أشرف الخمايسي
يحيا الإنسان يومه كاملا، بكل ما فيه من مرارات ولحظات حلوة، حتي إذا ما جاء الليل، ورفرف الكري، وتمدد لينام، يجد نفسه في عالم آخر، عالم عجائبي، فيظل الصحو، ليعيش في منامه مرارات أخري قد تهول حتي تصير كوابيسا، ولحظات حلوة قد تشف حتي ليري أنه يعانق الحور العين في جنات الفردوس…. بالأحلام يبقي الإنسان دائما في حالة صحو.
زمان، كانت هناك ممثلة جميلة اسمها “ليلي حمادة”، كانت نجمة التليفزيون وقتها، وكنت أمر في فترة المراهقة، وأحببت هذه الممثلة جدا، فصرت أتتبعها في أي مسلسل، وصارت البنت الحلوة في نظري، هي تلك التي تشبه “ليلي حمادة”، وفي ليلة جميلة، ذكراها لم تنمح من ذاكرتي حتي الآن، وأظنها لن تنمحي حتي بالموت، رأيت “ليلي حمادة” جالسة علي الكنبة التي في حجرتي، تنظر لي وتبتسم ابتسامتها الملائكية، فاتنة الجمال البنت، شعرها الأصفر الحريري يفيض حول رقبتها المقدودة من مرمر، وخداها السكر، وعيناها المملوءتان بمرح الحب، وشفتاها المشحونتان بلهيب الغرام، تنظر لي وتبتسم، كنت أجلس إلي مكتبي، أذاكر دروسي، لكن “ليلي” هزت رأسها بدلال الغواني، وضحكت، وفردت ذراعيها تدعوني لحضنها الرائب، انا قمت، وتحركت نحوها مذهولا، “ليلي حمادة” في غرفتي؟! وتدعوني لأحضانها؟!! وفجأة وجدت نفسي غارقا في قبلة حارة طويلة، أول قبلة أمص فيها شفتي امرأة في حياتي .
ـ هاهاهاهاهاه .. أول بوسة في حياتك بوسة وهمية لامرأة وهمية.
ـ بس كانت بوسة يا حبيبي .. بوووووسة.
ـ وبعدين ؟
ـ ولا قبلين !! صحيت .
قبلة أخري أسكرتني، وجعلتني أطير بين زروع الحقول، وهامات النخيل، قبلة خطفتها خطفا من “حنان” قبل أن تصير زوجتي، كانت تقف تحت شجرة برتقال في حديقة أشجار الفواكه الملاصقة ببيت عمي، “حنان” بنت عمي، أميرة الخضرة، وربة الغيطان، تطلع علي دنياي شمسا مضيئة، وروحا للبكارة، أريد تقبيلها، وهي تتمنع، وتستحيل، وأنا أترقب لحظة القنص، حتي ملكتها، وخطفت القبلة. كانت لحظة مثل حلم.
الآن، تهفو روحي لتقبيل شفتي “أمينة زيدان”، المرأة التي يخيل لي أن الله قد خلقها من طمي النيل، وجعل شفتيها لافحتين بوهج الرغبة والاشتهاء، هي القبلة الثالثة لأنثى تراود أحلامي يقظة ومناما، هي القبلة التي سيكتمل بها ثالوثي المقدس، فامنحني يارب شفتي “أمينة”، أمصهما، طقسا بديعا، قربانا لسكينتي، ولو في عالم الأحلام.
وزمان أيضا، أعلنت جريدة “أخبار الأدب” عن مسابقتها الأولي للقصة القصيرة، ولم تكن لدي قصة للدخول بها في المسابقة، وكنت قد قررت أن أفوز بالمركز الأول، بقيت أياما أتسول فكرة، أي فكرة، وعالم الإبداع يأبي العطاء، وفي ليلة باردة، وبينما أنا تحت غطائي، أتسكع في تلك المروج الضبابية التي تمتد ما بين الصحو والكري، ينبلج الإبداع عن عطائه، وتتهادي أمامي عربة كارو، يجرها بغل غبي، يسوقها عربجي متجهم، و … سطعت الفكرة، وكتبت القصة، “عجلات العربة الكارو الأربع”، وأرسلتها إلي الجريدة عبر البريد، وأسلمت نفسي للانتظار.
وعندما اقترب ميعاد ظهور النتيجة، بدأ القلق، وكلما اقترب اليوم المنتظر، اشتد القلق، حتي جاءني هذا الرجل العجوز في ليلة ربيع، كان مهيبا بلحيته البيضاء المنسدلة منسابة حتي صدره، وعيناه المملوءتين عطفا ورقة، وجلبابه الأبيض يهفهف مثل أجنحة ملائكة. كنت واقفا في أحد شوارع الأقصر أمسك بيدي سمكة متعفنة، أهم برميها بعيدا من فرط عفونتها، والدنيا ليل، والشارع صامتا، فسمعت صوته المحذر قويا: لا تلقها. قلت له: إنها متعفنة.
مد يده وأخذها مني، شق بطنها المتهرئ بأصبعه، وأخرج منها خاتما فضيا كبيرا، جميل الزخرفة، أعطاه لي وهو يقول: ضعه في أصبعك.
