د. عزة مازن
تركت الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) بصمة عميقة في عالم الأدب، بأن رسخت لتيار الوعي وارتادت آفاق الرواية بعيدًا عن أساليب الحكي التقليدية في العصر الفيكتوري، فركزت على الحياة الداخلية للشخصيات، حيث يتحقق التأثير النفسي عبر الصور والرموز والاستعارات. ومن أهم أعمالها “مسز دالوي (1925)، و”إلى الفنار (1927)، و”الأمواج” (1931)، كما كتبت أعمالًا رائدة حول نظرية الأدب وتاريخه، وكتابة المرأة، وكانت لها أراؤها السياسية التي عبرت عنها في كتاباتها الأدبية وغير الأدبية. ولكن مع كل هذا القدر من التميز الإبداعي والنقدي عانت فرجينيا وولف، على مدى حياتها، من نوبات انهيار عصبي وجنون، مما أدى إلى وفاتها منتحرة بأن ألقت بنفسها في النهر، ولم تتجاوز التاسعة والخمسين من عمرها.
بعد حياة حافلة بالإبداع الأدبي والنقدي، اختفت الكاتبة الكبيرة في الثامن والعشرين من مارس عام 1941، بعد أن تركت رسالة إلى أختها فانيسا بيل، وأخرى لزوجها ليونارد وولف. تشير الرسالتين إلى أنها في طريقها لقتل نفسها. ولكنها لم تومئ إلى الكيفية أو المكان. ربما لم يخطر لها أن النهر الذي خططت أن تغرق نفسها فيه سيجرف جثتها بعيدًا ويحول بين أصدقائها وأفراد أسرتها أن يكتشفوا ما حدث لها لثلاثة أسابيع كاملة. ولكن بعد اكتشاف قبعتها وعصاتها بالقرب من نهر أوس، سلمت أسرتها بأنها أغرقت نفسها، وإن لم يكن لديهم الدليل القاطع على ذلك.
بعد ثلاثة أسابيع من غيابها غير المبرر جرف النهر جثة فرجينيا وولف بالقرب من جسر قريب، واكتشفها مجموعة من الأطفال يلعبون بجوار الجسر. وفي التاسع عشر من إبريل أعلنت وكالة الأسوشيتيد برس العثور على جثة فرجينيا وولف، وأكدت أنها أغرقت نفسها في النهر. ألمحت المقالة إلى أن الحرب العالمية الثانية الدائرة آنذاك كان لها دور في انتحار الكاتبة الكبيرة، التي تعرض منزلها للقذف بالقنابل مرتين أثناء الحرب. ولكن هل كانت الحرب وحدها سببا في انتحار كاتبة بحجم فرجينيا وولف، تركت بصمتها العميقة على الأدب العالمي؟ في مقال لها حول الواقعة بجريدة النيورك تايمز (فبراير 2012) ضمنت الكاتبة ربيكا بياتريس بروكس نص خطاب فرجينيا وولف إلى زوجها ليونارد:
“عزيزي.. يتأكد لدىَ أنه سينتابني الجنون مرة أخرى. أشعر أنه لا يمكننا خوض أوقات عصيبة كهذه من جديد. أشعر أنني لن أتعافى هذه المرة. بدأت الأصوات تداهمني ولا يمكنني التركيز. لذلك أفعل ما أراه الأفضل. لقد منحتني كل سعادة ممكنة…. لم أكن أظن أن هناك من هم أسعد منا، حتى داهمني هذا المرض الفظيع. لا أستطيع الجهاد أطول من ذلك. أعرف أنني أفسدت حياتك، ولكني أعلم أن باستطاعتك أن تواصل الحياة بدوني…. أردت فقط أن أقول كم أدين لك بكل سعادة في حياتي. لقد كنت بالغ الصبر معي وكريمًا بلا حدود…. لو كان هناك من أنقذني فهو أنت. ضاع مني كل شىء إلا يقيني بكرمك. لا أستطيع المضي في إفساد حياتك بعد الآن. لا أظن أن هناك من كان أسعد منا”.
