حاورها: حسن عبدالموجود
عاشت نورا ناجى فى مدينة إنتشن بكوريا الجنوبية عامين تجربة قاسية تركتها وحيدة مع طفلة ضعيفة جسدياً. بعد عدة أيام من الألم أدركت أن طفلتها تعرضت لانسداد معوى، وكان عليها أن تقبل – بينما تهرول منهارة فى أروقة المستشفى – أن يفتحوا ثقباً فى بطن طفلتها، وإلا ستحدث الكارثة. كانت الوحدة أكثر قسوة من الألم، وأكثر بطشاً من الخوف، وأكثر إعتاماً من الموت، وقد فهمت فى وقت لاحق أن الوحدة هى ما سيربط علاقتها بالعالم، إذ انتقلت فى فترات لاحقة من مدينة إلى أخرى، وفشلت فى تكوين صداقات، أو حتى علاقة، مجرد علاقة، بتلك المدن، كما أدركت أن الوحدة ستكون محور كتابتها، لكنها تتمنى مصيراً أفضل من معظم بطلات كتابها «الكاتبات والوحدة» إذ أقدمت إحداهن على الانتحار، وأطلقت أخرى النار على من حاول سلبها عالمها، بينما مات معظمهن حزينات وبائسات: «أعرف أن الوحدة قدرى، وأنا راضية بذلك، لكنى أتمنى فقط أن يمنحنى العالم هذه الهبة حتى آخر لحظة من حياتى، أن أموت وأنا أكتب».
فى روايتها «بنات الباشا» جمعت عدداً من البطلات فى مكان عمل يسيطر عليه رجل واحد متسلط وبغيض، حرمهن حتى من تكوين صداقات، حكت كل امرأة قصتها، ففهمنا أن القصص فروع تغذى نهر الوحدة، وفى روايتها الجديدة «أطياف كاميليا» تنطلق البطلة فى رحلة بحث عن عمتها بعد أن اختفت فى المرآة، رحلة تدرك معها حجم المعاناة التى تتعرض لها امرأة تريد أن تكون مختلفة فى مجتمع قاس، امرأة قادمة من مدينة صغيرة لتستنجد بمدينة أكبر، قبل أن تفاجأ بها تفتح فمها لتلقمها مثل حوت يونس. هنا تتحدث نورا ناجى عن بطلاتها، لندرك ببساطة أنها واحدة منهن، أو أنهن انعكاس لها فى المرآة التى اختفت فيها كاميليا.
-صدرت روايتك «أطياف كاميليا» بمقولة من الأمير الصغير لأنطوان دى سانت أكزوبيرى «لا شأن لما يرى فكل الشأن لما لا يرى» وفى أحد مقاطع الرواية وبينما البطلة تتأمل أبو قردان توصلت إلى أن اللاقيمة تكون أحياناً ميزة تضمن الاستمرارية، هل اخترت شخصيات عادية ترغب فى أن يكون وجودها غير محسوس وقررت أن يكونوا أبطالاً للعمل؟
فى الرواية تشعر كاميليا أن أحلامها دمرتها، وأن سيرها خلف ما كانت تتمناه ضيّعها، رغم أنها أحلام عادية جداً، مثل أن تحب رجلاً بعينه أو أن تمارس عملاً بعينه أو هواية تسعدها. لدرجة جعلتها تفكر أنها لو كانت فتاة عادية بلا موهبة، بلا أحلام، بلا قلب، ليست جميلة إلى هذا الحد، ليست ملحوظة إلى هذا الحد، لكانت حياتها أكثر استقراراً. ربما يكون هذا صحيحاً، ربما يعيش مالك الحزين حياة بائسة لأن الصيادين يطاردونه محاولين اصطياده، أما أبو قردان فينام بكل أمان على الأشجار، ويتحرك فى الحقول وعلى ضفاف الترع فى القرى بثقة، لأنه لا أحد يطمع فى ريشه الباهت ولا طعمه المرّ.
