مدن تعتاش على الموتى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 1
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مهند الكوفي

قرر رحيم نسيان الرحمة العالقة باسمهِ، عندما إكتشف إنه غير قادر على الكتابة، حيث كان هاجسه الوحيد خيبة الأمل التي لازمته. ماذا لو علِم  أصدقائي الكتاب، وكيف تكون ردود أفعالهم تجاه هذه الانتكاسة؟ وكيف سيفكرون؟ ربما يتهموني بالسرقات الأدبية. لماذا لا استطيع الكتابة؟ هل للكتابة تاريخ إنتهاء؟ هل نفدت الكلمات في رأسي؟

هل أُهمل كالمرأة العاقر؟

لا استطيع التفكير، أريد أن أكتب، آه كيف يمكنني العيش هكذا؟

رحيم عبد الغفور نايف، مواليد بغداد 1945، يعيش في حي التأميم، منطقة البياع، جنوب غرب بغداد، أطراف الكرخ، وهي مدينة تجارية سميت بهذا الاسم نسبة لمالكها سابقًا الحاج علي البياع، تأسست هذه المدينة عام 1963. يسكن وزوجته إقبال في بيت صغير بناه والده، هدية زواجه لبنت عمه. ولمناسبة مولودهما الوحيد عدنان. يعد بيته من البيوت التراثية في حي التأميم وهو من أوائل البيوت التي بنيت في ستينيات القرن الماضي.

لم يكمل رحيم دراسته، لكنه حضر في جامع علي البياع مع والده وراح يتعلم أصول الدين وحفظ القرآن، والقصائد الخالدات من الأدب، تمرس مع أولاد المنطقة على حفظ القصائد العربية، مكنته من تعلم اللغة. عندما كبر رحيم كتب الشعر والقصة والمقالات ونشر في الصحف العراقية في وقت مبكر.

في ظل الظروف المزرية التي مر بها العراق في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث التنافس على السلطة، وظهور الحزب الشيوعي، كذلك ظهور الأحزاب الإسلامية على إثر انتشار الأفكار الشيوعية. أخذ الوضع يزداد سوءًا. بعدما تسلم حزب البعث السلطة في العراق كانت هذه التغييرات والتوجهات قد أعطت الريادة لرحيم وعدد من الكتاب العراقيين لتأليف دواوينهم الشعرية ومجموعاتهم القصصية وأعمالهم الأدبية الأخرى.

خرج رحيم من بيته، في وقتٍ أخذت فيه الطيور تمشي على الأرض، متخذة من السيارات المحروقة وفوهات المدافع والدبابات المعطلة والتوابيت المتراكمة في الشوارع أَعشَاشًا لها، متخلية عن أجنحتها التي تعطلت عن العمل في سماء بغداد آنذاك؛ لم تمنعه عائلته والانفجارات عن الخروج. في يده اليمنى مذكرة، وعشرة أقلام في جيبه، عسى أن يتأثر بالمشاهد الحية في الأحياء، وتعمل مخيلته الشعرية بشكلِ جيد. تذكر عبارة كتبها سابقًا، فيها دعوة لكل من يعشق أفلام الأكشن: إذا أردت أن تشاهد الموتى بصنوفهم والانفجارات والقتل والتعذيب وصرخات النساء ودموع الرجال وعري الأطفال والجوع والسرقات النهارية وحزن البيوت وظلام الأزقة وحفر القبور، ما عليك سوى ترقب الأحداث من العراق!

يجوب رحيم الطرقات وزخات المطر والرصاص يتسابقان للسقوط أولًا. كان يرتدي ملابس شتائية ويلف وجهه بشماغ احمر، وحذائه التي كان الماء يملئها تعيق حركته. سمع أحدهم يناديه “القناص. القناص”.

انبطح على الأرض، زحف إلى إحدى المِحَال حتى دخل وهو متعب ويرتجف، لكنه لم يفكر مطلقًا بالتراجع. مدَ رجليه، اتكأ على الجدار، استوعب المكان، أرعبه منظر الكتابات الجدارية؛ كانت باللون الأحمر “كلا كلا أمريكا”. تفقد الكتابات وعلم انه دمٌ  جفّ على مضض.

سمع صوت صراخ يصدر من الخارج. قال لنفسه: تحرك يا رحيم  أمامك موضوع شعري. استمر بالزحف تاركاً المذكرة وأقلامه إلا قلما واحدا، فقد وضعه تحت الشماغ على جهة أذنه اليسرى. وصل إلى المحل المجاور لموقعه صُدم رحيم عندما رأى المشهد، كانت طفلة في السابعة من العمر، تتكئ على الجدار، في يدها علكة وقد اخترقت رصاصة القناص رأسها. توجد هناك عشرة جثث تحتضن إحداها الأخرى، سقط مغمى عليه وسطها. استيقظ ليلًا، الهدوء ورائحة الموتى يملآن المكان، في السقف كانت إنارة صفراء، تُضيء وتطفأ، كأنها لا تريد مشاهدة هذا المنظر، وقف رحيم وهو ينظر بتمعنٍ للجثث، سقط مجددًا، بدأ بالبكاء، صرخ بجزعٍ، أخذ يوقظ الموتى ويناديهم: من منكم يحكي لي قصته أنا شاعر هل تسمعونني؟ أريد أن اكتب ولكن لا أستطيع. أخرج القلم وكتب على كف إحدى الجثث، ماذا يدور في رأسك الآن؟!

