القوة الناعمة… حدود النظام ورهانات المذهب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 خالد البقالي القاسمي

     إن بناء تصور للدولة عبر مقاربة القوة الناعمة ليست بالضرورة ذات طبيعة عادية أو خلاقة، بل هي في الحقيقة ذات منحى داخلي يرتبط بمقدمات خاصة بطبيعة نظام الدولة، وهي تتميز بحمولة نسبية تحيل على أهمية الاعتماد على منهجية ضرورية للبحث، والابتكار، والتطوير، إن الأمور في هذا المجال لا يمكن بتاتا أن تعني بأن هناك إمكانية إقامة نظام جديد مستند إلى مفهوم القوة الناعمة وفق شكل معين خاص ومستقل عن المضمون العام أو الدولي لصيغة Soft Power. يجب على الذين يرون بداهة تطبيق هذا النظام أن يكونوا على بينة تامة من خلفيته، ومكوناته، وواقعيته، وصفائه،وصرامته.    

     عندما قام أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي” جوزيف ناي ” المولود في 1937 وهي من السنوات الدالة التي كانت تعرف إرهاصات بادية تشير إلى قرب انتشار القسوة، والعنف، والحرب، والدمار، ببناء تصوره عن القوة الناعمة سنة 1990 لم يكن يعرف جيدا أو يعي بدقة مصير أبحاثه ودراساته، لقد كانت كثيرا ما تصعب عليه عملية توصيف اللحظة بالنسبة لنظريته من خلال استعصاء عملية تصنيفها ضمن مذهب جديد له رهاناته، وطموحاته، الفكرية الواقعية والأخلاقية، وبين الحدود الدقيقة التي تقيمها الأنظمة في الدول من أجل ضبط عمليات التدبير، والتوجيه، والتأثير، والتواصل. 

     لقد عمل الباحث الأمريكي على نشر ” Bound to lead ” كرد فعل حاد ومقصود، وتفاعل موجه واضح باتجاه الذين أعلنوا بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على تأثير كبير وبالغ في مادة الجيوبوليتيك دون توضيح الخلفيات، وطبيعة النظام الجديد، ورهانات المذهب المستحدث، وذلك بالضبط بعد نهاية الحرب الباردة التي أرهقت جميع دول العالم، وهكذا اعتبر ” جوزيف ناي ” بكل قناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك القدرة التامة والكاملة على التأثير الشامل، وهي تمارس هذه القدرة بكل وعي ورغبة، ولذلك فإن هذا الفعل المقصود يفتح الباب واسعا على صيغة جديدة في السياسة الدولية تمكن من النظر إلى الأشياء بطريقة خاصة لا ترتكز على القوة، والعنف، والتدمير، ولا ترتكز على القسر، والإجبار، بل تعتمد على استثمار أهم مكونات التطورات الجيوسياسية من أجل التعامل المباشر والمواجهة الناعمة مع شعوب العالم.        

     عند المقارنة بين المعطيات نجد التقابل الحاصل بين Soft power و Hard power، حيث لا يمكن أن تتحقق هذه الأخيرة إلا بواسطة القسر والعنف والإكراه، إما عن طريق التدخلات العسكرية باجتياح الدول وتدمير إمكاناتها العسكرية والاقتصادية، أو بواسطة الدبلوماسية الماكرة التي تتخلل وتهاجم جميع النقط الفارغة في كيان الدول المستباحة، أو عن طريق ممارسة الضغوط الرهيبة المبنية على العقوبات الاقتصادية التي تخرب اقتصاديات الدول الممانعة. بينما تتميز Soft power أو القوة الناعمة بخصائص بعيدة كل البعد عن الضغط أو الإكراه أو القسر.

     وإذا كان الباحث الأمريكي قد عمل على تقنين المفاهيم الخاصة المرتبطة بنظرية القوة الناعمة في 1990، ووظفها ” كولين باول ” بوضوح وصراحة في 2003 في المنتدى الإقتصادي العالمي بغرض تحديد قدرة الفاعل السياسي المتمثل في الدولة على بناء علاقات غير ضاغطة وغير قسرية، فإن الأصل في القوة الناعمة هو ظهور إرهاصاتها الأولية في المملكة المتحدة قديما عبر الثقافة البريطانية وآدابها مجسدة في أعمال ” وليم شكسبير “…، وأعمال مثل ” شرلوك هولمز “، و ” لويس كارول “، و ” أليس في بلاد العجائب “…، دون أن ننسى الاستثناء الفرنسي المتميز في الفكر والآداب، والأنتلجنسيا، والقدرة على التأثير البالغ، والأمر كله يعتمد على الغوص في الحفر من أجل بناء جينيالوجيا معتمة وغير بادية للعيان بوضوح عن القوة الناعمة ومفاهيمها، وقدرتها على تقديم نفسها كبديل ومخلص للدول من العنف، والإكراه، والقسر.

