أسامة جاد
سيقولون في المطار:
ما يبقى من الوزن الزائد
لن يكون كافيا لاصطحاب قلبك
دون نقصان،
اترك معابدك هنا!
فقد هربت من الأوثان على أية حال.
في ديوانها الثالث؛ “ما يبقى من الوزن الزائد”؛ تستكشف الشاعرة المصرية هبة عصام مساحة جديدة، تتخلص فيها من القيم المسبقة؛ في مستويات البنية، والدلالة، أو حتى النظم المجتمعي القاهر، شديد الظالمية وشديد التأثير.
لا شك أن ديوانها السابق (الثاني في مسيرتها) حمل إرهاصات متعددة تلمح إلى ما سيكون عليه الأمر في ديوانها الجديد، غير أن تأخرها في نشر هذا الأخير كان مفيدا للغاية في “بلورة” تلك الرؤية، أو “سنفرتها” بتعبير آخر.
فهنا، نجد شاعرة تعرف، تماما، ما تقدمه، وتعرف أسئلتها الذاتية التي تبحث مع الشعر عن إجابات لها، أو عن استجابات تجاهها.
وعلى العكس مما ذاع في الآونة الأخيرة عن “زمن الرواية” أو “زمن القص”، نجد أن هبة عصام ما زالت تملك زمنها الشعري الخاص، وتعبيريتها من خلاله عن أسئلة الواقع والأحلام. فالشعر أداتها التعبيرية، وهو سلاحها في مواجهة العالم، وهو مدونتها/ديوانها الذي يختزن العالم في سطور شديدة التكثيف، وشديدة البساطة، أيضا، حد الهشاشة التي تنبغي للنص الجديد، كما طرحته سوزان برنار، وكما أعادت طرحه جوليا كريستيفا من بعدها.
تقسم هبة عصام ديوانها الجديد إلى قسمين رئيسين؛ الأول عنوانه “كـ نوم يفتح عينيه” ويضم عشرين نصًا قصيرًا هي: ميكانيزم، وسحابة حول قلبي، ونوستالجيا، وسحر قديم، ومزاج النخلة، ورسائل، وجنازة هندية، وأقراص منومة، وأضغاث أحلام، ورهان بين سماءين، وأبريل، وأنساك، وقوية كالموت، وقل اكتفيت، وعصام، وأكسجين، وأثير، وفيسبوك، وعلامات طريق، وحدس.
أما القسم الثاني فعنوانه “بورتريهات”، ويضم عشرين نصًا، أيضًا، هي: لا شيء معه، وفيروز، وسقوط، وغير مألوف، ومتاهة، وأبين زين، وبغير سماء، وتنزف فوق قصائدها، ولدواع صحية، وأحلام ثقيلة، وشاعر، وأرق أعرج، ويحمل في فمه النهر، وفي أكمامها الحدائق، ولغة الزائرين، وتتبرع بالأحلام، وصندوق الدنيا، وتأكلها التفاصيل، وبانتومايم، ولوتس.
ومع خلاف يسير حول التقسيم، الذي استوجب، في تصوري، أن يكون نص “عصام” ضمن البورتريهات، على سبيل المثال، فإن ما يجمع نصوص الديوان، في معظمها، هو مقاربة الواقع اليومي خلال الفترة من 2012 وحتى 2018، لا بمعنى توثيقي لهذا الواقع، ولكن عبر مشاعر جوانية، وموقفيات نفسية كابدتها الذات الشاعرة في مواجهة هذا الواقع، وفي التفاعل معه، الأمر الذي يتجلى مثلا في نصوص “ميكانيزم” و”رسائل” و”أقراص منومة” و “علامات طريق”.
فالذات الشاعرة، في مواجهة واقع مفرط في عبثيته، لا تجد سوى ما يمكن تسميته بـ”غرفة الفزع” في نصها الأول “ميكانيزم”، مستدعية كل وسائل “الحماية” الممكنة تجاه واقع يثير الفزع والخوف من مجهول “إيديولوجي” شديد الوطأة، فهي “ترص الكلمات الحادة خلف الأبواب” و”تثبت ميكروفون في فروة الجرو الصغير”، وتحتمي بـ”وزن فائض من سوء الظن”، “تقسو على العابرين”، و”تبدو كوحش بري”، و”تلون”، بعد هذا كله، “زجاج المنزل كي تخفي هشاشة الجدران”.