كنت أفكر أحياناً أننى أود لو اختبأت خلف نقاب أسود، أن أشعر بلذة الاختفاء، أن لا أضطر إلى التواصل. أن تكون عادياً يمنحك القدرة على العيش فى صمت، بعيداً عن الحياة ومشاكلها. المشكلة أن هذه النظرية غير حقيقية لأن لا يوجد شخص «عادى» تماماً إن جاز لنا التعبير، نحن مضطرون لتقبل حقيقة أن الحياة ليست وردية، أو أن نختفى داخل مرآة كما فعلت كاميليا.
-قبل أن تبدأى كتابة الرواية، هل كان فى ذهنك كتابة رواية عن فكرة التماثل أو التشابهات، هل الرواية تريد أن تقول أن الحياة تعيد نفسها خاصة بين الشخصيتين الرئيسيتين؟
أعتقد ذلك، كنت أفكر أن كل قصة لها أوجه مختلفة، وأن الحكايات تُعاد بطريقة أو بأخرى، كنت أيضاً أحاول تحدى الزمن، أو مقاومة فكرة أنه غير قابل للتغيير، فكاميليا «العمة» تضيّع حياتها وتفقد كل شىء بقرارات غير محسوبة، أو باستسلام لما يحدث من حولها، لكن لأنى رفضت الاستسلام عند هذا الحد، انتابتنى رغبة فى أن تكمل كاميليا الصغيرة الحياة، وأن تصلح أخطاء عمتها. يمكن أن نقول أننى رغبت فى منحى أنا شخصياً بعض الأمل.
-فى رواية الأصوات، يكون أحد المخاوف أن يحدث ملل، هل كان ذلك أحد التحديات التى واجهتك؟ ما أبرز روايات الأصوات التى كانت فى ذهنك أثناء كتابة الرواية؟
بالتأكيد، على الرغم من أننى أميل لروايات الأصوات، لكنْ هناك أمور أساسية يجب وضعها فى الاعتبار عند الكتابة، مثلاً أن لا يحدث ملل كما ذكرت، وأن تكون هناك نقطة واحدة أساسية تجتمع حولها الحكايات، وتحافظ على الإيقاع وتشويق القارئ، لإكمال الرواية ومعرفة القصة من جميع جوانبها، كان علىّ وضع مخططات دقيقة لكل صوت، وأن أكتب القصة من وجهة نظره فى نقاط متتالية، ثم أقارنها ببعضها لضمان عدم التكرار، المهم هو أن يملك الكاتب الحس اللازم بخط سير روايته، وأن ينغمس فى كل حكاية بما يكفى لتتبع خطوطها، ثم المراجعة الدقيقة جداً، وربما النظر بعين الاعتبار وتقبل رأى شخص آخر، ينبهه إلى أى موضع خلل.
كنت أفكر فى «ميرامار» و«أفراح القبة» لنجيب محفوظ، وهما عملان ينطبق عليهما تصنيف رواية أصوات، لكن فى «ميرامار»، يبدأ كل صوت الحكاية من بدايتها «لحظة دخوله البنسيون» ثم ترتيبها الزمنى الثابت مع محطات أساسية، انتهاء بجريمة القتل، ومع كل صوت نكتشف تفاصيل جديدة لم يعشها من سبقه.. إلخ، أما فى «أفراح القبة»، فتبدأ الرواية مع الصوت الأول، من الذروة: «الاعتقاد بأن المسرحية التى كتبها عباس هى القصة الحقيقية لموت تحية» ثم مع كل صوت نكتشف الحقيقة.
-حينما نشعر فى لحظة أن شخصية بالرواية تكره أخرى نفاجأ بأن هذا غير حقيقى وأن هناك خيطاً رفيعاً من المحبة بامتداد الرواية يلضم الجميع. ما رأيك؟
أتفق مع ذلك، والحقيقة أننى كنت مدركة لذلك، أنا مؤمنة أن المشاعر الإنسانية معقدة جداً، ليست بسذاجة التصنيفات الحادة مثل فلان شرير وفلان طيب، أو هذا أكرهه وهذا أحبه، المشاعر تتغير فى اليوم عشرات المرات، ربما أكره شخصاً وأحبه فى نفس الوقت، البشر رماديون ولا وجود للخير والشر بشكل مطلق، يمكننى تفهم الدوافع الإنسانية وتفهم المشاعر السلبية من غيرة وحقد وقسوة وقهر.. إلخ، أنا أيضاً مؤمنة بأن المحبة تسكن جميع القلوب بدرجات متفاوتة، وتظهر فى التصرفات بأشكال مختلفة، كما أننى أريد أو أتمنى أن نتوقف عن إطلاق الأحكام، فالتجارب مختلفة، وما تؤمن أنت به ليس بالضرورة الصواب.
