طارق إمام
(1)
يقول توماس مان: “نحن نعتقد أننا نقوم بأفعال. نحن نعتقد أننا نفكر، ولكنه آخر أو آخرون من يفكرون ويعملون بداخلنا، وهذا يعني أن العادات، الطرز البدائية، التي لكونها أصبحت أساطير عبرت من جيل لآخر، تحمل في طياتها قوة مغوية هائلة تتحكم فينا من هناك، حيث ترقد بئر الماضي”.
تُرجِّع شخوص “ناصية باتا”، الرواية الأحدث لحسن عبد الموجود (دار ميريت، القاهرة)، أصداء مقولة “مان” بعمق، فنحن نقارب شخصيات روائية يدفع كل منها على إعادة التساؤل حول قدرة الفرد على الاختيار، لصنع ماهيته، وقدرته الحقيقية على تحديد مصيره. هنا، نكاد نواجه قلباً لليقين الوجودي، إذ يبدو وكأننا أمام أفراد جبلوا على ما سينتهون إليه من قبل أن يولدوا، وكأن مصائرهم تحددت سلفاً.
جميع شخوص “ناصية باتا”، تدفعهم قوة هائلة، قوة تاريخ قمعي، وسطوة مرجعيات صارت أساطير جاثمة، بما تتوفر عليه الأسطورة من وجه سلطوي ومن جاهزية، حتى أنهم جميعاً يتحركون بين حدي “المازوخية” و”السادية”، كأن لا وجود في الحياة إلا لثنائية قامع/ مقموع.
ثمة مؤسسة تبسط وجودها على مقدرات العالم الروائي منذ اللحظة الأولى. المؤسسة مبهمة على نحو ما، إبهام يلائم شموليتها وكليتها. إنها مزيج من أنماط سلطوية عديدة تبدو وكأنما انسكبت، بشروطها الجوهرية، فيها وانصهرت لتخرج بتلك الصورة الشمولية والمضببة في الوقت ذاته. المؤسسة تعليمية، بوليسية، هي مدرسة، مكان للمبيت، معسكر، ملجأ، سجن. هي أيضاً كيان متعال طبقياً، فلا ترضى لنفسها أن يكون عنوانها مرتبطاً بـ”ناصية باتا”، الشركة المتقشفة التي تقدم الأحذية الرخيصة لأقدام الفقراء.
يضرب الوجود الرمزي لذلك الكيان واقعية النص المتوهمة في مقتل. هذه السلطة الكابوسية، يمر بها الجميع، على اختلاف أهواءهم ومشاربهم، تُدوِّرهم في آلتها الهائلة، وتقذف بهم نسخاً معدة للحياة وفق قانونها. مؤسسة تظلل وجود “قاسم” و”بيكاسو” و”تمساح”، حلقة جوهرية في حيواتهم، قبضة تمسك بهم وتدورهم بين ماضيهم البعيد، الذي لا يقل قمعية، وحاضرهم المأزوم.
“1 أغسطس”، (اسم المؤسسة)، تاريخ لا يحيل إلى مرجعية اتفاقية في الوجدان الجمعي، فارغ من الدلالة، ليس له من إحالة يمكن تمليها. إنه حتى لا يكتسب دلالة جديدة في سياق النسق الذي يحمله، ليس تاريخ إنشائه أو تدشينه، لا يحيل لمغزى خاص بملاكه. ذلك التاريخ المفرغ من أي حمولة وجدانية، المبهم والغامض، يلائم مؤسسة يصعب تحديد كنهها بالضبط.
تقدم المؤسسة وجهها السلطوي عبر شخصين، “طانيوس”، نائب المدير، والمدير غير المسمى (حيث ليس للسلطة المطلقة اسم، وصاحبها لا يعود فرداً، بل طاقة قمعية تنسجم وكل شبيهاتها).
الرئيس ونائبه، أو الإله ونبيه/ مرسله/ رجله الأرضي.. إنه المحدد الأول لعلاقتهما، حيث أعلى مراتب السلطة نفسها مقسومة إلى قامع/ مقموع.
طانيوس هو ذراع المدير التي تبطش في العالم السفلي، هو عينه التي ترى، وأذنه التي تسمع عالم البشر من قاطني المؤسسة.. يراقبهم حتى أثناء قضاء حاجاتهم، يفتش في قمامتهم، يتنصت على حواراتهم داخل غرفهم. دور “بوليسي” في واقع الأمر، تتكفل قشرة الأخلاق الواهية بتبريره. هو حلقة الاتصال بين “العاديين” والسلطة المفارقة، لكنه لا ينتمي في الحقيقة تماماً لأي من العالمين، لذا يبقى معلقاً، كمسخ مموه.
