محسن حنيص
يصعب علي تسمية (سند الطابو ) الرواية الاولى، فقد كتبتها ثلاث مرات، خلال خمس سنوات. ليس المقصود هنا التنقيح اللغوي، بل حدوث تغييرت جوهرية تجعل النسخ الثلاث عبارة عن اطوار جنينية لمولود واحد. يمكن ان اصف ماجرى بعملية البحث عن (النص الحلم ). وهو اصطلاح اقصد به النص الذروة، الذي تتوقف عنده الكتابة. انه نص موجود في المخ، ولكنه يحتاج الى شروط خاصة لكي يتحقق. لايعني ذلك ان سند الطابو هو نص افلاطوني في تكامله، بل هو تمرين قاس وعملية اقتراب حثيثة من ذلك الافق. في الكتابة الاولى غالبا ماتكون الورقة البيضاء هي الهم. من هنا تبدأ الكتابة الفورية وعمليات الاملاء السريع لغرض رفع المعنويات والشعور بالتقدم. لكن هذه العملية تحمل في طياتها عواقب سلبية، حيث تتكدس افكار وسطور تحجب النص الحلم وتؤخر ظهوره. وبالنسبة لي، وبعد مرور حقبة على الكتابة، فقد وجدت ان اغلب ماكتبته اصلا ينتمي الى النص الحلم. ما زلت احتفظ بالوثائق. في البدء كتبت رواية من 150 الف كلمة، لكن بعد خمس سنوات لم يبق منها سوى 53 الف كلمة. اي ان ثلثي ما كتبت كان قشرة تغطي النص الحلم. عملية التكديس لها جوانب سلبية اخرى، حيث تتكدس اكوام من الخيارات والاخطاء التي يتوجب التخلص منها، وبذلك تكون الكتابة هي عملية اقتراب من نص موجود في المخ، لكنه مغلف مثل ثمرة الارض شوكي. فكلما ازحنا طبقة كلما اقتربنا من اللب. احيانا يبدو الاقتراب من النص الحلم مثل الولوج الى قصر جمع اثاثه في غرفة واحدة دون نظام محدد. تفاصيل الرواية موجودة في الغرفة لكنها مبعثرة وفي غير اماكنها، ودور الكاتب هو اعادة كل شيء الى مكانه. يحتاج الكاتب الى قانون السبببية مثلما يحتاج الى الاعتباط. لاتوجد نظرية واضحة لتحديد اماكن المشاهد او الفصول. حين دخلت غرفة النص الحلم وجدت كل شيء مبعثرا. وكانت هناك صناديق مغلقة تحتاج الى فتح. المفتاح الاول للدخول الى سند الطابو بدأ من صورة عتيقة معشعشة في المخ منذ اكثر من اربعين عاما. صورة لموظف في الطابو لايملك بيتا رسميا ( سند الطابو ). يخرج عن نطاق مهنته ويبدأ في التوغل في الاملاك الشاسعة ومتابعة جذورها وصولا الى اصل الملكية ومقومات شرعيتها. الصورة تحمل في داخلها بذور التفجر. لكنها لم تكن هي الافضل من وجهة نظر النص الحلم، فبعد عملية غربلة بسيطة تم استبدال الموظف بابنه. التمرد سوف يقوم به الابن وليس الاب. وبعد بضعة خطوات يحدث الانفجار الاول في النص. يفيض نهر دجلة ويغرق دائرة الطابو، وتبدأ عملية انقاذ عبثية للسجلات حيث يصعد الماء اليها ويذيب حبرها، تاركا اياها بيضاء، يمسح الملكية وتعود الارض عذراء بلا ملاكين. امام هذا الانفجار الطبيعي تتصاعد حمى التمرد لدى الابن فيقوم بعملية تزوير لسجل الطابو، ينقل فيه الملكية الى الهامشيين، ويحشر السجل المزور بين السجلات الصحيحة. يتوفى الاب ويكبر الابن ويصبح موظفا بنفس مواصفات الاب، اي لايملك سند طابو فيكتب خطابا لوزير الاسكان، يلتمس فيه تخصيص قطعة ارض مساحتها ( 150 مترا مربعا ). الخمرة التي يحتسيها اثناء الكتابة تلعب دورا في انسيابية قلمه، وتخرجه عن السياق الرسمي. بعد مدة يتم القاء القبض عليه، ويودع زنزانة انفرادية مساحتها ( 3 ) متر مربع . من هنا يبدأ سرد حكاية طولها ( 53 ) الف كلمة. هناك خط داخلي في الرواية يشير اليه العنوان الفرعي ( رحلة الى الصفر الوجودي). هذا الخط معقد نسبيا، ويحتاج الى مساحة اوسع. سوف اتركه الى احد النقاد لايضاحه بشكل واف. وهو على وشك ان ينتهي ويقوم بنشره.