-أحد معالم الرواية هى علاقة الفرد القادم من مدينة صغيرة مثل طنطا بمدينة كبيرة مثل القاهرة، ولكن هذه العلاقة كانت محكومة بنظرة الأشخاص أنفسهم، بينما بدا أحدهم عاجزاً أمام هذه المدينة العملاقة مثل ناصر، تعاملت كاميليا مع المدينة بندية شديدة. هل تتفقين مع هذه الرؤية؟
بالتأكيد، العلاقة بين أهل المدن الصغيرة والمدينة الكبيرة علاقة خاصة معقدة ومتطرفة أيضاً، يمكن أن تجمع بين أعنف درجات الكره والحب فى وقت واحد، لهذا من الطبيعى أن يشعر ناصر- فاقد الثقة فى نفسه وغيرالقادر على التواصل- بالانهزام أمام ثبات وقوة العاصمة، هو لا يملك ما يقدمه لها ولا هى كذلك، ناصر نظر إلى القاهرة من السطح، أعتقد أنها لن تتقبله إلا إذا ذاب داخلها رغم أن هذا ليس صحيحاً، وقد وضع الكثير من الحواجز ليمنح نفسه فرصة الانسحاب إلى مكانه الآمن حيث لا خوض فى التجارب ولا احتياج للشجاعة. أما كاميليا فامتلكت حلماً، كانت تشعر بالكائنات والأشياء، وأدركت أن الحياة لا يمكن فهمها سوى بإلقاء نفسها فيها بلا تردد، ربما يمنح الفن هذه القدرة على التعايش، وهذه القدرة على خوض التجربة دون أن نفقد أنفسنا.
-بينما نتأكد فى كثير من مقاطع الرواية أنها رواية عن قتل الأب إلا أننا نفاجأ بتبدل مشاعر الأبناء تجاه آبائهم لمجرد الابتعاد أو الرحيل، هل تتفقين مع هذه الرؤية؟
بالتأكيد، العلاقة بالأب تثير حيرتى وتؤثر بى، ربما أكثر من الأمومة، الأمومة فطرة قبل كل شىء، الأبوة أكثر زخماً، هى علاقة معقدة، عاطفية وقاسية فى نفس الوقت، الأب رمز الأمان والقهر، سلطته مرعبة وعاطفته لها هيبة، للتوضيح يمكننا أن نقول أن مشهد أب يبكى أقوى تأثيراً من مشهد أم تبكى مثلاً، هذا ما كنت أريد فهمه أو تحليله فى الرواية. العلاقة بين البطلتين وأبويهما كانت طريقتى فى فهم هذه المشاعر المتناقضة، وعلى كل حال، نحن دائماً نشعر بقيمة الأعزاء بعد رحيلهم، ليس لعيب فى الشخصية لكنها طبيعة فى الإنسان، الرحيل يصفّى الخلافات، يمحى القبح، ولا يترك سوى الجمال.
-هل تنطلقين من رؤية تقول أن المرأة مكسورة أو شبه مهانة أو يقع عليها قهر بالغ فى المجتمع، وإذا كانت الإجابة بنعم فهل تنطلقين دائماً فى كتابتك من رؤية نسوية ضيقة؟
لا أنطلق من فكرة محدودة عن قهر المرأة أو انكسارها، لكنى أحب الكتابة عن المرأة وعوالمها وتناقضاتها، وبالتأكيد تأتى معاناتها ضمن ذلك. لأننا لا يمكن أن نكذب على أنفسنا، المرأة بالفعل تعانى من الكثير فى المجتمعات على اختلافها، والكتابة النسوية ليست لها رؤية واحدة أو ضيقة، بالعكس أراها تشمل العالم كله، وأجمل كتابة هى التى تعبر عن الإنسان بشكل عام بلا تصنيفات جندرية. فقط على كل كاتب اختيار ما يناسبه وما يجيد الكتابة والتعبير عنه.