بالنسبة لي قالها وهو يبكي:

الصرصار داخل رأسي يعبث بأشيائي، يريد الخروج!

بالقرب من حذائه اليسرى جثة لشابٍ في  العشرينات من عمره بلا رأس، عاري الجسد، تمكنت من معرفة هويته من خلال جهازه التناسلي الذي لم تقطع قُلفته؛

ربما هو أمريكي، بقى يتكلم مع نفسه.

أتعلمون يا مواضيعي: قالها وهو يسند ضهره على الجدار. كلنا أموات، الفرق بيني وبينكم قدرتي على الحركة فقط، أغمض عينيه ونام.

استيقظ صباحًا على أصوت الرصاص، انتبه للجثث رآها مقلوبة، لم يعتد على هذا التصنيف، قال: هل يتقلب الأموات من شدة الوجع، كلٌ حسب إصابته، أم أصابهم الملل؟

تخلص يا رحيم من هذه الأفكار العفنة. قالها متذمرًا، ربما جاءَ أهليهم وقلبوهم واحداً تلو الآخر

 للبحث عن أجساد أولادهم. ولكن، لماذا لم يقلبوا جثتي؟!

خرج مسرعًا، أراد أن ينجو سالمًا من الأفكار التي راودته، أخذ يردد جملة: الحياة هي تشبث شَعر الميتين في أسنان المشط بعد رحيلهم !!

مشى في أزقة المدينة الضحلة، الأموات وأصوات الصراخ والنعي في كل مكان، ما يميز المدينة آنذاك كثرة التوابيت المكومة في الشوارع.

رأى رحيم سيارة نوع بيك آب ينبعث منها ترتيل سورة من القرآن، وسائقها نائماً.

دق رحيم زجاج السيارة: السلام عليكم .

وعليكم السلام، تفضل أخي

لماذا أنت هنا؟

للعمل.

أي عمل وسط هذه المدينة الخربة.

قال السائق: العمل هنا خير من الله.

ماذا تعمل؟

أحمل الجثث، وعملي جارٍ بلا توقف، إلا إذا لا سمح الله وأنتهت الحرب.

فتح عينيه باستغراب وقال بصوتٍ خافت: ربما،  تصنع الحروب الشعراء والمغفلين

لديك جثة  أم ماذا؟ رد السائق بمللٍ.

قال: لا.

أريد أن أذهب إلى البيت ولم أجد سيارة أجرة هنا. هل تأخذني إلى البيت؟

قال السائق: لم اعتد على إيصال الأحياء، فالأموات لا يزعجوني أبدًا،

والسيطرات الخارجية تعرفني جيدًا، ويسموني تكسي الجثث، يجب عليك أن تنام في ذلك التابوت حتى نعبر السيطرة بسلام وإذا قتلوك، أكمل طريقي إلى المقبرة.

تعلمت من الأموات كيف أموت، قالها رحيم وهو يغلق بيده غطاء التابوت.

وصلا إلى البيت، أعطى رحيم للسائق أجرته، وقبل رحيله قال: الله لا يحرمنا من الموتى.

فجاء الإلهام لرحيم، حينما سمع عبارة السائق دخل البيت مسرعًا دونما رؤية عائلته، لم يأكل لم يلبس….. استل قلمه وكتب.

 

مدنٌ تعتاش على الموتى

كل الأعمال متوقفة، ما عدا النجار الذي تحول عمله من صناعة الموبيليات إلى صناعة التوابيت، الخياط الذي فرح جدًا بالحرب عندما تجمعت عليه ديوان المحل وقرر أن يغلقه لولا فضل الحرب، تحول من صانع لبدلات العروس إلى صانع للبدلات العسكرية، سيارة الأجرة تحولت من اللون الأصفر إلى اللون الأسْوَد، وخط عليها “كل نفس ذائقة الموت”، تحول بناؤو  البيوت إلى بنائي القبور، والمطربون إلى مكبرين أمام الجنائز، وتحول مؤجر سماعات الصوت من الأعراس إلى مجالس العزاء، وحول البزاز قماشه إلى اللونين الأسود والأبيض، وحول صاحب حمّام السوق حمامه إلى مغتسل. وتم حفر قبور إضافية قبل معرفة عدد الموتى، وخطت أسماء عشوائية على حجر المرمر لأُناس سيموتون قريبًا، وقُرئت الفاتحة علينا دون أن نشعر.

 

مقالات من نفس القسم