من المستحسن للكاتب ان لا ينشر اول فكرة تخطر بباله. هذا الاستعجال فيه قدر من المراهقة والمخاطرة بتأخر الوصول الى النص الحلم او حتى ضياعه، حيث يعمل الاستعجال على تكديس كتب لاتحوي سوى القشور، ذلك ان اول مايخطر في البال هو القشرة الخارجية للنص الحلم. لابد ان يستغل الكاتب عنصر الوقت والصبر لكي يزيح تلك القشور ويصل الى اللب. النص الحلم لايمنح نفسه بسهولة، بل يتطلب نوعا من الاستغراق العميق، والكتابة دون سقف زمني. الكتابة الفورية عملية لاتخص الابداع، انها معنية بالكم وليس النوع. النص الحلم يتشكل داخل المخ، وليس الورقة. او لنقل انه يتشكل في المخ اولا، ثم يتم البحث عنه لتصريفه على الورقة. شخصيا اعتقد اننا نحمل في ادمغتنا كل النصوص التي سنكتبها لاحقا. هناك من يجلس وراء الحاسوب ويقول لنفسه كل ستة اشهر سوف اكتب رواية. هذه الظواهر لا تعنيني. وانصح الاخوة والاخوات ان لا يلتفتوا اليها.
في احد الليالي اخذتني الخمرة بعيدا. عثرت في قعر الكأس على هذه العبارة :
(نحن صغار جدا جدا بالنسبة للكون، ولكن عقلنا اكبر منه، اذ يمكننا احتواءه في فكرة، او معادلة رياضية ، او ربما رواية عميقة ).
شخصيا اعتقد ان الكاتب صنفان: ذاتي ونوعي، الاول يريد ان يقول (انا هنا)، اما الآخر فيريد ان يتجاوز الانا نحو اختراع رؤيا جديدة. ما يشغل الكاتب النوعي هو زعزعة الاستقرار الوجودي والكشف عن احتمالات اخرى فيه. في الغالب تبتدأ الكتابة بالنوع الاول ( الذاتي)، حيث يكون الكاتب متعطش للقول: انظروا الي، انا هنا، لكنه بمرورالوقت يتخلص من الانا ويكتب نصوصا تشبه الاختراعات.
(سند الطابو) في نسختها الاولى كانت تحوي الكثير من الانا، لكنها بمرور السنوات راحت تنزاح نحو فكرة الاختراع، وزرع ارض الرواية بدرنات غير مألوفة، ولم يبق من الانا سوى الاداة الوظيفية. دخل النص تدريجيا في فضاء اوسع، وصار همي هو ملاحقة اطروحة الصفر الوجودي، وهي اشكالية فلسفية مركزية في الرواية. تعرضت فكرة الشر للازاحة ايضا، فلم يعد هناك مجرمين، بل ضحايا فقط. حتى الجلادين في الرواية لاتوجد مؤشرات لادانتهم. ثم تمت عملية انزياح لفحوى العذاب الشنيع الذي تعرض له بطل الرواية: لنستمع الى المقطع التالي الذي يرينا البطل داخل الزنزانة الانفرادية وهو يتساءل عن اسباب وجوده هنا، وتعرضه لكل هذه الاهوال، يأتيه الجواب من عالم الغيب:
(هل تريد حقا ان تعرف لماذا انت موجود هنا، في هذا الحيز الضيق والمعبأ بالاهوال؟
الجواب: لأنك تحمل اسئلة هامة. كل الموجودين هنا مثلك. ماهذه الجدران الكونكريتية الا ديكور للتمويه، انه المسرح الافضل لطرح الاسئلة الكبرى، بعد تسطح العالم الخارجي، وفقدانه العمق اللازم لمثل هذه التساؤلات. الله عليم بعطشك الى المعرفة، فأرسلك الى منابعها الصافية. المعرفة التي تخرج من هذا المكان تكون خالية من الشوائب، وتمثل القعر الاخير في الوجود. قيمتها انها ليست نقلية. واذا اتيح لك ان تخرج وانت مشبع بها، فسوف تعيش لذة الوجود القصوى. المعرفة الحقة هي تلك الخالية من الألم والندم، وهي الوجه الآخر للتلاشي، هي التماس بالعدم، والشعور بالتفوق عبر التشبث بخيار الانطفاء والمغادرة والانعتاق، وازالة الجيوب من الثياب، والتخلص من ركام التفاصيل اليومية، والاستعداد الدائم للأحتفال بالفشل، وعشق الخيبة، حين لايكون هناك اي فرق في أن تكون او لاتكون ).
………
هولندا- 2019