-هل احتاجت منك الرواية إلى البحث فى بعض المهن مثل الصحافة لكتابة شخصية كاميليا ولماذا اخترت مجلة «نصف الدنيا»؟
نعم، بحكم عملى أملك بعض الخبرة فى هذا المجال كما أننى أملك الكثير من الصديقات الصحفيات، لم يكن البحث صعباً لأننى كونت الكثير من الملاحظات على مدى سنين، كنت أكتب من خلال هذه الخبرات والملاحظات. واخترت «نصف الدنيا» لأنى أملك تاريخاً معها، منذ طفولتى اعتدت على رؤية أمى وهى تقرأها، ونحن نملك إلى اليوم مجلدات ضخمة لأعداد المجلة من التسعينيات، وقد قرأت حكايات يعقوب الشارونى للأطفال فى صفحتها الأخيرة فى طفولتى، وقضيت فترة مراهقتى فى قراءة المقال الافتتاحى لسناء البيسى، وأخبار الأميرة ديانا كما لو أنها لا تزال على قيد الحياة، وبالطبع التحقيقات الصحفية والصفحة الثقافية. شعرت أننى أعرف المجلة جيداً، وكان من الطبيعى أن تطمح كاميليا فى العمل بأشهر مجلة نسائية فى التسعينيات.
-هل استطعت أن تعيدى الحياة إلى فترة التسعينيات بهذه الرواية وهل احتاج منك الأمر العودة إلى الأرشيف؟
يبدو أن فترة التسعينيات تسكن فىّ وفى معظم أبناء جيلى، نحن مرتبطون بهذه الحقبة بشكل أو بآخر، ويبدو أنها كانت آخر أيام السعادة بالنسبة لنا، أو يمكن أن نقول الأيام ذات الإيقاع البطىء الهادئ أو الساكن، وقد أحببت تسجيل الإحساس بهذا الإيقاع، ومقارنته بالإيقاع اللاهث اليوم. وكما قلت، أعدت قراءة الكثير من أعداد المجلات فى التسعينيات، بحثت عن أعداد من الجرائد الرسمية فى هذه الفترة، واسترجعت ذكرياتى وإحساسى ببعض الأحداث الكبرى وقتها. خلال البحث قرأت الكثير من التحقيقات عن زلزال 92 مثلاً، رغم أنه لا وجود لهذا الحدث فى الرواية، لكن القراءة عنه ومشاهدة الصور وشكل الناس وطريقة كلامهم وقتها أفادتنى كثيراً.
-كيف خططتِ لكتابة التحول الذى أصاب المجتمع فى انتقاله بين حقبتى التسعينيات والألفية الجديدة؟ التحول فى شكل المعمار والعادات والملابس وطريقة النطق والأجهزة وحتى فى مفردات الحب؟
قررت استخدام الأجهزة بالذات كخط يوضع هذه التغييرات على امتداد الرواية، من «التليفون أبو قرص» وحتى ظهور الهواتف المحمولة والكاميرات الرقمية، وكذلك انتشار مقاهى الإنترنت ثم تحولها إلى محلات لصيانة الهواتف المحمولة، هذه التغييرات جزء من تاريخى، شهدتها وأعرفها جيداً، عندما بحثت فى أرشيفى الشخصى، صورى العائلية، ذكرياتى، تسجيلات الفيديو لأعياد ميلادى وأفراح أفراد عائلتى، جمعت الصورة وباتت الرؤية مكتملة.
الرواية تحتاج إلى مجهود خرافى وتركيز وبحث وتعب، لكنه تعب لذيذ، أحب اللعب مع الكتابة، وأحب كتابة الخطوط الأساسية ثم رؤيتها تتحول لحكاية كبيرة، ثم أحب إجراء التعديلات وتغيير المشاهد وتبديل السطور، وأجمل أيام حياتى تلك التى أقضيها فى كتابة رواية.