     لقد اعتبر الأمريكي في جامعة هارفارد “جوزيف ناي” بأن Soft power ، أو القوة الناعمة هي عبارة عن مفهوم منظم ومضبوط بدأ يبرهن على حضوره، وجاهزيته في الحلول محل العنف والصدام، وهو مفهوم يدل على وصف القدرة البالغة على الجمع والجذب والتأثير بواسطة الإقناع والاقتناع والإعجاب والانبهار، عوض استخدام القوة والإكراه. وهكذا فإن Soft power  تقابل في اللغة الفرنسية La puissance douce، وهي في اللغتين ترتبط بمعاني القدرة على التأثير والإقناع الذي تمارسه دولة على دولة أخرى، أو مجتمع ضخم وكبير ومتنوع في إمداداته الاقتصادية والفكرية والأدبية، أو مجموعة كبيرة أو صغيرة، ويكون ذلك التأثير موجها نحو أفراد معينين من أجل قيادتهم، أو شعوب معينة من أجل قيادتها، ودفعها للتفكير بطرق ووسائل القوة الناعمة لتغيير سلوكها وردود فعلها، وكل هاته الأفعال والأنشطة من المفيد جدا أن تتم بهدوء، وسلاسة، وأخوية، ونعومة، بدون أي علامة على العنف، أو الإكراه، أو القسر.

     من الواضح جدا أن مكونات الحديث هذا تنصب حول طريقة جديدة في إدارة الأمور، وتوجيه دفتها نحو الأفضل والأصلح لجميع الدول، سواء كانت ممارسة للقوة الناعمة أو مستقبلة لها، إن الأمر الموضوع بهذه الصيغة يبدو أكثر تميزا، ولكن ضبط عملية فهمه بدقة تظل موضع تحفظ وتريث مع تجنب التبسيطات المغرضة، فالمذهب المستند إلى القوة الناعمة عليه أن يكون متمما للمذاهب الأخرى ومتعاونا معها، وبهذا الشكل يمكن أن يصل إلى المدى البعيد في تحقيق كثير من النجاحات والتفاهمات، حيث يمكن اعتبار القوة الناعمة بديلا عن الغباوة القائمة على العنف والإكراه، لقد عملت هذه القوة على انتشال كثير من الممارسات السادية من وضعيتها البدائية والشوفينية، إنه مذهب سمح بصياغة إيديولوجيا جديدة ذات بعد إيجابي تعاوني، غير الإيديولوجيا الليبرالية المبنية على التنافس الأعمى ونسف الأغيار، والغريب الحاصل هو أن هذه الإيديولوجيا الجديدة نمت وترعرعت في كنف الليبرالية، وانبثقت عنها، ولكن بطريقة جديدة سمحت لها بكل التحليل الممكن، والفهم العميق من الكشف عن التناقضات الداخلية للإيديولوجيا الليبرالية، وانطلاقا من هذا التحليل الدقيق، والفهم الثاقب تمت عملية الولادة بسلاسة، وليونة، وقصد، فكانت لها أي للقوة الناعمة جدتها وطرافتها، مكنتها بهدوء من تحليل التناقضات اللصيقة بالليبرالية الساحقة، ورصد تحولاتها، وضبط خصوصياتها، من أجل الوصول إلى درجة قياس واختبار الكفاءة الوصفية النظرية والعملية للقوة الناعمة بعد توظيفها كمقاربة للتأثير في المجتمعات والشعوب.

     إن القوة الناعمة لدولة من دول الواجهة البارزة في العالم تتحدد بقدرتها على الإقناع، واضعة بذلك على المحك صورتها وسمعتها حسب كيفية تسويقهما عبر العالم وبين شعوب المعمور، من المفروض طبعا أن تكون الدولة التي تقدم نفسها بديلا لغيرها وتسعى لإقناع الآخرين تتوفر على إمكانات اقتصادية هائلة تمكنها من تمتيع الناس برفاهية كبيرة بارزة وملموسة تكون وسيلة مادية مقنعة تضفي عليها جاذبية مثيرة وحاسمة بين غيرها من الدول التي تتبنى تصور ومذهب القوة الناعمة، وكل هذه العناصر تستتبع تطورا كبيرا، وتنافسية ساحقة في مجال التواصل، والثقافة، والأدب، وطريقة الحياة ونمطها، ومكانة متميزة بين دول المعمور.                         