وفي خطاب أرسله زوج أختها بيل إلى أحد أصدقائه بعد اختفائها بعدة أيام (كشف عنه أرشيف مجموعة بلومزبيري عام 2010) إشارة إلى إصابتها بنوبات جنون. كتب بيل: “كان واضحًا قبل عدة أسابيع من اختفائها أن وولف كانت في طريقها لواحدة من نوبات الانهيار العصبي الطويلة المؤلمة، والتي طالما انتابتها كثيرًا. مر عليها عامان تتوقع الجنون، تبعهما عامان استيقظت فيهما على عالم شكلته الحرب، مما يجعلني أوقن أنها لم تكن بكامل عقلها”.
لم تكن سنوات الحرب وحدها سببًا لما عانته فرجينيا وولف من نوبات جنون، بل يعود الأمر إلى مراحل سابقة في حياتها. ولدت فرجينيا وولف في عائلة تنتمي إلى العصر الفيكتوري بكل قوانينه وتقاليده، كان أبوها، ليسلي ستيفن، قامة أدبية كبيرة وتمتعت عائلتها بصلات اجتماعية وأدبية مرموقة. وكانت أمها، جوليا جاكسون، على قدر كبير من الجمال وقيم التفاني من أجل أسرتها. تزوجت جوليا وستيفن، ولها ثلاثة أطفال من زوج سابق توفى فجأة، ولستيفن طفل واحد من زوجته المتوفاة. أنجب ستيفن وجوليا أربعة أبناء: فانيسا(1879)، توبي (1880)، فرجينيا (1882)، وأدريان (1883). في سن التاسعة ظهرت موهبة فرجينيا في كتابة أخبار العائلة بأسلوب ساخر. تجلى فن فرجينيا في الكتابة وفانيسا في الرسم. حرصت العائلة على التنقل بين منزلها في بلدة كنسينجتون جاردنز ومنزلها الصيفي على ساحل كورنوال. شكل الانتقال السنوي عالم طفولة فرجينيا بصيغة الأضداد: الريف والمدينة، الصيف والشتاء، الكبت والحرية، التشظي والاكتمال. ولكن انتهى هذا العالم لديها عندما رحلت والدتها عام 1895 في التاسعة والأربعين من عمرها. فتوقفت فرجينيا، وكانت آنذاك في الثالثة عشرة، عن كتابة حكايات مسلية عن أخبار العائلة، ومر عام حتى استطاعت أن تكتب خطابًا مبتهجًا لأخيها توبي. ولم تكد تتعافى من نوبة الإكتئاب حتى توفت أختها غير الشقيقة ستيلا عن عمر 28 عامًا، وذكرت فرجينيا هذا الحدث في يومياتها بأنه “من المستحيل الكتابة عنه”. وبعدها أصيبت بانهيار عصبي عام 1904، بعد وفاة والدها. وبينما كانت فرجينيا تتماثل للشفاء أشرفت فانيسا على الانتقال بأخواتها الأشقاء إلى مقاطعة بلومزبيري في لندن. وهناك عاش الأشقاء مستقلين عن اخواتهم غير الأشقاء، يتابعون دراساتهم وكتاباتهم ورسوماتهم وتسليتهم في حرية. وسرعان ما استضافت أسرة ستيفن في اجتماعات أسبوعية مجموعة من الشباب المتمرد، منهم كليف بيل، الذي سيصبح زوج فانيسا فيما بعد، وحقق شهرة واسعة في مجال النقد الفني. وفي رحلة ترفيهية قامت بها الأسرة إلى اليونان توفى توبي متأثرًا بحمى التيفويد، وكان عمره 26 عامًا. انتاب الحزن فرجينيا، ولكنها لم تنزلق إلى حالة الإكتئاب. فقد تغلبت بالكتابة على فقد توبي وفقد فانيسا، التي خُطبت لبيل بعد وفاة توبي. بعد زواج فانيسا ووفاة توبي تحولت أحاديث الاجتماعات الطليعية، التي عُرفت فيما بعد بمجموعة بلومزبيري، إلى أحاديث خفيفة وسريعة، مما ألهم فرجينيا أن تمرن سرعة بديهتها أمام الجميع، وإن كانت تنعزل بكتابة ذكرياتها الحزينة حول طفولتها وأمها الراحلة، والتي نُشرت عام 1908. وبفضل مشاهدتها للفن الإيطالي ذلك الصيف كرست نفسها كي تبدع في اللغة “شيئًا مكتملًا قوامه شذرات مرتجفة” للقبض على “شطحات العقل”.