-هل تعاطفت مع شخصياتك ومن أكثر شخصية تعاطفت معها ولماذا، وهل التعاطف يفقد الكتابة بعض العمق؟
أتعاطف مع جميع الشخصيات، وأصادقهم طوال فترة كتابتى للرواية، ولا أندهش عندما يأتوننى فى الأحلام، أو أضبط نفسى أتحدث معهم وأنا أسير فى الشارع، هذا ليس جنوناً ولا هو محاولة لإضفاء الشكل الأكليشيهى للكاتب أو الفنان على، لكن يبدو أنه الانغماس أو التقمص، أتحدث مع نفسى بالتأكيد لكنى أحب منح الشخصيات صورة مستقلة، وأحب جداً هذه اللحظة التى يبدأون فيها بالتصرف وحدهم وكأننى لا أوجههم.
تعاطفت مع كاميليا العمة ومع أبيها عاطف، شعرت أنه عاش الحياة من السطح، لم يشبع منها أو يتعمق فيها، هذه مخاوفى أنا، أن لا أتمكن من عيش الحياة التى أتمناها، أن أموت دون أن أشبع منها.
ولا أعتقد أن التعاطف يفقد الكتابة العمق، وعلى العموم عندما يشعر الكاتب أنه تورط عاطفياً بشكل يمنعه من رؤية الشخصية بشكل واضح، عليه أن يضع حاجزاً فوراً، فقط بتغيير نوع الراوى، وهذا ما فعلته فى الأجزاء الخاصة بكاميليا الصغيرة، كتبتها بالراوى العليم لوضع مسافة بينى وبينها.
-هل تعتبر كاميليا العمة والابنة امتداد للشخصيات الحقيقية التى كتبت عنها فى سلسلة مقالات الكاتبات والوحدة؟
كتبت سلسلة الكاتبات والوحدة بعد الانتهاء من الرواية، ربما حدث العكس، ربما كنت لا أزال تحت تأثير الفكرة، والشعور بالوحدة، ما دفعنى للبحث عنها فى بقيّة الكاتبات.
-هل الوحدة أحد أسئلة الكتابة بالنسبة لك؟
أعتقد ذلك، فأنا أشعر بالوحدة طوال الوقت، وربما لا يصدق أحد مشاعرى إذ أننى محاطة بالأحباء دائماً، لكن للوحدة أنواع، وأقساها الوحدة وسط الناس. أعتقد أنها نابعة من داخلى، ربما تنسج الكتابة شرنقة حول الكاتب، تضعه فى شبه عزلة، يقضى حياته فى محاولة التحرر منها أو على الأقل فهمها.
-لغتك سهلة وبعيدة عن البلاغة، هل تعتقدين أن هذه اللغة هى الأنسب لرواية الكتابة عموماً؟
هذه اللغة هى الأنسب بالنسبة لى، لا أستطيع أن أقول الأنسب عموماً، الأذواق تختلف والميول تختلف، من حق كل كاتب أن يعتمد اللغة التى تحلو له، ومن حق القارئ الاختيار.
-تبدو الرواية من السطح واقعية، بينما نلاحظ أنها تنحرف كثيراً عن هذا الواقع إلى مناطق خيالية، هل يعنيك تصنيف الرواية إن كانت واقعية أو فانتازية.. إلخ؟
لا يعنينى ذلك، ربما لا أميل كثيراً للكتابة الفانتازية، لكن هذه ميولى أنا ولا شأن لأحد بها، فقط أحب أن تكون المناطق الخيالية فى روايتى مفسّرة، مثل اختفاء كاميليا فى المرآة مثلاً.
-ما الذى تمثله هذه الرواية بين رواياتك السابقة وما الفارق بين بطلتها كاميليا وبطلات الروايات الأخرى؟
أراها نقطة تحوّل مهمة، أعنى بالنسبة لى، لأننى خلال كتابتها تعلمت الكثير، ولأننى بعد الانتهاء منها قررت استكمال التعلم، وأدركت أهمية التعمق والدراسة والمراجعة والتعديل، وأعتقد أننى نضجت أدبياً خلال كتابة هذه الرواية.
