسبابها. ليس أقسى من وصول أنثى الى سن اليأس بدون أن تنجب، وأد رغبة الاستمرار وعنصر الأمومة افظع ما عرفت. ليس كمثله جرم. لي صاحب حميم، استاذ في علم المصريات، حدثني عن طالبة نابغة أعدت بحثاً عن العين في تماثيل الدولة الوسطى، لما أبديت الرغبة في قراءته قال إنها ستتصل بي لتأتيني به، في الموعد الذي حددته جاءت، تؤطر وجهها بحجاب. سمراء، كأنها تطل من لوحة عتيقة، مستديرة التكوين، هادئة الطلة، اجابتني عن استفساراتي عن المدة التي أمضتها متنقلة بين المتحف المصري وشعارة والبر الغربي بالأقصر. عن مراجعها. عندما سألت عن موقعها الآن. قالت إنها معيدة بالجامعة. وبعد لحظة تطلعت الي لنقول كلمة واحدة.
وعانس..
لم أعرف كيف أجيب، أو التعليق الذي يمكن نطقه، حتى الآن يتردد النبر في ذاكرتي. لماذا قالت ذلك؟ في صوتها مصارحة وشكوى وضيم واعتراف، لعلها المدة الوحيدة التي اصغيت فيها الى انثى تصف نفسها بأنها عانس، استعيد ملامحها بغتة، من مواضع لم أتوقع وفادتها علي.
وعانس..
تقول ابنة الشيخ. انها تمكث هنا. لم تذهب الى هناك. تنتظر تحقيق املها. ان يكتب اسمهاعلى الجدار بذلك تكون اول عربية يحفر اسمها عليه بين لأسماء النوابغ الذين درسوا وتخرجوا من الجامعة.
أستعيد نبرها وظهور اصدائه عندي، حركة عينها العصبية، لم يستغرق لقاؤنا الا دقائق معدودات، مجرد وقفة تعارف وحوار سريع بعد انتهاء محاضرة، ربما كنت اعني لها شيئاً لأنني قادم من بلدها الذي لم تزره منذ ربع قرن، ربما تستعيدين بشكل ما، لكنني لا أعرف، وهي لا تعرف كيف تلح علي.
الحقيقة. ثمة معنى أريد أن أقبض عليه، استوثق من ثم اعبر عنه. انطقه. ليس حديثي عن الصين وأسفاري إلا حومان قربه. ودفعاً لذاتي كي تقترب منه. أراه غائماً وأرغب حلوه، ليتني أقدر لكنني لم أكف، لعلي. لا
أذهب وأرجع، أستقيم وأدور، فلا أجد إلا الحكاية، لعلها توضح لي قبل اي انسان آخر من خلالها أفهم ما غمض علي، هل قصد مدير المعهد ذلك عندما طلب مني أن أروي ما يرد على خاطري. ما أزال اشك فيه، لا أعرف ماذا يضمر، هذا التكلف، تلك الحذلقة في النطق والحركة. المبالغة في ابداء الاعتذار عن تغيبه وقت وصولي. ثمة شيء ما لم أقدر على الامساك به. أو تحديده. غير انه يقلقني رغم امتثالي لما طلبه مني. تنفيذي ما أراد معللاً بأن الأمر لاقى هوى في نفسي. ربما يتم تسجيل ما انطق به، ماذا اخشى؟ ماذا لو بحت بأدق دخائلي، فليترجموا، فليفحصوا، لا يعنيني أمرهم، سوف أستعيد إذن بعضاً مما جرى لي علّي أوضح.