وتتوالى إبداعات فرجينيا وولف، محاولة القبض على “شطحات العقل” لتلقي بظلالها على أدب ما بعد الحداثة في نهاية القرن الحادي والعشرين. فقد كان الإبداع حصنًا تأوى إليه الكاتبة من نوبات الجنون والإكتئاب التي صاحبتها مدى الحياة. وكان لهلاوس العقل أثرًا في كتاباتها جعلها تخترق حجب تقاليد الرواية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر وتتحدى قوانينه الصارمة التي قهرت المرأة وكبلتها، ومنعتها من أن يكون لها دورها الفاعل في المجتمع. كان لفرجينيا وولف أثر كبير في المشهد الأدبي في القرن العشرين، وامتد أثرها إلى مشارف القرن الحادي والعشرين، واعتبرها كثير من النقاد من رواد تيار مابعد الحداثة.
تلقى اثنان من أخوات فرجينيا وولف الذكور تعليمهم في جامعة كامبريدج، أما الفتيات فتعلمن في المنزل واستفدن أيما استفادة من مكتبة الأسرة الزاخرة بالأعمال الكلاسيكية. بينما كانت فرجينيا تعاني من نوبات إكتئاب بعد وفاة أختها الكبرى غير الشقيقة، ثم وفاة أمها، درست الألمانية والإغريقية واللاتينية بقسم النساء في الكلية الملكية في لندن. مكنتها سنوات الدراسة الأربعة في الجامعة من التعرف على مجموعة من زعيمات الحركة النسوية تزعمن الإصلاحات التعليمية. وفي عام 1904 توفى والدها مما أدى إلى عودتها إلى نوبات الإكتئاب، فتم احتجازها في إحدى المصحات النفسية لفترة وجيزة. واستمر تأرجح فرجينيا وولف بين التعبير الأدبي والشقاء النفسي مدى الحياة. وفي عام 1905 بدأت المساهمة المهنية في الملحق الأدبي بجريدة التايمز. وبعد ذلك بعام توفى أخوها توبي وكان في السادسة والعشرين من عمره.
إبداعات باكرة
في عام 1908 قررت فرجينيا وولف (فرجينيا ستيفن آنذاك) إصلاح الرواية بأن تبدع شكلا يتفوق فيه الكل على الجزء، تتخلله مظاهر الحياة ومناحيها التي غابت عن الرواية التقليدية في العصر الفيكتوري (القرن التاسع عشر). وبالفعل مارست هذا التجريب الروائي في رواية بعنوان “ميليمبروسيا” بينما كانت تكتب مراجعات أدبية غير موقعة تنُشر بالملحق الأدبي بجريدة التايمز وغيرها. وفي عام 1912، بعد زواجها من ليونارد وولف، واصلت العمل على روايتها الأولى. بيد أنه بين عامي 1910 و1915 أخذت صحتها العقلية تتدهور وتعاني عدم الثبات. ومع ذلك أعادت صياغة رواية “ميليمبروسيا” بعنوان “رحلة إلى الخارج”. في عام 1913 أقدمت فرجينيا وولف على محاولة الانتحار، بعد أن انتابتها مخاوف محبطة ومقلقة من فشلها في الكتابة وفي حياتها الأسرية، فشعرت أن أختها فانيسا تحتقرها وزوجها ليونارد لا يحبها. تأجل نشر روايتها “رحلة إلى الخارج” حتى عام 1915. استوحت الكاتبة ملامح كثير من شخوص الرواية من نماذج في الحياة الواقعية لأفراد أسرتها وأصدقائها. تدور الرواية حول راشيل فينراس، فتاة مرفهة لم تتعرض لمصاعب الحياة، تذهب في رحلة إلى جنوب أفريقيا، تتعرف خلالها على معنى الحرية. وبعد رحلة قصيرة إلى منطقة الأمازون تصاب راشيل بعدوى مرض قاتل يوقعها في نوبات من الهذيان قبل أن تموت. بينما يصف السرد الناس والمباني وعناصر الطبيعة وصفا عامًا غير مميز، تطوف راشيل في أحلامها ونوبات هذيانها في عوالم سريالية. وبرحلة راشيل إلى المجهول وغير المعلوم تبدأ وولف رحلتها وراء تقاليد