كاميليا مثل بقية بطلات الروايتين السابقتين نملك خيبات وتمر بانكسارات وخيبات، ومثلهن تحاول البدء من جديد ولو عبر استكمال الحياة فى ابنة شقيقها. فى رواية الجدار، تمر البطلة «حياة» بتجربة تغيّر حياتها، وتجعلها أكثر حساسية بالنسبة للعالم، تشعر أنها مذنبة مما يجعلها تحمل ذنب كل الذين يعانون فى العالم، وتعاقب نفسها بالانغماس فى القصص المأساوية، وتضع حاجزاً بينها وبين الحياة، ولا تتعافى إلا بالحب الحقيقى الذى يقبلها على ما هى عليه. وفى رواية «بنات الباشا» تعانى البطلات العشر من مشاكل يومية تقابلها جميع النساء، وفى حين أننا جميعاً نتمنى لو يخلصنا أحد من أحزاننا دون تدخل منا، يكتشفن أن الحزن أساسى لمساعدتهن على التقدم للأمام، والإحساس بطعم الحياة، واتخاذ موقف وتغيير مصير.
كاميليا أيضاً تسير فى طريقها وتخوض تجربتها، تنكسر وتفشل وتختفى، لكنها تبدو وكأنها تعيد المحاولة فى ابنة شقيقها، التى تمنحنا الأمل فى القدرة على التغيّر والمقاومة.
-لماذا يبدو الرجل أنه على هامش الحياة بالنسبة للمرأة فى هذه الأعمال؟
لا يمكن أن نقول أنه «على الهامش» أحب أن أفكر فى الرجل فى رواياتى على أنه مركز الدائرة، تدور من حوله الحكايات، هكذا كان فى رواية «بنات الباشا» مثلاً، مالك الكوافير كان له حضور قوى فى كل حكاية ولدى كل شخصية نسائية، ربما لا أهتم بحياته هو لكن بأثره أو انعكاسه على النساء. فى رواية «الجدار» كان للشخصيات الرجالية كلها تأثير كبير على البطلة، كل منهم شكل محطة مهمة غيّرتها، وفى «أطياف كاميليا» يتساوى حضور الرجل مع المرأة، يتساوى التعاطف معهم جميعاً، والتماس الأعذار لكل منهم.
-هل أثرت الغربة عليك، هل صالحتك مع فكرة الوحدة؟
لم أفهم الوحدة إلا فى الغربة، قبل ذلك كنت أشعر بها دون أن أتمكن من تعريفها أو تحديدها، بعد العيش فى مدينة بعيدة جداً، هى إنتشن، مدينة لا أتحدث لغتها حتى، لا أعرف عاداتها ولا أحب طعامها، ولا أستطيع المشى فى شوارعها ولا حتى استخدام الهواتف، أو معرفة العملات النقدية، تمكنت من وضع إطار لها دون أن أفهمها تماماً.
كنا نعيش فى عصر «التواصل الاجتماعى» لكن كل شىء كان يبدو جامداً، لا زلت أسترجع مشاهد تبدو وكأنها مقطوعة من فيلم ما، مثلاً سيرى فى شارع منحدر للأسفل، تصطف أشجار الكرز فيه على الجانبين، لكنه فارغ جداً، لا صوت لسيارات عابرة، ولا خطوات بشر، لا امرأة تدفع عربة طفل ولا شخص يتحدث فى الهاتف، فقط شارع منحدر لا أرى نهايته. أتذكر المشهد وأكاد أسمع صوت أنفاسى ودقات قلبى المضطربة وقتها، يبدو أننى كنت خائفة، فى مدينة ترتفع فيها درجات الأمان والرفاهية حد الاكتمال كنت خائفة جداً، كنت أفتقد شيئاً لا أعرفه.
بدا وكأننى أعيش وحدى فى مدينة يبلغ تعداد سكانها ما يقارب مليونى نسمة، أسير فى الشارع وكأنه لا بشر حولى، انعزلت تماماً داخل غلاف شفاف يحجب عنى الصوت والمشاعر، يومها عدت إلى البيت وكتبت، كلمات كثيرة ربما تبدو بلا معنى، لكنها أنقذتنى، والآن أقول بصدق إنه لولا الكتابة لما تمكنت من المواصلة.
