عناية جابر
بين الشاعرة المصرية إيمان مرسال وبين قصيدة النثر اتفاق أكيد لا ينبع من تخطيط الشاعرة وحنكتها في حياكة القصيدة، بل من استخفاف بذلك التخطيط وتلك الحنكة. عند مرسال تلك اللامبالاة الفعلية بما اصطلح على ما وصلته قصيدة النثر الآن، حداثويتها او سوى ذلك من تأطير للشعر كشرط للإعلان عنه وتوصيفه، ووسيلة لاحتضان القول. جملتها غفلة عن التصنيفات الجاهزة، لا تتعمد الكتابة تحت عناوينها، فالأطر والتوصيفات لا تخدع شاعرة حقيقية، أعني ما يهم هو جملتها البراقة والحيوية والمؤثرة.
في “جغرافيا بديلة” صادر عن “شرقيات” ثمة مكان ما تنشده الشاعرة، ليس هنا ولا هناك. لا القاهرة ولا كندا. لكنه الوحيد الذي يمكن لعشاق الشعر ان يذهبوا إليه في أمان تام. تداعب مرسال قصيدتها، تنظر في البداية الى حياتها بقوة، ثم بسلاسة، مداعبة الماضي والحاضر بنظر حسير يتعرف حياته باللمس، بالكتابة والقصيدة. لا تريد الشاعرة لقصيدتها ملاحظة ثاقبة للأمور، فهي تلاحظ بلطف، ولا تبدي كثير الانفعال الشعوري، كأنما ما مر قد عاشته، وكأنها خبرت حياتها الحالية في حياة سابقة، وتعرف بالتالي تفاصيلها، فلا يأس ولا دهشة حيال المشاهد، بل تشابك حنون مع الحياة، بأنوثة لا تفلح في مداراتها.
منذ “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” و”المشي أطول وقت ممكن” تبدو قصيدة إيمان مرسال هانئة في جوهر الشعر. وسواء أحببنا اكثر دواوينها السابقة، أم هذا الذي بين أيدينا، فعندها ذلك الميل في دواوينها كافة الى الخروج على التقنيات اللفظية، فجملتها تنشد ابدا رؤيتها الخاصة الى التعبير، ونجده بسيطا وجميلا وجوانيا، ومتحدرا بكامل قوته من بديهية الحياة نفسها مغفلا المشاهد ذات الطبيعة المقفلة التي لا تبرز هويتها للقارئ.
الوضوح
جملة الشاعرة مرسال مفصولة بالقدر الكافي عن الغموض، ما يجعلها قادرة على الاستغناء عن الاشارات الدالة أو الرمزية أو المحسنة إذا جاز التعبير:
لا حاجة للخوف
الزمن لن يفعل شيئا على الاطلاق
لن يجعل لشجاعتك ثقلا يأخذك لأسفل
الزمن ليس مهماً
إنه مجرد زمن.
شُبهة الفلسفة الى حد، التي تكتنف <جغرافيا بديلة> مجموعة إيمان مرسال الصادرة حديثا، بعد ان كانت قدمت أعمالها الشعرية التي ذكرنا كاشفة عن سخرية خفيفة بالواقع وبالحب وبالعلاقات الانسانية والتفاصيل اليومية، تأتي في الحدود المتأملة في الحياة، في الماضي والحاضر اكثر منها متفلسفة. مجموعة ذات إيحاءات مفرطة الحيوية بمغزاها الأخلاقي الابداعي، وفي فهمها لمداراة الحنين والكتابة عنه من دون دراميته المعروفة وتحديداته الكلاسيكية. وعي قصيدة مرسال هو وعي مُعاصر ومفتوح، وتعبيرها الابداعي عن هذا الوعي، معاصرا بدوره ومنفتحا، ومتكّسبا من تنقل الشاعرة في الأماكن، بلغة تلك الأماكن وثقافتها المتنوعة.
قصيدة إيمان مرسال في النحو الرواقي الذي يشوبها، تختزن مع ذلك شعورا بالرهبة من الوحدة، وهي تتحسس مخاوفها في القصيدة عبر الحوارات القصيرة مع الغرباء، ومع أشياء العالم، ومع الحبوب المنومة كغيبوبات تطول او تقصر، وتُعين على برد الوحدة.
تميل إيمان مرسال في “جغرافيا بديلة” وقد شاءته نتاجها الجديد بعد صمت طال لتسع سنوات، الى قصائد مداعبة وساخرة، ونصوص تنسجم مع رؤيتها التأملية والمشاكسة في آن الى الحياة وشخوص تلك الحياة، بحيث لا تأخذهم على محمل الجد تماما، بل الأمكنة والأشخاص عندها، بأشكال حقيقية وأحجام حقيقية من دون كثير مغالاة في العاطفة او في الحنين.
الضعف الإنساني مقابل قوة الكتابة وبساطتها. في قصيدتها الى بيت العائلة المهدوم في القاهرة، لا تستسلم الشاعرة للمعنى الكارثي والفظيع لاختفاء بيت وأم وذكريات وحياة ماضية، بل في قصيدتها تُبدي قدرا لا يستهان به على دمج الكوني بأشياء الحياة الصغيرة، مُعيدة للخيال قوة الوجود في القصيدة، وفي واقع الكتابة الشعرية.
هذا لا يعني أن الشاعرة تحرم قصيدتها من الانفعال، سوى أنها تجنبها عدم الانسحاق بالفظاعة المتأتية من الواقع، مكتفية باللعب بأحجام الخيالات، تصغرها وتكبّرها بقدر رغبتها في القول، ثم تحولها الى وعي كما يقول، اندريه مالرو: “اذا صعب تجاوزها في الواقع أمكن تجاوزها بالخيال، لأن <قوة الخيال> أعظم شأنا من الأمر الواقع“.
خيال مرسال مدعوك بالدعابة، وبه تُنفس مراراتها وخيباتها، الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، الموضوعية والذاتية، تقول في إحدى قصائدها تحت عنوان: “د. ليفي”. “يقول لي انه لا ينسى المرضى الذين يتعذبون بلغات مختلفة. اقول له إن علاجه لا يحترم وجودا منشطرا في اثنين، وأنه لم يجرب جحيم ان يتفرج على نفسه من كوة في جدار ذاته. لو كان د. ليفي مصريا لأصبح نجما في السينما، لو كنت ما زلت مصرية لوقعت في غرامه. لكنه هاجر من روسيا لأسباب اقتصادية، ومن اسرائيل لأسباب اخلاقية، ومن جنوب افريقيا لأسباب عاطفية، ويبدو أنه يتعذب بلغات مختلفة. في قلب اللغات المختلفة لجرح الشاعرة الذي ينعكس في قصيدتها بوضوح، يطلع عناد صاف قوي ونفّاذ بالحياة، وقوة في مغالبة سوء الفهم الوجودي، هي حصة الشعراء في مواجهة الأمكنة القريبة والبعيدة وتداعيات الغربة فيهما. قصائد إيمان مرسال في “جغرافيا بديلة” ليست في الأمكنة، بل في روح تلك الأمكنة، وفي الطواف من غربة في القاهرة الى غربة في كندا. تعرف مرسال ان ترى الاشياء جيدا، تدخل بها في عمق، وتُدخلها في القصيدة بالعمق الذي تعرف غوره، ويزداد عمقا مع الوقت، ومع التجربة الحياتية، والفنية في علاقتها بالشعر.
ـــــــــــــــــــــ
السفير 17/10/2006