حدث أن اتصلت أسبابي بأنثى مفردة، لم اعرف مثلها ولم ألتق بمن يقاربها، رغم انها تعيش في بلد وانا في بلد، تعرفت بها قبل سفري بساعتين، بعد ان حزمت حقائبي، كان لديها بواعثها وأسباب مايحركها، لاقى عندي تمكيناً واموراً، ولهذا حديث يطول امره أرجئه الآن لعلي مفصله فيما بعد، غير أنني اكتفي بالاشارة، بعد عودتي صار بيننا جسر من الخطابات والرسائل، عبر الهاتف، عبر الشبكة العنكبوتية، عبر السطور، تعلقت بها على البعد، حتى صارت عندي اقرب وأدنى من كل الذين عرفتهم عن قرب ولمدد طويلة. نمونا سوية عبر التنائي بما تجاوز أية إمكانية تتحقق بالقرب وهذا عجيب. اخشى لو بدأت شرحه فلن يدع مجالاً لذكر اي شيء آخر، غير أنني المح الى حال غريب، الوحشة داخل الوحشة، أو الافتقاد عبر الافتقاد، تزداد وحشتي عند حلول توقيت خروجها من بيتها قاصدة عملها كأنها لم تفارقني الليل كله، عند قرب عودتها أتهيأ كأنها ستعانقني وتفيض حاستي بعبيرها اذ أتخلل شعرها بأنفي، بل ان الاستثارة تدركني حتى أهب مشرئباً بجسمي في الأويقات التي تضطجع خلالها. في احد الأيام اخبرتني انها ستسافر لثلاثة أيام الى مدينة جبلية عند سفح وسط غابة. صرت في وحشة كثيفة كأنها بدأت سفرها مني وليس من هناك الى هناك. تتبعتها على الطريق. خشيت من عربات مسرعة ونقل حمولته ثقيلة ومفاجآت قد تظهر فجأة. صرت الى حلكة رغم انها لا تهاتفني مرات نهاراً وليلاً. تسعى الى ارضائي عبر صوتها، غير انني كنت ازداد افتقاداً لها داخل غربتي عنها. وعندما رجعت الى مقر اقامتها هدأت قليلاً منتمياً الى وحشتي الاصلية.
ان تدركني ضعضعة لاقامتها في غربة فهذا مفهوم. اما ركوني الى البيت لغيابها داخل الغياب. لابتعادها ضمن البعد. فهذا مما حيرني. هنا أستفسر، ماذا يعني هناك بالنسبة لها عندي، ماذا اضافه ذهابها الى هناك وهي هناك أصلاً.
ماذا يعني هنا؟ ما معنى هناك؟
ألا يكون المقيم هنا احياناً أبعد من الماكث هناك؟
عندما نرلت شانغهاي، من المطار الى المدينة، قلت: ها انذا بلغت الاقاصي, فيما بعد تساءلت: الأقاصي بالنسبة لي طبعاً، عندما ولجت زخم المدينة، كثافة معمارها، شهاقة مبانيها، لن يلح لي من ملامحها الصينية الا لغة اللافتات، الحروف التي اعرف اشكالها واجهل معانيها، عندماعبرت مدخل الفندق الفسيح الى مكتب الاستقبال رددت: هذا مبنى، هذا مكتب، هذا عامل يتقدمني الى الطابق الحادي والثلاثين المخصص لرجال الأعمال المتنفذين. للشخصيات الهامة، هذا كله هنا، أنا هنا ام هناك؟ اعتبروني هاماً، عندما عبرت الباب تساءلت: ما حاجتي الى هذا كله؟
جناح فسيح، صالة اجتماعات، غرفة مكتب بها حاسب آلي، فاكس خاص، ثلاث غرف نوم، أربعة أجهزة تلفزيون، لماذا هذا كله؟ ترف عندي يثير الارتباك، تماماً مثل اضطرابي عند جلوسي الى مائدة تتوالى عليها الأطباق، لا أتذوق الطعام، حدث ان دعيت الى مدينة مراكش ولي بأهلها وثيق صلة وجميل مودة، المناسبة شهود البيعة، توالى وصول وفود القبائل، ضربت خيامها في فراغات المدينة، في السهول المحيطة.