وضعت الخاتم الفضي في أصبعي، فإذا أنوار مبهرة تتفجر منه لتنطلق في شعاعات لا حصر لها ولا عد، تنشر النور في السماوات والأراضين، ومن خلف ستارة النور التي صنعتها الأشعة، كان وجه العجوز باسما، وفي لحظة الفرح الطاغي بالخاتم، انتابني إحساس بأن هذا العجوز سوف يأخذ الخاتم، أليس هو من اكتشف وجوده في قلب سمكة متعفنة كنت سألقي بها إلي أبعد مكان؟ لكن جاءني صوت الرجل حانيا جدا: الخاتم حفظته الأقدار لك في قلب سمكة متعفنة .. حتى لا يأخذه غيرك.
وصحوت.
ـ هاهاهاهاهاهاه .. دا انتا عليك شوية أحلام !! وبعدين .
فزت بالمركز الأول مناصفة مع البنت التي يخيل لي أن الله قد خلقها من طمي النيل، “أمينة زيدان” التي لها شفتان لافحتان بوهج الرغبة والاشتهاء، أطلب من الله الآن أن يمنحني مصهما، ولو في الحلم.
وزمان، تركت الكتابة، لما رأيتها مطية المدعين، وميدان فرسان لا يصولون إلا علي الورق، ورحت إلي بلاد الدين، وعشت مع السلفيين، نجوب القرى والمدن ندعو المسلمين إلي حقيقة الإسلام، الإسلام عقيدة العقل، ودين الرحمة، ودعوة العلم، وتقديس العمل، الإسلام إنسان، لا ملاك ولا شيطان، ومحمد صلي الله عليه وسلم إنسان، ضحك في وجه من بال في المسجد، واحمر وجهه غضبا من فعل الثلاثة الذين أخذوا أنفسهم بالشدة في الدين، وأطلقت لحيتي، وقصرت جلبابي، الشكل مهم، مثل المضمون تماما، الشكل يجبرك كثيرا علي تحقيق المضمون، كانوا يقولون : ربِّ لحيتك تربِّك .
اللحية لن تسمح لك بالبصبصة، ولا بمغازلة النساء، ولا بتدخين السجائر، ولا بإتيان أي منكر، عندما تطلق لحيتك، فأنت تتشبه برسول الله، وما أروع أن تتشبه بخير خلق الله كلهم.
وأحببت رسول الله جدا، وما زلت أحبه، وسأظل أحبه، لكني وقتها كنت أشف وأجمل، أنا مع الله، أبحث عن رضاه، لي هفواتي، بل لي سقطاتي، فأنا الإنسان الناقص بنفسه، الكامل بنقصه، لكن لا ضير، هفواتي تسقطني وأنا علي الطريق القويم، وأن أمشي وأسقط في الطريق الصحيح، خير من أن أمشي وأسقط في الطريق الخطأ، هناك يوما ما سأصل، لكن هنا لن أصل مطلقا.
وأحببت أن أري رسول الله، وليس هناك من سبيل إلي رؤيته إلا في المنام، ومن رآه في المنام فقد رآه حقا.
وفي ليلة، وجدت نفسي أمشي في مدينة صغيرة هي أشبه بالقرى، أبحث عن رسول الله محمد، ثم وجدت نفسي في متسع داخل أحد البيوت، وامرأة صغيرة لم تبن لي ملامح وجهها، ترتدي السواد، وصوتها المملوء بالشباب يقول: رسول الله مش هنا .. خرج من فترة وما رجعش لغاية دلوقتي.
خرجت وأنا أتساءل : هل هذه هي فاطمة الزهراء؟.
ثم وجدت نفسي خارج حجرة، تحت سقيفة بسيطة من جريد النخل، حولي جرار وأواني من فخار، وأمام باب الحجرة وقف أحد الرجال، قال لي: ماذا تريد؟. قلت: أريد لقاء رسول الله. قال: انتظر حتى أستأذن لك.
وخرج الرجل بوجه باسم، وفتح لي الباب، ودخلت، رأيت رسول الله يجلس في صدارة الحجرة، وعلي يمينه جلس ثلاثة رجال، لم أعرف من هم، ولم يكن يهمني ذلك، فقط كنت أريد ان أعبئ عيني برؤية هذا الرجل الأعظم علي مر العصور، ونظر لي بوجه باسم، ففرحت، وكيف لا أفرح يا ناس ورسول الله يضحك في وجهي؟! ومد يده الشريفة ليصافحني، ورغم أني لم أكن قد خطوت ناحيته أية خطوة، إلا أن يده وجدتها في يدي، فسارعت بضم يده الكريمة بين كفي، وانهلت عليها تقبيلا، وظلت يده بين كفي، حتى تركتها حياء من أن أكون قد أثقلت عليه.
وخرجت، وصببت من أحد الجرار نبيذا مما كان يشرب منه رسول الله في قعب صغير، وأخذت أشرب، النبيذ حلوا، أحركه بسبابتي، فيزداد حلاوة، وأشرب، وأشرب….
وأذن الفجر.
حلاوة لا تداني، ورواء في رواء من رواء، الله أكبر.
وذهب رجل إلي رسول الله محمد، كان قد اقتنص قبلة من شفتي حسناء، ذهب يحمل ذنبه الكبير، فما عنفه رسول الله، ولا حتى قطب في وجهه، وإنما نصحه بالاستغفار.
يا الله، يا من جعلت كمال الإنسان في نقصه، وخلقت الحسناوات فتنة لكل لبيب حازم، امنحني شفتي “أمينة زيدان”، أمصهما، أرشف نبيذهما الحلو، أحركه بلساني فيزداد حلاوة، وعندما أفيق من سكري، سأستغفرك.
وصحوت.
ـــــــــــــــــ
*روائي مصري