طانيوس، قبطي، عاش حياته دون امرأة، وفي الثامنة والأربعين، يبدو هذا الأمل البعيد وقد صار سراباً. إنه “راهب” صارت وظيفته في خدمة المؤسسة ورئيسها هي وجوده نفسه. طانيوس مقموع من مديره (صديقه القديم)، لكنه قبل كل شئ مقموع من قبل نفسه.
العلاقة بين طانيوس ومديره تتحقق عبر أشد علاقات القمع والازدراء نقاء. عندما لا يعجب كلام طانيوس مديره، يأمره بتوقيع الخصم لنفسه”. في واحد من أشد أشكال المازوخية، يعاقب طانيوس نفسه عوضاً عن رئيسه، يتقمص سادية مديره وهو يوقع الأذى بنفسه.
المدير، الرجل الأول في مفرمة الأفراد، يقرأ الأدب، والتاريخ. إنه تجسيد مفارق للسلطة عندما تتحول لمسخ كاريكاتوري لا تملك حياله إلا أن تقهقه من فرط عبثيته وابتذاله. لكنه أيضاً، في النهاية، مقموع.. ممن؟ من التاريخ.
يقرأ المدير التاريخ مغتاظاً، يود لو تسنى له تحريفه ليلائم مزاجه أو تصوره. سلطة التاريخ وحدها (تلك السلطة التامة) قادرة على هزيمته ودحضه. لا تملك سلطة الحاضر، للأسف، القدرة على لي ذراع سلطة سالفة عليها.
إلى أي مدى يمكن أن نقارب المدير ونائبه كفردين؟، طانيوس يترقى وظيفياً، ليخسر، كلما تقدم في السلم الوظيفي، (كلما اقترب أكثر من سدة السلطة في الحقيقية)، قطعة جديدة من فرديته. إنه يطمح للتوحد بزمن السلطة الأبدي، ناسياً أنه كلما اقترب من ذلك الزمن ابتعد عن زمن الفرد النسبي.
بالمقابل، ينسحب المدير كلما تقدم به الزمن للتاريخ. في بداية الرواية يحضر مشهد لعرابي، وقرب منتصفها نجده أمام مشهد لمحمد علي.
بالتوازي مع المؤسسة وبالتقاطع معها، يبزغ عدد من الشخوص، جميعهم قادمين من جحيم الماضي. هناك “قاسم”، الهارب من جحيم السلطة الأبوية، المتأرجح بين ثلاثة عوالم تسير في الرواية بالتوازي: قاسم كرقم في قطيع جماعة “التبليغ والدعوة”، وقاسم كرقم في مؤسسة سوداوية، معتمة (هو الذي يخشى الظلام، يخشاه كطفل)، وقاسم في علاقته برانيا، ابنة المدينة المتحررة، لكنه أيضاً، وعلى عكس ما توهم، رقم في قطيع رجالها، ورقم في المدينة الكبيرة.
“بيكاسو”، نموذج آخر دال. قادم من النقطة نفسها التي أتى منها قاسم، فهو ابن عمه، نحات، عانى من شذوذه عن العرف في بقعة نشأته الضيقة بالصعيد الجواني، مر بدوره بالمؤسسة، ثم انتقم من نفسه عندما واتته الفرصة لينتقم من الآخرين: يعيش علاقة معطلة مع صديقة أمريكية، يضع فيها سجادة الصلاة في الصالة، ويرفض الوصال الحرام. “بيكاسو”، اسم مستعار يوازيه وجود مستعار في حقيقة العمر، في بعد رمزي عميق.
تمساح، ضائع آخر، يعمل بالسياحة، تبدو علاقاته الكثيرة العابرة مع فتيات لا يتذكر وجوههن، تجسيداً لحيرة الوقوف على فرديته، بجعل كل الوجوه الملتصقة به غائمة. التعامل مع المرأة بالمنطق القطيعي يبدو مع تمساح طوق نجاة أخير للتعرف على ذكورة مغدورة.
على حضوره الهامشي نسبة إلى بقية الأشخاص، يملك “هيثم” حضوراً رمزياً فادحاً. “هيثم”، الناقم على اسمه، والذي يخوض نضال حياته، فقط، لكي يحصل على اسم يجعل منه “رجلاً” في سياق بيئة تسخر منه. يدخل هيثم، في المستوى الأعمق، حرباً ضد العلامة الملصقة به، العلامة التي لم يخترها، ويمكنه بالتالي كـ”مرجع” أن ينفصم عنها كـ”دال”. يجسد هيثم صراع بقية الشخوص في شكله الأكثر بساطة وتجريداً، والأعمق مغزى رغم ذلك.