اليوم التالي توجهت الى قصر الباهية لتناول الغذاء على المائدة الملكية بعد تمام المراسم. واكتمال الأصول. مع بدء اجتيازي المدخل الى الممرات المؤدية الى الفناء الفسيح تعلق بصرى بالزخارف. أحاول رد كل عنصر الى اصوله، الزهرة تصبح دائرة والغصن يصير الى منحنى، غير ان ما لفت نظري وجذب بصري، درجة اللون البنفسجي. ودرجات الألوان لا تتناهي، تخضع لمؤثرات شتى، منها تركيب اللون ذاته وصلته بالزمن، مرور الأحوال عليه من برد وحر، شمس ومطر، كذلك تغير درجات الضوء فيما يكون صباحاً لا يمكث بعد الظهر. بل ان الأمر متغير، صائر الى تبدل من ساعة الى أخرى.
يستدعى الى ذلك مدناً اخرى واصقاعاً نائية امضيت فيها ازمنة متفاوتة، لو ذكرت ما تبقى منها عندي لطالع القوم مني عجباً. تلح علي مدينة عشق آباد عاصمة بلاد التركمان. نزلتها منذ عشرين عاماً، زمن الاتحاد السوفياتي، امضيت أسبوعين لأمر يتصل بالسلام العالمي ودعاته. لا أذكر المناسبة التي دُعيت فيها الى بيت مخرج سينمائي شهير قيل لي إن افلامه معروفة في الغرب. قعدنا في فناء الدار، رائحة الشواء، والأرغفة سخية القمح، الطازجة، دخلت ابنته فتعلقت بملامحها ولون بشرتها القريب من حمى النيل. دارت علينا باناء القهوة الفواحة. وعندما واجهتني امسكت البكرج بيد والفنجان بأخرى، مالت ناحيتي.
في قصر الباهية قعدنا أمام الوائد التي رصت حول الفناء المستطيل. قال صاحبي المجرب: انبته. احد عشر طبقاً خلال ساعة وعشر دقائق في توقيت واحد يظهر خدام القصر. يرتدون الجلباب والسلهاب. يحملون فوق رؤوسهم الطناجر الفضية، تنكفىء عليها اغطية مثلثة الشكل يقفون خلفنا. في لحظة واحدة ينحنوم يرفعون، نبدأ، من عادتي المضغ المتمهل، في مثل تلك المآدب لا أتذوق، لا استمتع بالطعام الا مع صاحب حميم، لذلك وجهت حواسي لرؤية الألوان. وسماع الموسيقى المصاحبة للجو.
تتوالى الأصناف. أفضل طبقاً واحداً أشبع منه. ربما لاعتيادي منذ أيامي الأولى الشظفة الأكل من طبق واحد. التمدد في حيز محدود، مهما اتسعت المساحات، أو تعددت الغرف. لا يشغل الإنسان إلا مساحة تخصه عند الجلوس، عند الرقاد، من هنا بدأت حيرتي عندما دخلت الجناح الفاخر في شنغهاي.
ربما أخصص وقتاً أملي على هذا الجهاز وصفاً وذكراً للأماكن التي رقدت فيها، كل منها مغاير، مختلف، مجمع للمتناقضات، لو أصغى القريب مني، المألوف لي لدهش وحار، فما البال بالغريب عني؟
نزلت المدينة، توقفت عند نهر اليانفستي، الوقت عصر. تلألأ فوق المويجات صدى لضوء الشمس الأصفر، خطر لي فجأة إنها الصين اللون الأصفر المقدس الذي كان محرماً على العامة، يختص به الأباطرة لا غير، درجة خاصة، صفرة لم أطالعها في أي مكان آخر، انعكست لجزء من الثانية غير أنها تمكنت ورسخت، تدفق المياه في النهر مغاير ربما يبدو أسرع، مستوى الماء واحد في الكوكب لكن لكل نهر سمت، ولكل مجرى علامة، النيل مرجعيتي، ليس كمثله نهر، بتدفقه، بهدوئه الوعر، صمته الغريب، عتاقته وسريانه، وذلك الشيء المستعصي على الإمساك به، إنسانية حضوره، كلما لزمت ضفته، أو تطلعت إليه، أستوثق أمراً فيه. إنساني الطبع، فكأنه يسمع ويرى.