وجلي أن تلك الدفاعات، جميعها، تعبير صريح عن حالة الارتياب التي تكابدها الذات الشاعرة تجاه العالم وتجاه الأشياء، بل إن عنوان النص قائم على إضمار يمكن الكشف عنه بسهولة في في فكرة “الميكانيزم الدفاعي”. ولعل هذا ما عبر عنه النص التالي مباشرة في الديوان، “سحابة حول قلبي”، بشكل صريح:
“أحتاج غرفة عازلة لأن الألم له صوت،
والخوف له صوت”
إن دلالة “الوزن الزائد” التي يطرحها الديوان تناقض دلالتها لسلبية التي تحيل إلى المطارات، كما في نص “علامات الطريق”، أو تحيل إلى فائض الحمولة في المراكب، كما في قصة يونس بن متى، أو حتى دلالتها الدعائية التي تتعلق بالحمية الغذائية ومتطلبات الرشاقة. فالدلالة التي يحملها الوزن الزائد في الديوان ليست حسية، كما في الإحالات السابقة، وإنما هي دلالات معنوية أكسبتها الإزاحة المجازية هذا المعنى الحسي. فالحنين وزن زائد، كما في نص “نوستالجيا”. وهو صوفي تائه/بائس، يأكل الذات الشاعرة لكي يسترد عافيته. والقلب مطلي بقشرة رمادية، والحنين لعنة أبدية، كما في “رهان بين سماءين”، بل إن النسيان يستدعي الفئران التي تقضم أظافر القدمين، والقطط الصيادة، والغربان الناعقة، كي تغيم المسافة.
فالحنين مؤلم يأكل الذات الشاعرة، وهو وزن زائد يوقف قلبها في المطارات، قلبها الذي طلته بقشرة رمادية، والنسيان مؤلم هو الآخر، يقضم الأظافر ويصب الأكاذيب قي القهوة، وينعق في الأذنين.
وكأنها معادلة صفرية تؤدي من طرفيها إلى الألم، والألم دائما. بل إنها وهي تجرب القوة لا تكون قوتها سوى حالة من السلب التام، من البياض الذي لا يضحك، كالموت تماما، حيث زاوية الحائط كفان يحتضنان الوجه.
في هذه الكابوسية المضمرة التي تلتفت عن الواقع إلى أثر الواقع، والتي تومئ بدلا من التصريح، والتي تتكئ على بنية مجازية للعالم والأشياء، يفاجئنا نصا “علامات طريق” وحدس” بصراحة الإحالة، حتى أن الشاعرة حرصت على تحديد زمنية كتابة النصين، فالأول في عام 2012، والأخير “عقب انتخابات يونيو 2012”.
في النص الأول، “علامات طريق”، يدفع صوت “بائع الخرافات” وميكروفون الدعاية الانتخابية إلى تغيير بيانات البطاقة الشخصية وجواز السفر، بحثا عن “كرامة” في بلد غريب.
وفي النص الأخير، “حدس”، تصرخ الذات الشاعرة: هذه أرضي أنا، في تناص مع قصيدة كمال عبد الحليم الأشهر خلال العدوان الثلاثي على مصر (غنتها فايدة كامل)، وتغسل الكوابيس بماء بارد، ثم تعيدها تحت الوسادة في هدوء، تغسل مانشيتات الجريدة، وتغسل تفاصيلها، وتستدعي زرقاء يمامة، مضمرة أيضًا:
“قلتها ألف مرة،
فأرسلوني إلى طبيب نفسي”
وهكذا يأتي القسم الأول من الديوان محملا بالرؤى الكابوسية وبالفزع وبالميكانيزمات الدفاعية التي تتطلب دائما أن يفتح النوم عينيه، كي يتوقف دفق الكوابيس والأحلام المذعورة.