     إن هذه القيم الجديدة التي تبشر بمجتمعات منفتحة على تصورات كونية موحدة تتركز اليوم في يد أكبر وأهم الدول العالمية على مستوى الاقتصاد، وتسويق الخدمات، والتواصل، وإنتاج وتصدير التكنولوجيا، واحتكار صناعة المعرفة، من أبرز هذه الدول نجد الصين الشعبية التي تحاول أن تقدم نفسها على أنها دولة متطورة جدا، وتساهم في تسويق صورة عن الصين من الداخل باعتبارها تتوفر على طموح جاد لكي تتبوأ مركز القوة الثقافية الناعمة في العالم، وهي تسير بخطى حثيثة في التوجه نحو هذا الطريق الذي تؤكد على اختيارها له كقاعدة جديدة من الانطلاق نحو المستقبل الجديد مع القطع مع وسائل العنف والدمار البدائية، ومن أجل هذه الرؤية سارعت الصين الشعبية إلى التأكيد على أن اعتناق مذهب القوة الناعمة وتصديره نحو شعوب العالم لا يستند فقط إلى النمو المبني على اقتصاد قوي جدا، بل إن النمو في الدولة الكبيرة وتطوير الأمة الصينية يتطلب كذلك ضرورة الاستناد إلى ثقافة منفتحة، غزيرة، متنوعة، وذات إشعاع عظيم، لأن الثقافة هي أصل التكنولوجيا والتقدم العلمي والاقتصادي، وهي بذلك ذات حضور وتأثير طاغ في تقوية إمكانات الدولة وقدرتها على تصدير نموذجها الفكري والاقتصادي.

     بنفس هذا المعنى تقريبا اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن الثقافة تمثل تأثيرا عميقا في بناء الدولة ومساهمة فعلية في تنميتها، فهي تستطيع أن تحدث تغييرا واضحا وبارزا في قدر الأمة والدولة، والولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أكبر دول العالم التي تسعى إلى توظيف مبادئ مذهب القوة الناعمة في التأثير على الشعوب، وإقناعها بجدوى وجدارة النموذج الأمريكي في الانتشار بين شعوب العالم. وتمتلك الولايات المتحدة فعلا الإمكانات القمينة بجعلها تتصدر الدول المعتنقة لمذهب القوة الناعمة، لقد استطاعت بكل سهولة أن تنشر ثقافتها وطريقة الحياة الأمريكية المثيرة والجاذبة عن طريق السينما، والتكنولوجيا والتواصل، لقد اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على صناعة ثقافية مكنتها من احتكار جميع الأسواق العالمية، حيث أصبح الجميع اليوم في العالم مفتونا ومأخوذا بطريقة الحياة الأمريكية عبر قوة الصورة التي تعمل على تسويق وإشهار المبادئ الأمريكية، واللغة الإنجليزية التي أصبحت لغة قاطرة وقائدة عبر العالم، وهي بذلك أصبحت لا تؤثر في الأبعاد الواقعية للحياة الإنسانية لشعوب العالم فقط بل شرعت تتدخل حتى في تشييد معمار تصور جديد للمتخيل العالمي من خلال سيادة مبادئ الحياة الأمريكية المعتمدة على الفكر الحر، والتعبير الحر، وتقديس الملكية الفردية الخاصة، وتفضيل العمل ضمن المقاولات الخاصة، والانهماك في البحث عن السعادة…، كل هذه المغريات التي تعتمدها أمريكا من أجل تسويق رؤيتها جعلت منها فعلا دولة كبرى وواجهة دولية للهجرة في العالم، حيث أصبحت أمريكا تجذب المهاجرين والطلاب من جميع أنحاء العالم المعمور الذين ينقبون عن العمل، أو عن شروط العيش المناسبة، أو عن الدراسة والتحصيل والتكوين، حيث كل العالم يحلم بالدراسة في مدارس وجامعات شامخة مثل ” هارفارد ” أو ” ستانفورد “…

     إن القوة الناعمة الأمريكية تبدو اليوم في العالم ثابتة في خطواتها وعزمها، وتتوفر على رغبة سياسية أكيدة في تحقيق استمرارية وانتعاش في هذه الخطوات، والأمر يظهر للعيان عبارة عن مذهب أو فلسفة مغرية تمجد القوة الناعمة، وتنفر من القوة الساحقة التي عانت أمريكا من نتائجها وتبعاتها السلبية المرفوضة والمستهجنة عبر العالم، تلك النتائج والتبعات التي كانت وليدة ممارسة لأنواع من العنف والسلوكات اللأخلاقية الدولية عبر تصرفات وقرارات جائرة مست دولا بعينها في العالم، وأخيرا نقول إنه من الضروري أن نكون دائما حذرين من المفاجآت، ويقظين من التقلبات، فكما كانت القوة الساحقة Hard power عنيفة في تدخلاتها، وقاسية في تقديراتها، فإن القوة الناعمة Soft power اليوم يمكن أن تكون نعومتها أقوى مما يبدو لنا، فتنتج نتائج معكوسة غير منتظرة وبعيدة عن التقدير السليم المرحب به من الجميع، علينا أن نطرح كثيرا من الأسئلة لكي نستنتج الفرق، في الحقيقة إن للعولمة شراهة لا تضاهى، تجعلها عمياء في التهام كل شيئ، وتخطئ سبيلها في التمييز بين القوة الساحقة والقوة الناعمة.              

       

 

مقالات من نفس القسم