أعبر النواصي، هذا شارع، ذاك مدخل، تلك دور عتيقة من بقايا المدينة القديمة، أي زمن الحكم الماوي المتشدد، كنت على البعد معجباً به، متشيعاً له، بل إنني اعتقلت بسبب ذلك، غير أن ما أسمعه منذ وصولي نقيض ما قرأت، والوجه الآخر لما اعتقدت، كذلك ما أطالعه وما أراه. من هنا بدأت الثورة الثقافية، ألج تسارعاً جانبياً يشبه منحنى في قصر الشوق حيث نشأت وبدأت، إذن، أنا هنا وهناك، أرى نساء يبعن السمك في أوعية ممتلئة بالماء، السمك يبلعط.
كيف تم اصطياده إذن؟
فيما بعد دخلت مطعماً قريباً من الفندق تديره عائلة، الوقت متأخر، وهم يتأهبون لتناول العشاء، قام أحدهم مبتسماً، دعاني مرحباً، أتى لي بالقائمة وعندما أشرت الى رسم السمكة رجع ومعه وعاءان، سمكة تسبح في ماء عذب تشبه البلطي، الأخرى مثلثة الفم، لا يماثلها نوع مما أعرف، أشير الى الأولى، الرجل لا يعرف الإنكليزية، صحبني الى الأطباق التي يتناولونها، أشرت الى الأرز، الى خضار مسلوق، فيما بعد قال لي صاحب مقيم إن شرط تقديم السمك في المطاعم أن يكون صاحياً، مرة أخرى أتساءل: كيف يتم اصطياده إذن؟
أحوم حول معنى لا يمكنني الإمساك به أو التعبير عنه، لكن.. فلأحاول. أتوقف عند ناصية في شنغهاي، أو في بكين، ربما فينيسا، باريس، مانهاتن، قوم يمرون، أرحل معهم، تفد عليّ ملامحهم، أتساءل: هل قطعت هذه المسافات لأصبح قريباً، أي قرب؟ منهم؟ مني؟ هل يدركون أنني أصبحت قريباً منهم رغم أنني لا أعرفهم، لم أتحدث إليهم، لم أصغ الى أي منهم؟ أي قرب إذن؟ هل أصبحوا أكثر قرباً؟ هل صرت الى بعد أبعد؟
هل الأمر كما قيل: اغترب تتجدد؟ أم كما أوجز من لا أعرفه: سافر قليلاً تعرف كثيراً، ارحل في إقامتك تبلغ كل صوب. أين طالعت ذلك؟ مني أو منهم؟
لا أعرف، لا أذكر، لا أعي إلا ما يحيرني.
هل أنا هنا أم هناك؟
ما الذي جعلني ألبي تلك الدعوة الطويلة مع أن ما تبقى لي من وقت قصير جداً بالنسبة لما مضى. لما أنتبه الى مروره، كأنه مرق الى جواري بدون أن أنتبه.