الواقعية. مارست وولف في الرواية التجريب في كثير من التقنيات الأدبية، بما في ذلك أسلوب السرد غير المألوف في الرواية الكلاسيكية، مثل رؤى الأحلام والتداعيات الذهنية غير المترابطة. وفي شهر إبريل من العام نفسه انتابتها حالة من القلق والإكتئاب، فعانت نوبات من الهذيان، ولكنها استطاعت أن تتغلب على الخيالات البغيضة التي تهدد سلامتها، واجتهدت في إبعاد أشباح الجنون والإكتئاب عنها فترة طويلة. في كتابها “إعادة قراءة في روايات (1922) تجادل وولف أن الرواية ليست شكلًا بقدر ما هي “مشاعر نشعر بها”. وفي روايتها “حجرة جاكوب” (1922) قدمت هذه المشاعر بأن حولت حزنها الخاص لفقد أخيها توبي ستيفن إلى “شكل روحاني”. مع أنها تتبعت جاكوب من طفولته وحتى موته المبكر في الحرب، إلا أنها ابتعدت عن الحبكة والصراع، بل وحتى عن رسم خطوط الشخصية بمعناها المتعارف آنذاك. فقد استطاعت أن تنقل عمق فراغ الفقد باستخدام التجريد من خلال وصف فراغ حجرة جاكوب ومتعلقاته الشخصية.
مرحلة الأعمال الكبرى
في عام 1924 ألقت وولف محاضرة في جامعة كمريدج بعنوان “الشخصية في الرواية” نُشرت في نفس العام في كتيب بعنوان “مستر بنيت ومسز براون”. وفيها احتفت بالإنفصال عن قيم المجتمع الأبوي وهاجمت النزعة التقليدية في الرواية لإغفالها جوهر الشخصية، وجاء ذلك تأثرًا بمعرض تشكيلي أقامه روجر فراي، أحد أصدقاء العائلة، عن مونيه وما بعد التأثيرية، قدم فيه الفن الأوروبي المتمرد للطبقة البرجوازية في لندن عام 1910. في روايتها “مسز دالواي” (1925) ادعى بعض الأطباء فهمهم للشخصية، ولكنهم عجزوا عن الإمساك بجوهرها. صُنفت الرواية ضمن تيار ما بعد التأثيرية الذي تجلى في الفن التشكيلي، ولكنها أيضًا قدمت نموذجا روائيا يتتبع تحركات كلاريسا وسبتيموس في شوارع لندن في يوم واحد من أيام يونيو 1923. في نهاية اليوم أقامت كلاريسا حفلًا كبيرًا وانتحر سيبتيموس. تشابكت حياتهما عندما حضر حفل كلاريسا الطبيب الذي كان يعالج سيبتيموس (أو لعله من أخطأ في علاجه) معلنًا نبأ وفاته. ربطت الموتيفات بين الشخصيات الرئيسية في الرواية، كما ربطها حدس كلاريسا بسبب إنهاء سيبتيموس لحياته. تمزج الرواية المونولوج الداخلي وقضايا النسوية والمرض العقلي والشذوذ الجنسي في انجلترا زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى. في روايتها “إلى الفنار” تمنت وولف أن تبني على ما حققته في “مسز دالواي” بمزج الشكل الروائي والرثائي معا. نُشرت الرواية في 5 مايو 1927، الذكرى الثانية والثلاثين لوفاة أختها جوليا ستيفن، فأثارت ذكريات الطفولة في أجازاتهم الصيفية في منزل تالاند. ومن المنظور الروائي كسرت الرواية التسلسل السردي إلى بناء ثلاثي الأجزاء. يتخلل السرد أسئلة حول الإبداع وطبيعة الفن ووظيفته. حققت الرواية نجاحًا على المستوى النقدي لا يقل عما حققته روايتها “مسز دالوي”. اعتبر النقاد الرواية الأحدث ثورة في أسلوب السرد المعتمد على تيار الوعي. وفي مقالين لها (1927) بعنوان “فن الرواية” و”السيرة الجديدة” كتبت وولف أن على كُتاب الرواية أن يهتموا باللغة والتشكيل الفني أكثر من اهتمامهم بالمفاهيم الواقعية الساذجة، وأنه مهما كان كاتب السيرة مقيدًا بالوقائع عليه أن يمزج الحقيقة بالخيال.