والمواصلة لا تعنى أننى تخلصت من الحجر الثقيل الذى أشعر به على صدرى طوال الوقت، لكن ربما تأقلمت على وجوده، حتى بعد انتقالى إلى مدينة أخرى أقرب وأكثر حميمية هى دبى، ولا حتى بالعودة بعد ذلك إلى مصر.
نعم الكتابة تُشفى لكنها -كما اكتشفت بعد ذلك- تزيد من العزلة. البعض يعتقد أن الوحدة ليس لها أى فائدة، لكننى أظن بأنها لا بد وأن تُنتِج شيئًا، ربما جملة أو فكرة أو تعبيراً، وفى حالتى هى تعيننى على تحمل الكتابة، أو الإقبال عليها والانغماس فيها، لا أستطيع التحديد، لكن يمكن أن أقول بأن الكتابة هى من صالحتنى على الوحدة وليست الغربة.
-من هم أساتذتك؟ وما الذى تمثله بالنسبة لك ورشة طنطا؟
عادل عصمت هو أستاذى، أعتقد أننى قبله كنت كاتبة بالفطرة، أحب الكتابة وأكتب على فترات متباعدة. لكن بعد معرفتى به وبعد الانتظام فى التعلم فى ورشة طنطا، يمكن أن أقول إننى أصبحت كاتبة بالاختيار، أنا أريد أن أكون كاتبة، وأريد الاستمرار فى الكتابة، لا أستطيع تخيّل حياتى بدونها.
تعلمت حب التعلم نفسه فى الورشة، وانطلقت منها إلى آفاق أرحب، لا أفوّت فرصة تعلم، أصبحت أكثر قدرة على تقبل النقد، أسمع كل الآراء وأستخلص منها ما يعجبنى، وعندما لا أتفق فى الرأى مع أحدهم، أفكر فى كلامه جيداً وأتقبله على اختلافه. الكتابة مثل أى شىء، مثل الكائنات الحية والعلاقات العاطفية، يجب أن يتم الاعتناء بها، ورعايتها لتكبر وتنضج داخل الكاتب.
-هل تشبه علاقتك بالقاهرة علاقة كاميليا العمة أم الفتاة؟
مزيج من الاثنتين، أحبها وأخاف منها، عرفت فيها السعادة وخيبة الأمل، درست فيها وعرفت طريقى فيها، وأملك نحوها مشاعر معقدة، نفس المشاعر التى تجتاحنى عند التفكير فى علاقة الأبوة.
-هناك أدباء يعيشون بعيدا عن العاصمة ومع ذلك حصلوا على الشهرة التى يحصل كتاب القاهرة هل من الممكن أن يكون الابتعاد ميزة إضافية؟
بالنسبة لى كان الابتعاد ميزة إضافية، أحب القاهرة لكنى لا أستطيع العيش فيها، أفضّل المدن الصغيرة الهادئة، التى تمنحنى الوقت الكافى للقراءة والكتابة.
-من هم الأقرب إليك من جيلك؟ ولماذا؟
الكثيرون، أنا محظوظة بأننى من هذا الجيل، هناك بالتأكيد أسماء بعينها هى الأقرب لى سواء على المستويين الشخصى والأدبى، مثل أحمد القرملاوى، علاء فرغلى، نهلة كرم، رامى حمدى ونشوى صلاح. أشعر أن كتاباتهم قريبة إلى ذوقى، أتعلم منها وأستمتع بها، أيضاً نحن متفقون فى بعض الأفكار والميول، أحب النقاش معهم، أدعمهم ويدعموننى، هم بالنسبة لى دائرة ثقة أخرى.
-ما تقييمك لمنجز الكاتبات المصريات وما طموحك من الكتابة عموماً؟
أعتقد أن كتابة الكاتبات المصريات مزدهرة هذه الفترة بالذات، قرأت العديد من الأعمال المهمة تتنوع بين الرواية والقصص والنصوص، واستمتعت بكل تجربة، كنت أمزح مع الكتّاب بجملة الكاتبات قادمات، لكنها جملة حقيقية جداً. أما طموحى من الكتابة فأن أظل أكتب، أتمنى أن أموت وأنا أكتب.