ماذا يعني هذا المعهد؟ هل المبنى مسكون أم فارغ. في أي حجرة يقيم الإيراني الذي ينطق البيتين بمجرد رؤيتي؟ هل تصور من بنى القصر أن غرباء مثلي سيحلون فيه وأن من يشبهني سيحار كثيراً. سيضيق بالمكان الذي لا ينقصه أي عنصر من الجمال المتفق عليه. المألوف للحواس. الخضرة، الزهور، التنسيق، الهدوء، تدفق الماء السلسال عبر القنوات الضيقة التي تتخلل الحشائش؟ غير أن ما يصلني منه مغاير. كافة هذه العناصر لا تخفي العزلة الكامنة، المنفى، المقبرة الدانية، عندما بدأت أتحدث الى الجهاز الصغير تصورت نتيجة ميراث قديم أن صوتي يسجل في موضع آخر. ربما يؤدي الجهاز إليه، وربما لاقط صوت مدسوس في مكان ما. في البداية لزمت الحذر، لكن مع استمراري فارقت ذلك، لم أعبأ، بل بدأ عندي ما يشبه التحدي، تحدي من؟ لا أعرف. أن أقص أموراً جريئة، أن أفضي بآراء لطالما كتمتها. أن أستخدم ألفاظاً يعسر عليهم ترجمتها لو شرعوا، أو تحوي فحشاً يندر وروده على لساني؟
شانغهاي، بهو الفندق الفاره. أثناء عبوري صالة الفندق التي تبدو كميدان صغير الى المطعم التقليدي، تخرج فتاة من محل الحلاقة. متوسطة الطول، حاوية لملامح متفرقة اطلعت عليها عبر أكثر من نصف قرن. حاجباها من سعاد، فمها يمت الى ثريا، إطار وجهها من محاسن، خصرها همزة وصل بين ردفي النبوية وصدر كريستين المتقن، المكتنز، المشرئب، الحاضن، المدل، أما حضورها فمستجد عليّ. آسيوي، لن أنسى أبداً عيني سعاد، لا بد أن أحد أجدادها وفد في زمن ما من الصين، من موضع ما في آسيا، صارتا مرجعاً وقياساً. أبحث عنهما وأطل عليهما في كل وجه أقابله،
سألتني البنية عما إذا كنت راغباً في التدليك؟
لم أفاجأ بالكلمة، أثناء تجوالي في المدينة القديمة. تقدم مني بعضهن، كن ينطقن اللفظ مفرداً مساج منغمين الصوت بنبرة استفهام، كنت أبتسم مومئاً، أو لا أجيب بالمرة، مخفياً دهشتي بين ما قرأته واعتنقته أول مسيرتي عن صين ماو، وما آل إليه الحال، قرأت وحدثني من أعرف عن فنون التدليلك الآسيوية. وذيوع صيت تايلاند والفيليبين في المهارات المتوارثة التي يسعى إليها أثرياء الغرب والشرق لإرضاء حواس ذاقت المعروف، المألوف كله، فسعى أصحابها الى غير الذائع، لم أكن راغباً. ولا قادراً على مضاجعة من أجهل مهما بلغ جمالها وحسنها، منذ سنوات كان سفري الى نقاط قصية عندي قد بدأ. مواضع لما توجد خارجي إنما داخلي، وكنت أستعيد تعبيراً ردده على مسمعي نفر ممن عرفت في القاهرة القديمة عندما يصفون شخصاً يميل الى عزلة قائلين بيرتاح أكثر لما يقعد مع نفسه… يبدو أنني صرت الى ذلك، غير أن هذا حديث سابق لأوانه، فلأرجئ، كان وجهها مفارقاً الطفولة منذ زمن يسير، غلبني فضول، قلت إنني سأتناول الغذاء بعد ساعة سأصعد الى الغرفة، عندما نطقت الرقم. تراجعت قليلاً: إنه طابق المهمين، لا بد أنك شخصية مرموقة، أجبتها: ليس الى الحد الذي تتصوره، قبل أن أمضي استفسرت عن التكليفة، قالت: نحو مئة دولار.
بعد عودتي الى الطابق الحادي والثلاثين، تمددت فوق الفراش رن الهاتف. قلت لها: تعالى بعد عشر دقائق.
