طارق إمام
(1)
تقدم رواية “حسن عبدالموجود” الأولي، “عين القط”، نفسها كرواية كاشفة اجتماعياً لمجموعة من الأنساق معرية علاقاتها، عبر مكان ضيق ــ حجماً، وكذلك على المستوى النفسى هو قرية فى الصعيد، من خلال وجهة نظر “قط”، الطفل الذى تحل روحه فى المساءات بعد نومه فى جسد قط ــ محققة واقعياً الخرافة المنتشرة بالصعيد حين يولد توءم: الناس فى قرى الصعيد يعتقدون أن الأصغر فى التوءم تفارقه روحه ليلاً و تحل بجسد قط.. لهذا سمى الراوى بـ “القط”.
وعبر هذه الحيلة النصية، المستقاة من الميثولوجيا الشعبية للمكان، يتمكن “قط” من التجول فى غرفة القرية المغلقة على أسرارها والاطلاع على كل مفردات عالمها الحقيقي، وغير المعلن، ليكشف تفككها ــ هى التى تبدو متماسكة صلدة ــ ويغور فى جسدها الشائخ فاضحاً عوراتها الأخلاقية والاجتماعية وهشاشتها الإنسانية، لنقف علي: خيانات زوجية.. رغبات سرية محرمة.. اتفاقات على جرائم قتل وترويج مخدرات وتزوير انتخابات.. فى القلب منها شخوص مأفونون بتصورات لا يصدقها سواهم عن أنفسهم.
غير أنى فكرت فى فرضية أخرى أراها أكثر اتساقاً مع بنية العمل نفسه، وهى الفرضية العكسية بالضبط: أن “قط” يدور فى القرية لا ليكشفها ــ بما فى هذا من غيرية مهمومة بنقل ما تعرف لآخرين ــ لكن ليكتشفها، باعتبار فعل الاكتشاف فعلاً ذاتياً، فردياً بالأساس، ومن ثم يعيد اكتشاف ذاته ــ هو ــ الممزقة والمنسحقة فى سياق مشوه مريض من العلاقات.. تتصدره علاقته بأبيه ليس “قط” إذن بوسيط لتعرية القرية، ولكن القرية كلها خلفية للوقوف على صورته أمام نفسه.
أرى عدة أشياء فى النص تدعم هذا التصور، بدءاً بالعنوان “عين القط” الذى يعمقه النص دلالياً، فالعين ترى لكنها لا تغور، تسجل اللحظة سلوكياً لكنها لا تحصرها فى تأويل أخلاقى بعينه أو تحللها نفسياً من الداخل، وهذا ما يفعله قط: إنه ينقل ما يري، غير أنه لا يدينه أخلاقياً مباشرة.. لا يحاول رده للسياقات التى أنتجته أو تسببت فيه ــ كفعل الخيانة الزوجية، الذى يعرفه أطرافه الثلاثة من زوجة وزوج وعشيق، ولكنه يقدمه فقط فى مشهديته دون تفكير فى أسباب وقوعه أو استنتاج لتبعاته، إن “قط” لا يفعل ذلك، فضلاً عن أنه لا يتقدم خطوة لتغييره أو فضحه.. حتى فى أشد اللحظات خطورة بشكل شخصى على المستويين العاطفى والعائلي: حين يكتشف مؤامرة “حناوي” ــ الخفير النظامى لتقل “نورا” القبطية ــ ا لبنت التى يحبها ــ وإلقاء جثتها فى ساقية جده هو بالذات. إنه يظل صامتاً، منتظراً حتى يتلقى النبأ.. وحتى لو اتفقنا أن “قط” لا ينقل ما يرى خوفاً من بطش أبيه الذى لا يصدق خرافة حلوله فى جسد قط.. فإن هذا السبب لا يبدو مبرراً كافياً، ناهيك عن أن “قط” لا يتوانى فى الإتيان بأشياء أخرى كثيرة يعرف رفض أبيه لها، ويتحمل تبعاتها.
يدعم تصورى هذا، فيما أري، من ناحية أخرى تولى “قط” السرد بنفسه، أى إعطائه الحق فى نقل العالم بأكثر الطرق السردية شخصانية، فحين يصبر الراوى هو البطل، والوعى المركزى الذى تتحقق الأحداث عبره، فإنه ينتقى ما يلائم كشفه للحظات معينة.. دالة فى سياق وجوده.. ويصير العالم مرهوناً برؤيته ــ هو ــ له، وطريقته فى تلقيه.