(2)
لا تستجيب الرواية لإغواء عالمها المقبض بجدية أو تجهم، بل تغذيه في حركة دائبة، بعروق سخرية فادحة متصلة. إنه العالم عندما يُقوِّض ثقل نفسه بالسخرية من شرطه، بالانتقام من نوياته الصلبة، لينحرف إلى حافة العبث واللامعقول في ظل خطاب يوهم بالواقعية. مفارقة كبيرة ترسمها الرواية
في المحصلة، يكشف العالم القاتم الذي تطرحه الرواية عن مزحات متوالية.. قمة السوداوية تلد أشد أشكال السخرية فداحة، ويبدو الثقل الجاثم وكأنه يلد الخفة.
المرح، حسب ميلان كونديرا، هو “وميض يكشف العالم في غموضه الأخلاقي، والإنسان في عجزه العميق عن الحكم على الآخرين، هو النسبية المسكرة للحالات الإنسانية، السعادة الغريبة التي تأتي من يقين أنه ليس هناك ثمة يقين”.
يبدو السارد مصراً على طرح العالم الروائي ككوميديا. “المفارقة المضحكة” حاضرة دائماً، تقف في انتظار الشخص. طانيوس يعترف لنفسه بعد تفكير عميق في طبيعته: “أنا ابن وسخة على فكرة!”، لكن المفارقة لن تنتهي عند هذا الحد، سيسمعه تمساح ويعلق.
هذه الخلخلة، وحيث الكابوس الوجودي قادر على كشف أشد وجوهه ابتذالاً وخفة، تبدو فلسفة قائمة في ناصية باتا. في آخر سطور الرواية، يطلب قاسم من بيكاسو أن يضحك، وكأنها حكمة نهائية ظل الجميع يعملون ليتمكنوا من صياغتها، أخيراً، في عبارة بسيطة وصعبة.
بحضور السخرية، يتحلل الحكم الأخلاقي الجاهز، ويغدو الضحك غاية تزج بما يسمى الأخلاق في القمامة.
(3)
نحن أمام لغة سرد شديدة الحيوية، تنحاز بوضوح لدعم سيولة السرد. تبدو اللغة دائماً متواريةً لصالح ضخ المشهدية، للعناية بالمفارقات المتوالية. اللغة السردية تنحو للغة التداول إجمالاً، تحاكي “ناصية باتا” بنية الشريط السينمائي، مشاهد بصرية متتابعة تدفع الحدث للأمام، حتى الاستعادات التي تستحضر الماضي، لا تتم بشكل “تلخيصي”. الشخصيات لا تكشف أعماقها عبر سلطة السارد عليها أو نزوعه لتحليلها سيكولوجياً، لكن عبر المفارقات السلوكية.
تصوغ “ناصية باتا” خلخلة عنيفة في الزمن السردي، حيث لا تتحرك على الإطلاق كمتتالية خطية تتطور أفقياً، لكنها تخط قانوناً مختلفاً، يتحرك بحرية للخلف والأمام، وبحيث يتشكل المشهد النهائي للأحداث كفسيفساء تلتئم تدريجياً من المشاهد المتشظية والمجتزأة لشخوصها. هذا الانتقال الحر بين الأزمنة، يدفع أحياناً على التساؤل: أي المراحل سابقة على الأخرى؟ ما هو سابق وما هو لاحق يشار إليه من بعيد، وبحيث يمكن أن يعيد المتلقي خلق زمن الشخصية. قاسم مثلاً، يمكنه أن يكون ارتد من علاقته لجماعة التبليغ والدعوة للمؤسسة لحاضر مأزوم في القاهرة، ويمكن، بالعكس، أن يرتد من تشوش حياته إلى الجماعة. يعيش قاسم أزمنته الثلاثة في نفس اللحظة على مستوى الخطاب الروائي.
التأرجح الزمني نفسه يسم كافة الشخوص، تعبرها أزمنة قمع، يصبح فيها الحاضر محض وجه للماضي، يتحدان ليلدا مستقبلاً كالمسخ، كأن زمن القمع زمن ممتد، سائل ولا يمكن تفتيته.. يعبر كل الشخوص، يؤرجحهم في سلطته.. ويتركهم مفقودين على ناصيته!