ارتديت قميصاً وبنطلوناً، عندما دخلت، تطلعت دهشة. اتجهت الى النافذة العريضة التي تطل على المدينة المتراكمة على بعضها، المتوالية بدون فراغات بادية، الشمس متدلية ناحية الغرب، تشرق الآن على دياري، تنزل هنا وتطلع هناك، أهو نفس القرص؟ درت معه مرات، أحياناً أسبقه، أوقات يشرق عليّ مرات كما جرى فوق المحيط الأطلنطي عند اتجاهي غرباً، ولهذا تفصيل ربما أتوقف عنده مطولاً.
يبدو أنها ترى المدينة من هنا أول مرة؟ أكدت ذلك بإيماءة، عندما اقتربت ظنت أنني سألمسها، تراجعت قليلاً، سألت: هل تريد تدليكاً فقط؟ أومأت، أشارت الى الفراش، أتجه إليه، أتمدد. طلبت مني أن أسترخي، أخرجت من الحقيبة الصغيرة التي جاءت بها زجاجة بها سائل دهني أصفر.
بعد إغلاقي الباب، اتجهت الى النافذة، اكتمل اختفاء قرص الشمس غير أن الضوء المائل الى الصفرة ما يزال، أصفر خلواً من أي شائبة قانية حمراء، هل تقديس اللون الأصفر وقصره على الأباطرة مصدره تفرد الشمس عند بزوغها وغيابها بهذا اللون؟ ربما، بقدر ما غمرتني الراحة لتوحدي مرة أخرى، بقدر ما تأسيت للصبية الحائرة. رغم تساؤلي هذا إلا أنني أقدمت على ما يشبه ذلك مع صبية أمهرية، نفرتيتية التكوين والنحت، ربما أقصى ما جرى لي معها فيما يلي ذلك. ذلك أنني معني هنا بتوضيح أمور ستبدو محيرة، غامضة لمن يجهل ظروف نمونا فيها، وقيود موروثة، بعضها رواسخ داخلنا، لعل ميلي الى الجنس الآخر، الى الأنثى، بدأ منذ وعي على مفردات الكون والوجود، فصلت هذا كله في رشحات الحمراء. تلك التي كنت أتلهف الى رؤيتها. بمجرد ظهورها أدبدب الأرض بكعبي قدمي عاوز أجوّز الحمرا..، كنت في الخامسة ولا أعرف ما يعنيه الزواج، أمي وجدتي وإمرأة خالي يبتسمن ويتخذن من عويلي هذا سبباً للسخرية، غير أن الأمر كان بالنسبة لي في غاية الجد.
حسن أقدم صاحب لي الآن ممن عرفتهم أول الرحلة ومايزال، رغم تباعد الفرص وندرة التلاقي إلا أننا نفهم ظروف بعضنا ونتواصل على البعد استناداً الى ميراث قديم، كان يتيم الأم، كفله زوج خالته التي لم تنجب، وكان والده الذي نزل القاهرة في العشرينات من الحجاز يعيش لاجئاً، غير أنه لم يقطع صلته بأهله هناك رغم أنه تزوج مصرية وأنجب منها خمسة، ابنة وأربعة ذكور. لم تقم لحسن بهم أية صلة، في بعض الفترات يهم ويبادر، يسعى ويزور لكنه يقابل بلا مبالاة بل وعدوانية من زوجة الأب فيتراجع شاكياً، ونقعد في غرفته بحارة سيدي معاذ قرب شارع الدراسة الرئيسي المؤدي الى العباسية، نتحدث عن المستقبل والمشاريع المتخيلة. وكان أقصى ما يخطط له السفر الى المملكة السعودية واكتساب الجنسية التي لم يهتم أبوه بالحفاظ عليها، والدخول في مشروع صغير بعيداً عن الوظائف الحكومية، والده اتخذ من مقهى مطل على شارع الأزهر مكاناً يمارس منه عمله ويلتقي فيه بصحبه، أولئك الذين