والرواية حافلة بالفعل بفراغات زمنية وانتقالات مفاجئة، وكذلك بفراغات على مستوى الشخوص ــ واقعها النفسى وتاريخها ــ قد لا تبدو مبررة فى سياق آخر.. ولكنها ــ فى النص ــ تترجم قفزات “قط” نفسه ــ وهو كامن بجسد قط ــ وانتقالاته غير المستقرة من مكان لمكان.. وكذلك مشاهدته المبتورة حين يتعرض للطرد أو الضرب حين يراه أحدهم فيهشه ويبعده.. وحيادية “قط” تبدو حيادية “القط” ذاته الذى يتلبسه.. إذ لا يعنيه فى النهاية أبعد مما يري.. وحيث المشاهد كلها تغرق فى درجات اللون الرمادي، لا ألوان، كما يؤكد الراوي/ قط أكثر من مرة ومما يزج أيضاً بالقرية فى خلفية وعى الراوى مصدراً ذاته، تعدد أشخاصها وكثرتهم كـ “أسماء” وخفتهم وشحوبهم بالمقابل كشخصيات درامية مكتملة الأبعاد نفسياً ودرامياً، فباستثناء “الأب” الجاثم فى النص طوال الوقت، و”حناوي”، الوجه الآخر لسلطة الأب لكن على المستوى الاجتماعى للقرية ككل ــ وكلاهما تربطه بـ “قط” علاقة مباشرة ــ أقول باستثناء هاتين الشخصيتين الموظفتين للكشف عن أبعاد “قط”.. تساق الشخصيات فى “فلاشات” وامضة سريعة، وفى مواقف بعينها تعمقها “المفارقة” دون أن يمتد وجودها فى مواقف مختلفة ومحكات متباينة..رغم أنها جميعاً شخصيات ثرية، حافلة بالتناقضات وعامرة بالتفاصيل مثل “الجدة” الغارقة فى فراغها وبدائية أفكارها، “فتحي” دكتور الوحدة الصحية الغائب عن الحياة والغامض.. الذى يمارس شبقه مع المريضات من الحوامل ويهرب من أية حالة أخري، “مصطفي” مدرس الجغرافيا الذى لا يعنيه فى الحياة سوى تلميع حذائه، “خيرى المكوجي” الوحيد فى القرية والذى يسمح لنفسه باستخدام “بشاكير” أهالى القرية بعد كيها، “سعيد المجنون” أخو زوجة جد “قط” الذى ينتحر.. حتى صورة الجد وعلاقته بزوجته الثانية وامرأته الأولى وهو خط قوى درامياً ــ لا نكاد نعرف طبيعتها ولا واقعها ولا الدوافع التى أدت إليها.. وبعد موت “نورا” لا نتعرف كثيراً على واقع محيطها، رغم أنه قدم بشكل مثير: الأخ “إيليا” مدمن العادة السرية والمولع بابتكار طرق جديدة لتحقيقها، الأم المتغنجة التى تسمح لـ “قط” بزيارة “نورا” فى البيت والمكبوتة عاطفياً وجنسياً بما يجعلها تصطنع المواقف للإعلان عن فورتها وأنوثتها، الأب “بطرس” الباهت السلبي.. لا نكاد ــ إلا لماماً ــ نتعرف عليهم كما توقعنا، بعد الحادث.. إذ يغادرون القرية سريعاً مغادرين الرواية نفسها، هذا غير عدد آخر من الشخصيات أقل حضوراً كعالم، وابنة العم: “تحية”، و”أبوريضاوية التايه”، وعواطف، و”سعد الحلاق” و”عبدالسميع” الجزار وغيرها.. يؤكد هذا فيما أري، خاصة مع كثرة الشخصيات نسبة إلى حجم الرواية، ومع المساحات الكبيرة المعطاة بالمقابل لعلاقة “قط” بأبيه، ولصورة هذا الأب، لما أسلفت، فضلاً عن تأكيده لمحورية هذه العلاقة التى تمثل مأزقه الوجودى الحقيقي.
(2)
..بمغادرة روح “قط” لجسده أثناء نومه، وحلولها فى جسد قط، يغادر “قط” سجن جسده وضيق غرفته ومحدودية حركته إلى رحابة الفضاء وعتمته الموحية حيث التقافز والتجول والتلصص.
يوازى هذا الفعل المتحقق رغبة مؤجلة ومرجأة ومكبوتة: هى تخلص “قط” من أسر الأب ومركزيته الوحشية وتسلطه باتجاه تعددية الخبرات والبشر.. خروجه من خانة الأب وحلوله فى قلب العالم. “الحرية” هى الكلمة التى تلخص سلوكية قط وحلمه فى الفكاك.. وهى السبيل الوحيد للتخلص من الصفات التى تسمه إنسانياً ــ وهى نفسها صفات القطط الجوهرية: الخوف ــ التردد والارتباك ــ السلبية التبلد العاطفي، كل هذه الأشياء تسم “قط”. حتى الحزن، ذلك الشعور الإنسانى الغريزي، لا نعثر عليه عنده “..أحاول أن أتبين ذلك التبلد الذى يصيبنى مع رحيل عزيز. لا أشعر بحزن، لا أشعر بأى شيء تقريباً. حينما توفيت جدتى سألنى عابر عرفنى ولم أعرفه ألا أشعر بالحزن؟ ابتسمت وأنا أنفي…”.
