فرح أبي
خلال السنوات الماضية، تصادف أن توقفت مريم وأباها عند كل القرى المجاورة لعزبة جدها “عبد ربه”. ولكن أبدا لم يمرا بقرية “كفر الولجا” وهما في طريقهما لزيارة الجد كل شهر. لم تهتم بسؤال أبيها عن سبب تجنبهما هذه القرية. بدا لها الأمر مجرد صدفة تحولت لعادة. ولكن عندما توقف الأب عند هذه القرية في زيارة الشهر الماضي، استغربت، وكأن هناك اتفاقا ضمنيا تم كسره.
من داخل سيارتهما، أشارت بإصبعها نحو سطح أحد بيوت “كفر الولجا”: “بابا! بص!”.
كان هناك ما يقرب من خمسة كلاب تقف هناك، جامدة، شاخصة بنظرها لأسفل، بعيون بارزة من محاجرها. تنظر إليهما.
لم يكترث الأب كثيرا، قال بلا مبالاة: “هم بيحنطوا الكلاب هنا ولا إيه؟ يمكن تماثيل يا مريم..”. توقفا بعدها بالسيارة في فسحة من الأرض أمام عدة بيوت متجاورة؛ كعادة الأب في أي قرية يتوقف عندها، أراد أن يسأل عن المنتجات الريفية التي يبيعونها. وما إن نزلا من السيارة، حتى تحركت الكلاب من جمودها وقفزت من فوق البيوت. اكتشفا فجأة أنها لم تكن كلابا فحسب. كانت كلابا ودببة وتماسيح وطيورا جارحة تجتمع في قطيع واحد، وتقترب منّهما. صرخت مريم، ومدت يدها لتمسك بذراع أبيها، ولكنها لم تجده.
نادى عليها من فوق أحد البيوت.. “متخافيش!”
ذهلت مريم.. “متى صعد أبي فوق البيت؟”
“رشيهم بالماية. رشيهم” صرخ الأب، قبل أن تنكتم صرخته..
أمسكت خرطوما مرميا على الأرض يروي حديقة ما، وصوبته ناحية الحيوانات المهاجمة، فانكمشوا وتراجعوا للخلف. ظلت تنادي على أبيها بفزع عميق، وهي توجه خرطوم الماء في كل اتجاه أمامها.
اختفى الأب من فوق المنزل.
الحيوانات لا تريد الرحيل، فقط الماء يفصلهم عنها. وفي لحظة ما، دون تخطيط، رمت الخرطوم، وجرت.
ظلت تركض من الحيوانات بين البيوت على الأرض الطينية غير الممهدة، وتبحث عن أبيها، حتى انتبهت لأرجل بشرية تلاحقها. التفتت، فوجدتهم خمسة رجال بعيون بارزة من محاجرها يجرون وراءها. زاد الرعب من سرعتها، فاكتشفت أن الأرض تتحرك تحت قدميها بشكل عكسي. قدمتها لهم الأرض دون مجهود منهم. أمسكوها، واقتادوها نحو مسجد للسيدات، وصراخها يدوّي بين البيوت. لم يلتفت إليها أحدٌ من أهل القرية كأنها طيفٌ يمر، أو ريحٌ عابرة. سلموها داخل المسجد لثلاث شابات، وأغلقوا عليها الباب.
كن مجتمعات في خشوع.. لمحتهن مريم يحضرن حبالا وسكاكين يخفينها تحت جلابيبهن الداكنة. بدا أن طقسا مقدسا يُعَد.. رمى ذلك الرعب في قلبها، فعزمت على الفرار مرة أخرى..
كانت عيونهن بارزة أيضا.
“أبويا فين؟” قالتها والحروف ترتج في فمها، وهي تتراجع نحو الباب لتستغل أول فرصة للهروب.
“الرجالة قتلوه”
تجمدت في مكانها وصرخت..
“مسكوا والدك، ربطوا إيديه ورجليه. شالوه لحد صندوق الميتين.. ورا شجر الجازورين، بعدين خنقوه بالحبل. الصندوق حطوا فيه لمض نيون زرقا.. كان شكله جميل الحقيقة. بسم الله ما شاء الله” .
لا يبدو أن مريم قد عرفت معنى الفزع في حياتها سوى في تلك اللحظة. صرخت حتى كادت عيناها تبرز كعيونهم، وضربت بقدميها ويديها في كل اتجاه لتبعدهنّ عنها وتهرب، ولكن واحدة منهن أمسكت ذراعها وأردتها على الأرض فورا.