يعرفهم من مصر، أو الوافدين من المملكة، كان يدفع مبلغاً شهرياً لزوجة خالة حسن، كذلك إيجار الشقة وأخرى مجاورة لها يستخدمها لراحته عند الظهر أو استضافة بعض معارفه من المدينة، يجيئون مرتدين الجلابيب البيضاء، لمعظمهم كروش بارزة، طعامهم المفضل، الأرز ولحم الضأن الذي يُرمى فوقه، عندما أتيح لنا حضور غداء، دهشنا لتناولهم الأرز باليد، يقبض الواحد منهم حفنة، يضمها ويلقي بها في فمه، لا أدري متى اكتشف حسن أن والده يستقبل بعض النساء عند الظهيرة. أطلعني على ذلك، وكان مجيء الحاج مبكراً بمفرده علامة، يخلع المعطف الذي يرتديه صيفاً وشتاء، كذلك الطربوش، أتطلع الى صلعته دهشاً فلم أره إلا بالطربوش، جلبابه أبيض نظيف، ياقته تحيط بالعنق، أنيقة، فيما بعد عرفت أنها الطراز السعودي، خاصة الثنية عند أعلى الكمين. يدق الباب، يدخل علينا مبتسماً، لين الطلة، عكس ملامحه الحزينة، الجامدة دائماً، يبدو أنه يريد التأكد من بقائنا حول المنضدة نستذكر دروسنا. غير أنه بمجرد إغلاق الباب علينا، يقفز حسن الى النافذة، من بين فرجات الشيش يمكننا رؤية الساعين في الحارة الضيقة، كذلك من يتجه الى دخول البيت الذي لا يحتوي إلا على الشقتين.
ولد حسن في المدينة وشب وهاجر لأسباب لا نعرفها بالضبط، لكن فيما بعد أدركنا صلتها بالسياسة، ربما، لست متأكداً، لكن الحاج كان حسن السمعة، موثوقاً به في السوق. ينشط قبل موسم الحج وكيلاً لطوف شهير هناك، ويعمل بقية العام في إدارة أموال ثري سعودي شيد بعض العقارات في الجمالية. والباطنية والدراسة.
وكان له أيضاً في السمسرة، بيع وشراء وتأجير محال خالية، كان مقعده في مدخل المقهى. لا يمكن لأي زبون دائم أو عابر أن يجلس مكانه حتى لو بقي شاغراً عدة أيام. انه من علامات المقهى، ثم انه يستقبل يومياً ما لا يقل عن عشرين ضيفاً، أي يحقق دخلاً ليس بالهين طبقاً لمقاييس الوقت.
حسن هو الاقرب عبر نصف قرن تقريباً حتى وإن باعدت الظروف بيننا خلال السنوات الأخيرة لتباطؤ الخطو وصعوبة الانتقال وكثرة المشاغل. أيضاً.. فلأكن صريحاً، انحسار المودة، يقترن عندي بالانثى وتعرفي عليها، في مرحلة الإعدادية، أثناء مراجعة الدروس ليلاً، اكتشفنا محاسن وفادية معاً عندما صعدنا ليلاً الى سطح البيت ذي الطابق الواحد بعد نوم خالته وزوجها الذي لا يهدأ طوال اليوم. يصلح مقعداً يفك النافذة ليعيد تركيبتها. يكنس الأرض، يفتح ساعة الجيب ليتأمل عملها وحركة التروس، يرتب شيئاً، يغير وضعاً، يفتعل مشاجرة مع صبية يلعبون، وأحياناً يفتح الباب فجأة ليأمرنا بالصمت والمذاكرة مع أننا منهمكان، يردد جملة أثيرة عنده اثناء سيره. لا يوجهها الى شخص بعينه، يخاطب نقطة ما في الفراغ.
الراجل ما دام انشفا على وشه ما يبقاش منه فايدة….

…………

*من كتاب “دفاتر التدوين”

مقالات من نفس القسم