ويبدو الأب طوال الوقت مغذياً لهذه الصورة النفسية لـ “قط”. بالضرب، عبر أكثر من وسيلة: صفع، ركل، ضرب بالحزام أو بجلدة من إطار نافذة سيارة. أو بالتفنن فى الإذلال، كإرساله حافى القدمين فى مهمات صعبة ومتباعدة.
إنه يرى “قط” خارقاً لفكرته عن “المواطن الصالح” التى يريدها له بشروط قاسية أشبه بالمعجزات “يقول حاضر بعد أن يضربه أبوه على قفاه لأنه ــ أى المواطن ــ تعثر فى الحصيرة وأسقط كوب شايه.. والمواطن الصالح يحافظ على جلابيته نظيفة حتى ولو عبر بها مستنقعاً أو خاض بها فى بحر من روث البهائم!..””. الأب يريد “قط” رقماً فى المجموع، ذائباً فيه، منكراً وخاضعاً للتراتبية القبلية التى تجعل كل من يكره “عماً” له حتي: “صار أهالى القرية كلهم أعمامي..”.
يبرز التناقض الحاد فى شخصية الأب حين يخرق هو هذه الفكرة يزجره لأخيه من الأب ــ عم الراوى حين يتحدث فى مجلس، رغم وجود الجد فى المجلس، وهو الأولى بهذا الحق ليس فقط حيال العم بل حيال الأب نفسه، بل إنه يقاطع الجد ذاته لو أفصح عن تعبير. مستاء حيال سلوكه مع أخيه.. ويخاصمه . الأب يرفض تماماً فكرة تحول “قط” فى المساء إلى قط، رغم أنها تتسق وتنتمى لأفكار الجماعة التى يبدو منضوياً تماماً فى كل مفاهيمها، ورغم أنه، مؤكداً تصديقه لهذه الخرافة واقتناعه بها، أسماه بالفعل “قط” وهو يعلن بذلك عن تناقض آخر يعمقه “قط”: أبى يتهم البلد كلها بالجنون لأنها تصدق خرافة القط.. الأب يتهم القرية بالجنون.. لماذا إذن يريد “قط” أن يكون واحداً من المجانين؟ بل إن “قط” يتساءل، وقد بدأ يتشوش محاولاً تصديق الأب وتكذيب نفسه: لماذا وافق على تسميتى بقط طالما أنه لا يؤمن بمسألة تحولى ليلاً؟ الأب لا يترك “قط” فقط مهزوماً ومنسحقاً أمامه.. بل يسقطه أيضاً فى هوة ارتباك كبرى كفيلة بتدميره إلى الأبد.
(3)
..القط حيوان يتحرك طوال الوقت، وبإصرار، باتجاه موته. يعرف “القط” هذه الحقيقة كما يعرف أنها تحاصره فى أكثر من صورة: قد يموت أثناء حلوله فى قط، وقد يموت إن غادرت روحه القط وعادت لجسده فلم تجده على الصورة التى تركته عليها قبل مغادرتها، وهو الجزء المتمم للخرافة الشعبية: “يعتقدون كذلك أن إيقاظ الأصغر وهو نائم معناه أن يموت إلى الأبد لأن روحه تكون بعيدة عنه ولابد أن تعود فتجد الجسد على وضعه الذى تركته عليه”. وقد يموت “قط” على يد أبيه، سواء عبر بطشه الموتور، أو عبر تعود أبيه الدائم على إيقاظه أثناء نومه كأنه يرغب بقتله فى لا وعيه واختبار الخرافة عملياً.. مثلما يدرك الأب بالضبط بغريزته أن مغادرة “قط” لجسده ليلاً تعميق رمزى لرغبته فى مغادرة سلطته.
“قط” محاط بفكرة الموت، ومحاصر بها.. ويبدو تفضيله الدائم للعتمة مقابل النور والليل مقابل النهار تأكيداً على إحساسه هذا، بل وعلى تحركه باتجاهه.
فى “مونولوج” تأملى يأتى فى نهاية الرواية.. يفكر “قط” بالقط الذى يريد أن يحل فيه: قط متأمل، معتز بنفسه، يتعامل بكبرياء. وحين يجد ضالته ممثلة فى “قط الشيخ على طه”، يواجه بالحادث الذى يواجهه مباشرة بمرآته: “كان يسير أمام العجلات بالكبرياء ذاته حتى سوته العجلة القاسية بالأرض”.
وكأن “قط” ينهى النص بحقيقة أنه لا مفر من موت قريب قادم، رحلة أخرى يغادر فيها جسده الشاسع/ الضيق: الحياة، ويحل فى جسد الموت: الغامض.. والرحب.