أجبرنها على التمدد على الأرض تماما وسط عويلها الحاد، ثم أخرجت واحدة منهن شبشبا أحمر، وطفقت تنزع عنها حذاءها وتلبسها الشبشب، ثم بدأن بخلع البنطلون عنها. كان هذا آخر ما توقعت. سألتهن عما يفعلن وقد استبدلت الصدمة مكان الفزع. أجبن والابتسامة تمرح على وجوههن: “هنلبسك شبشب أحمر ونسيبك بنفس قميصك البرتقالي، ونقلعك بقية هدومك. كده شكلك هيبقى مناسب جدا في صندوق الميتين.. ورا شجر الجازورين”.
خارت قواها تماما عندما عرفت أنها ستلحق بأبيها. “ليه تقتلونا؟ .. ليه؟!” قالت والخوف والدموع يحفران على وجهها كسكين متعرج..
كان هذا السؤال آخر ما توقعن. لمعت أعينهن البارزة، ونضرت وجوههن الشابة المنهمكة في العمل. تركن الحبال التي قيدن أطرافها بها، وربّعن أرجلهن، متحلقات حولها، وهي ممدة أمامهمن، نصف عارية، بشبشب أحمر، وقميص برتقالي. بدأن كلهن في الحكي في نفس الوقت.. لا تطغى إحداهن على الأخرى. لا تتداخل الكلمات ولا الحروف.. نشيد متناغم تتضفر فيه الكلمات برشاقة ونغم..
“منذ زمن بعيد.. بعيد جدا. كانت الجدات من كل قرية حول النيل يجتمعن كل يوم بعد العصر. بعدما تمتلئ البطون بالطعام، والسلات بالغلال، والأرض بالماء، كانت الحكايات تملأ أرواحهن المعمرة. يتحلقن عند الحدود بين قراهن المختلفة، لتحكي كل واحدة منهن حكاية. الحكاية تعطي بذرة. البذرة تزرع في الأرض، لتكون فيما بعد شجرة جازورين. هي شجرة عالية، دائمة الخضرة، ذات حفيف مميز ومتصل. زرعنها لتتغنى بالحكايات للرضع، بعد موت الجدات.
الجدات من كل القرى حكين الحكايات. الجدات من القرى الشرقية حكين عن الفاتنة التي قضت على رجالهن الأشداء بنداء منها، والجدات من القرى الغربية حكين عن القبيحة ذات الأظافر الطويلة والشعر المخيف التي تسكن أعماق الترع المظلمة، وأخريات حكين عن صبية يأكلون نشارة الخشب ويتحولون لسياج خشبي طويل. السياج يأكل الفتيات اللعوبات ليلا، ويتجشأ بعد أكلهن مُصدِرا صوتا، يظنه الأهالي صوت ضفادع الترع.
الجميع حكى، وزرع، وكبر الجازورين مع السنين ليحكي هو بدوره وينقل الحكايات عبر الهواء لكل البقاع. الجميع، ماعدا جدات قريتنا. لم يكن يجدن ما يحكينه عصر كل يوم. لم يكن هناك شيء يحدث في بلدتنا. لا فتيات جميلات أو قبيحات تغرق رجالنا، ولا أسيجة تأكل فتياتنا. لا قتل، لا سرقات، لا لغط، لا شيء.
كنا أسعد القرى. ولم نتحمل ذلك.
بدأت الأقاويل تكثر أن أطفالنا يولدون ملعونين بلعنة فقدان الحكايا. هجر الخُطّاب من القرى الأخرى فتياتنا.. لم يكنَّ يُجِدنَ قصّ الحكايا لأزواجهن عند عودتهم من العمل، كعادة كل النساء. وأطفالنا طردوا من حلقات اللعب التي لا تخلو من حكايات عن مغامرات الليلة الماضية.
وقبل أن يتم عزل أهل قريتنا تماما من كل الدوائر، قررت كبرى جدات قريتنا أن تصنع حكايتها بنفسها. قررت أن تحكي، رغما عن طبيعة قريتنا الهادئة المستقرة.
في اليوم التالي، اجتمعت جدات القرى المجاورة في حلقة كعادتهنّ، حيث يزرعن الجازورين، ولكنهن قررن تضييق الحلقة هذه المرة، لإجبار جدات قريتنا على التراجع، بعدما صرن عبئا على الحكايات والشجر.
