محمد هشام عبيه*
رغم صغر حجمها – لا تزيد علي 72 صفحة من الحجم المتوسط – فإن مجموعة «عجائز قاعدون علي الدكك» للمؤلف «الطاهر شرقاوي» يحتشد فيها بشر كثيرون، وتفاصيل تنساب طوال الصفحات، وتبدو بعض قصصها وكأنها تحمل ترابطًا من نوع ما يجعلها أشبه بقصص طويلة علي أجزاء، ولعل ظهور بعض التيمات الثابتة في أكثر من قصة مثل «مسجد الشيخ التايه- مواكب الجنازات- سكن المقابر- الأطفال خدام القبور»، هو الذي يعطي للقارئ هذا الإحساس بأن هناك وحدة موضوعية وجوًا عامًا تشترك فيه أغلب قصص المجموعة.
يحضر الصعيد أو الريف برائحته وأجوائه ورجاله ونسائه وبطه وأوزه وأغنامه في غالبية قصص المجموعة التي لاتتخذ منهجًا انتقاديًا لعادات أو تقاليد، بقدر ما ترصد بلغة رشيقة متمكنة بعضًا من طقوس الحياة علي الهامش في تلك الأرض الطيبة، والموت الذي يستحوذ علي المشهد الرئيسي.
كما يزاوج الطاهر شرقاوي بين الكلاسيكية والتجديد في بناء قصص المجموعة، ففي قصة «غبار خفيف» القدرة علي الوصف هنا هو البطل «في عصر الخميس، يقف الولد النحيل، الحافي، بحمارته السوداء، قدام جامع «التايه» الصغير، بجوار بقية الحمير يمد الأولاد خرطوم المياه من الداخل، ويملأون جراكنهم، المعلقة بالحبال علي جانبي البردعة، وهم يتصايحون، ويتشاتمون، ويتماسكون بأيديهم، في عراك مزيف، علي ترتيب أدوارهم، في ملء المياه».
وبترتيب يبدو مقصودًا يكون مفتتح القصة التالية «جريد أخضر» عند مسجد «التايه» أيضًا: «مع تصاعد تهليلات وتكبيرات العيد، من جامع «سيدي التايه» ومن الجوامع القريبة والبعيدة، يطلع الولد من بيته المجاور للمدافن، يرتجف جسده النحيل، من سقعة الفجرية، يحمل فوق كتفه، جريد النخيل الأخضر، يتوقف مع الأولاد الآخرين عند المداخل، يسند أطراف الجريد، علي جدران المدافن العالية، ويمسك في يده بجريدة صغيرة، ولما يشوف سيارة تقترب ناحيته، يلوح بها للسائق». ولابد للقارئ أن لاحظ دمج كلمات عامية مثل «قدام- يشوف» في نسيج السرد بطريقة تلقائية تقوي المعني ولا تضعفه كما هو متوقع، وهو أمر سيتكرر كثيرا مع كلمة مثل «يبص» والتي ستحل محل نظيرتها الفصحي «ينظر» في كل قصص المجموعة تقريبًا، لتعطي دلالة أكثر حميمة دون شعور بحدوث نتوء في سياق السرد.
لكن هذه الأجواء الكلاسيكية تغيب عن بعض قصص المجموعة مثل «الشرير» التي يتوعد فيه البطل أعداءه بشر غير مسبوق أو كما يقول: «نوع جديد من الشر، لم تسمعوا به من قبل، أنا متأكد من أنكم ستحبونه، وتتمنون أن تفعلوا مثله، فتبدو واضحة نبرة الغيرة في أصواتكم، وأنتم قاعدون علي المقاهي، تدخنون الشيشة، وتراقبون المارة، وتقولون إنه يفعل السحر»، ومثل قصة «ماء البحر»، التي ينتظر فيها الجميع ذلك السقا الذي يأتيهم بماء البحر المالح لأنهم «لا يستسيغون ماء الحنفيات، يقولون، وهم يبعدون أيدي أحفادهم القابضة علي الأكواز: إنه ماسخ»، وهي القصة التي تحمل المجموعة اسمًا مستوحي من أحد سطورها «حيث أناس عجائز قاعدون علي الدكك»، في نزعة مغايرة يقدم عليها المؤلف- التي صدرت له من قبل رواية مهمة بعنوان «فانيليا» – عندما يضع عنوانًا لمجموعته القصصية هو ليس بعنوان لأي من القصص ال 29 التي يضمها الكتاب، الذي يستحق القراءة بوصفه يحمل ملامح تجربة قصصية ذات طابع خاص يلتزم في ذات الوقت بتقاليد القصة القصيرة وهو أمر سيعجب به كثيرون.
ــــــــــــــــــــ
*كاتب وصحافي مصري