في عام 1929 جاء كتابها “حجرة تخص المرء وحده”، وهو مقالة نسوية طويلة جمعتها من محاضرات ألقتها بكليات البنات، وفيها تناقش دور المرأة في الأدب، وطرحت فكرة “ضرورة امتلاك المرأة للمال ومكان خاص بها إذا أرادت كتابة الأدب”. و نددت بغياب النساء عن مشاهد التاريخ، ليس بسبب افتقارهن للموهبة والعقل، بل بسبب الفقر. في محاضرة لها عام 1931 بعنوان “مهن للنساء” قدمت وولف دراسة لتاريخ تعليم النساء وتوظيفهن، وجادلت بأن عدم مساواة النساء بالرجال في الفرص التعليمية والمهنية تؤثر بالسلب على المجتمع بأثره، وحثت النساء على تحطيم مقولة “ملاك في المنزل”، إشارة إلى عنوان قصيدة شاعت في العصر الفيكتوري وأصبحت الأنشودة الأساسية لمدح النساء بأنهن يضحين بأنفسهن من أجل الرجال.
في عام 1930 أثنت وولف على معرض تشكيلي لأختها فانيسا بيل، ووصفته بأنه يصعب التعبير عنه بالكلمات، وعزمت على كتابة رواية تجريدية تلمح ولا تفصح. فجاءت روايتها “الأمواج” (1931). تتخلل الرواية فواصل تصف البحر والسماء من الفجر إلى الغسق. وبين الفواصل الوصفية، وعلى مدى ستة فصول تظهر أصوات لستة شخوص تتحرك من الطفولة إلى الشيخوخة. عندما يلتقي الأصدقاء الستة في حفل عشاء لتوديع صديق لهم مغادر إلى الهند تتحول الزهرة الوحيدة التي تتوسط المنضدة إلى “زهرة ذات جوانب سبعة… زهرة كاملة تراها كل عين من منظورها الخاص متأثرة بما أنجزته”. تقدم الرواية شكلًا سداسي الجوانب يوضح كيف يعيش كل شخص الأحداث بشكل متفرد – بما في ذلك موت صديقهم. برغم تفردهم، تجتمع الشخوص في كل واحد، تماما مثلما تمتزج السماء والبحر في الفواصل الوصفية ولا يمكن التمييز بينهما. ذلك التوحد مع كل المخلوقات كان التجربة الأساسية التي شعرت بها وولف حين كانت طفلة تلهو على ساحل كورنوال. في تلك الرواية، الأكثر ميلًا نحو التجريب بين أعمالها، انطلقت طاقتها الشعرية بين ثنايا العمل الروائي. برواياتيها “إلى الفنار” و”الأمواج” أصبحت وولف، مع جيمس جويس ووليم فوكنر، واحدة من أكبر التجريبين الحداثيين في مجال اللغة الإنجليزية وفي الكتابة التي تعتمد على تيار الوعي.