في هذا اليوم بالتحديد، بُهِتت الجدات من كل القرى عندما وجدن صندوقا للموتى في موضع جلوسهن اليومي. به رجل غريب ميت، مزرق الوجه، تظهر آثار الشنق على رقبته. فزعن ولم يختلفن على الهروب؛ خوفا من احتمالية وجود القاتل في الأرجاء.
عندها، ظهرت جدات قريتنا. وقفن على رأس الصندوق. منتصبات القامة، محكمات الطرح فوق رؤوسهن. اليوم، واليوم فقط، عندهن حكاية.
في هذا اليوم، زرعت لنا شجرة جازورين، صارت فيما بعد أطولهم، وأعلاهم حفيفا، وأغزرهم فروعا. في هذا اليوم، حكت الجدات قصة مقتل رجل غريب في قريتهن شنقا. استولت القصة على انتباه الجميع. تناقلوها، وقدموا من بعدها صكوك الاعتراف والطاعة لجداتنا. صار أهل قريتنا من بعدها أسياد حلقات الحكايا. وصارت تلك الحكاية هي حكاية الاستفتاح في كل كتب القصص التي تؤرخ لمجتمعات القرى المجاورة للنيل..
ومن يومها ونحن نتوارث ما فعلته جداتنا الأوليات. نتوارث حرفة صناعة الحكايات. ونضيف للقتْلة تفاصيلها المميزة، لنضمن ولادة قصة مثيرة تتناقلها الألسن والأشجار. ولكن… “.
لم ترها الفتيات وهي تفك قيد قدميها، وهن منخرطات في الإفصاح عن قصة أول غريب قتلوه ليصنعوا من لحمه حكاية. اعتدلت من رقدتها على الأرض، ارتدت ملابسها، واتجهت نحو الباب والترقب والرعب يشدان قدميها للأرض..
واقفةً على باب المسجد، تراقب الطريق، والقرية ترتج أمام عينيّها بقوة مع ضربات قلبها، رأت مريم الحكاية المنسابة من شفاه الفتيات وهي تغشى كل مفردات القرية.. أصوات الباعة في الأسواق خفتت وتنغمت. الحيوانات بدت لوهلة أكثر وداعة. وانقطع بكاء الرضع الحاد. شيء ما يحدث في هذه القرية.
“ولكن…” ما لم تسمعه مريم هو أن الحكايات كانت قد انقطعت عن التردد على ألسنة أهل القرية منذ فترة طويلة.. عاودتهم لعنة فقدان الحكايا، بشراسة، تماما كما فعلت مع جدودهم في الماضي. تراكمت الجثث حتى سدت مجاري الحكايات المتفرعة بين الغيطان، فجفت الأراضي والأرواح.. تحولوا لقريةٍ ذات عيون بارزة من محاجرها، تقتل الغرباء لصنع حكاية لا تحكى..
لصنع حكاية لا تحكى.
واليوم، تحررت حكاية من شفاه الفتيات دون قصد، فانقلبت الموازين. شيء ما تغير في تكوينهم.. شعرت الفتيات بلذة الحكي الأولى التي خبرتها جداتهن منذ مئات السنين، وانغمسن في حالة من الخدر فصلتهن عما حولهن تماما. كنّ يبتسمن، وكأنهن يستقبلن حبيبا غائبا.
تلفتت مريم حولها والرعب مازال يحيط بها، وهمّت بالهرب من القرية، فرأتها الحيوانات، وشعرت بها الأرض، ولكن أحدا منهم لم يتحرك. نظرت لعيون الرجال فوجدتها في أماكنها، ساكنة. تركوها ترحل.. كانوا في أمسّ الحاجة لولادة حكاية جديدة، قبل أن تتحول شهيتهم إلى لحم أجسادهم..
ولأول مرة منذ عرفت شفاههم ملمس الحكايا.. لن تكون حكاياتهم القادمة عن غريب قتلوه بطريقة غريبة، بل عن أول غريب تركوه يخرج حيا من قريتهم منذ مئات السنين. وربما، ستنمو شجرة جازورين في مكان بعيد عنهم الآن، لتحكي لأهل المدن البعيدة، حيث تسكن مريم، عن قرية “كفر الولجا” الوادعة.. تلك التي لم يكن يحدث فيها شيء على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة وصحفية مصرية .. والقصة فائزة بالمركزالثالث في مسابقة معهد جوته (قصص القاهرة القصيرة 2019)