أما القسم الثاني من الديوان، والذي حمل عنوان “بورتريهات”، فيمثل كل نص فيه بورتريه لشخصية أو لحالة، منها ما هو شخصيات معروفة: “فيروز” و”لوتس”، مثلا، والأخيرة هي ابنة الشاعرة. ومنها شخصيات/حالات إنسانية، مثل بورتريه “لا شيء معه”، أو لمهن معينة مثل قارئة الطالع “أبين زين”، أو “صتدوق الدنيا”.
غير أن البورتريهات لم تكن بورتريهات تماما، دائما، وإنما راوحت بين موقفيات إنسانية، أو لحظات عاطفية، وبين البورتريهات بالمفهوم المعروف، الذي تجسد في نص “لا شيء معه” على سبيل المثال، وهو بورتريه لرجل مسن يضع الأرز للعصافير في الشرفة، “لا جرو يلعب حوله، ولا قطة بيضاء، ولا أسماك في الحوض”، رجل “يحمل وحدته، ويرحل فجأة”.
وفي “فيروز” تلتفت الذات الشاعرة إلى وقفة فيروز والجمود الذي يتبدى فيها، لتعيد تفسيره بالتفاتها إلى صوتها الملفوف في حرير الجنة.
وفي “أبين زين” تشعرن الذات الشاعرة مشهدية ضاربة الودع، تلك التي تحمل البحر في يديها، وتمنح الشفاه فرصتها لتلاوة أسرارها الصغيرة في فم الموج.
وفي “تنزف فوق قصائدها” تستعيد أسطورة بينيلوبي كمعادل للشخصية/البورتريه، التي تغزل الخيوط الملونة ألف مرة، وتزحزح السنوات في غرفة وحيدة.
وفي “لدواع صحية” تصنع الشاعرة بورتريه للموت الذي أصيب في ركبتيه، فانتظر ضحاياه، من تلقائهم، ليوقعوا أسماءهم فوق جبيرته، ويصعدون إلى السماء.
أما الـ”شاعر” فهو يخيط الحياة على طرف أكمامه، وفي “بانتومايم” يصدق الهواء أنه تحول إلى حائط من زجاج، وتمسح “لوتس” ما مر من سنوات عجاف، وتلمس جدران القلب، فيتسع لكل هذا الحب.
بينما تجسد معظم البورتريهات الأخرى حالات ذاتية أو تصورات تعيد من خلالها الذات الشاعرة تقديم ذوات متخيلة، قد تكون ذواتها هي، في لحظات وموقفيات تتماهى فيها مع شخصيات الحكايات الخضراء الأولى من قبيل ملكة الثلج والأقزام.
الديوان، كما أشرت في البداية، يكرس لتجربة هبة عصام الشعرية، لتضع نصها المتحرر من أسر البلاغة التقليدية، والمجازات المستهلكة، نحو صياغة عالمها الشعري الخاص، الذي يراوح بين جوانية المشاعر والالتفات عن الحدث المباشر إلى تأثيرات هذا الحدث في طبقات عميقة من التأمل الذاتي.
بالطبع يمكننا الحديث عن ملامح أنثوية، لا نسوية، في الأداء الشعري، بما تحمله النصوص من ولع بالتفاصيل، ومن اهتمام بتجليات الشعور على حساب الموثرات الشعورية في ذاتها، باستثناء نصي “علامات طريق” و”حدس”، المشار إليهما آنفا.
يستفيد معجم هبة عصام الشعري من تفاصيل معاصرة على تنوعها، فالنقطتان والقوس دالان شديدا الوضوح في نص “فيسبوك” مثل الدائرة الخضراء المضيئة، والرسائل الخاطئة قد تصل على البريد الإلكتروني.
أخيرا، يأتي المجاز كبنية مركزية في عالم هبة عصام الشعري، فالنخلة ترفع أظافرها نحو السماء، والشبابيك الخضراء تحمل الأكسجين كما تفعل النباتات في عملية البناء الضوئي، والجدران يمكن إخفاء هشاشتها بتلوين الزجاج. كما تشكل النصوص في كلياتها بنى معادلة للواقع وللحياة، وللطقوس السوسيولوجية كما في الجنازات الهندية على سبيل المثال.
………….
*نقلاً عن مجلة “ميريت الثقافية”