تؤكد تجربة وولف، كما جاء في روايتها “الأمواج” “أننا لسنا فرادى”. وحيث أن البشر ليسوا فرادى وليس لكل منهم حدود فاصلة جاء التصوير في رواياتها مائع ومتدفق، تمامًا مثل العالم الذي تقدمه. ويؤكد كثير من النقاد أنه بينما يفصل جويس وفوكنر المونولوج الداخلي لكل شخصية عن الأخرى، يتحرك السرد عند وولف بين الداخل والخارج وبين الشخصيات دون حدود فاصلة. ربما لا تفصح التراكيب السردية التي اعتمدتها وولف في أعمالها الأدبية عن انحيازات واضحة المعالم في شئوون الحياة الواقعية، ولكنها تفصح عن رؤى جمالية تجتمع خلالها “شذرات مرتجفة”، كما كتبت عام 1908. بينما يمكن القول أن أسلوب وولف المتشظي حديث بشكل قاطع، فإن عدم التحدد لديها يستبق ويتنبأ بوعي ما بعد حداثي بتلاشي الحدود والتصنيفات بين الأنماط الأدبية المختلفة.
تأثير الحرب على كتابات فرجينيا وولف
أثرت الحرب على حياة وولف فكانت لها كتاباتها المناهضة للحروب والداعية للسلام. بعد أن قُتل ابن أختها في الحرب الأهلية الأسبانية عام 1937 كتبت وولف منددة بالحرب في مقالة طويلة نشرتها بعنوان “ثلاثة جنيهات” (1938)، حاولت أن تطرح فيها رؤيتها عن كيفية منع الحروب، كما واصلت قضيتها النسوية التي عبرت عنها في كتابها “حجرة تخص المرء وحده”، فربطت الرموز الذكورية للسلطة بالعسكرية ومقت النساء، وهو جدال دعمته بحواشي من قصاصات صحفية حول القهر والفاشية والحرب. وبينما كانت لندن تُقذف بالقنابل بين عامي 1940 و1941 كانت وولف تعمل على كتابة مذكراتها وعلى روايتها “بين الفصول”. في الرواية كانت الحرب تهدد الفن والإنسانية ذاتها. ورغم انحياز الرواية للفن وتأكيدها على قيمته، انتاب وولف القلق بأن الرواية “بالغة الخفة”، بل شعرت بأنه لا جدوى من الكتابة وأنها تتحول إلى عمل خارج السياق عندما تتعرض انجلترا للغزو وتصبح الحضارة على وشك الإنهيار. وأمام ذلك الرعب غرقت وولف في مشاعر الإحباط ووجدت نفسها عاجزة عن الكتابة، وعاودتها نوبات الجنون، وخوفًا من انهيار مقاومتها سارت نحو نهر أوس، وضعت حجارة في جيوبها، وأغرقت نفسها. نُشرت روايتها “بين الفصول” بعد وفاتها بعام.
على مدى تاريخها المهني حاضرت وولف في الكليات والجامعات وكتبت المقالات والروايات ونشرت عددًا كبيرًا من القصص القصيرة. وفي منتصف الأربعينيات من عمرها كانت قد رسخت نفسها مثقفة ومجددة وكاتبة مؤثرة ورائدة نسائية. حازت وولف مكانة واحترامًا كبيرًا بين قرنائها من الكُتاب والمبدعين وعامة القراء، بسبب قدرتها على الموازنة بين المشاهد الشبيهة بالحلم وعمق الحبكة وكثافتها. ورغم ذلك النجاح الذي حققته ظلت وولف تعاني بين الحين والآخر من نوبات مضنية من الإكتئاب وتأرجح مزاجي حاد. توارت شهرة فرجينيا وولف بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها بُعثت من جديد على يد جيل من القراء أثناء الحركة النسائية في السبعينيات. ومع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين احتلت مكانتها كواحدة من أكثر الكتاب تأثيرًا في كتابات ما بعد الحداثة.