حسن طلب
تظل سيرة الشاعر على قنديل (1953- 1975) سيرة حية، موحية، ماثلة فى وجدان من عاصروه مثول الشهاب الذى أضاء سماء الشعر لسنوات معدودات فى النصف الأول من السبعينيات، فلم يكد يخطف الأبصار؛ حتى انخطف قبل أن يكمل عامه الثانى والعشرين! خطفت عمره سيارة رعناء فى غبش السبعينيات المنذر بفواجع آتية؛ ربما لم يكن تكوين الشاعر المسكون ببراءته الفطرية، ليستطيع أن يتحمل أذاها!
رحل على قنديل يوم 17/ 7/ 1975، بعد أن أدى امتحان السنة النهائية بكلية الطب جامعة القاهرة. أى أن الذكرى الأربعين لرحيله ستحل بعد ثلاثة أشهر. أما اليوم، فيصادف ذكرى ميلاده الثانى والستين.
كانت غرفته فى المدينة الجامعية منتدى لا ينفض شاعره! فكم من قصائد ألقيت فيها، وكم من مناقشات وأحاديث وصلنا فيها الليل بالصباح! كنت من رواد غرفته الدائمين، مع رفيق الدرب: حلمى سالم، ومعنا جمال القصاص والشاعر الليبى محمد الفقيه صالح. فى هذه الغرفة استمعت إلى المسودات الأولى لكائنات على قنديل الطالعة، وقصيدته الطليعية الرائدة عن القاهرة؛ وتحت سقفها بزغ حلم مجلة (إضاءة 77)، وظل الحلم يراودنا عامين حتى أصبح حقيقة، بعد أن رحل فارسه البهى النقى: على قنديل.
ينفرد على قنديل عن جيلنا بنضج أعماله الأولى التى أصبحت الأخيرة؛ لم يخل أحدنا من ندم على بداياته، فكم ندمت أنا على التسرع فى نشر ديوانى الأول: (وشم على نهدى فتاة) عام 1972! وقد عاقبت نفسى بالانتظار أربعة عشر قبل أن أنشر ديوانا آخر يرضينى، هو (سيرة البنفسج 1986) وأعلم أن حلمى سالم رحمه الله- (تحل ذكراه أيضا فى يوليو القادم مع ذكرى على قنديل)- لم يكن راضيا عن عمله الأول المشترك: (الغربة والانتظار)؛ أما على قنديل فكان كأنه يعلم أن بداياته هى نهاياته!
يبقى على قنديل هو أول من اقتحم قصيدة النثر بين أقرانه، قبل أن يتنزه فى دهاليزها حلمى سالم طويلا بجسارته المعهودة. ويبقى له أيضا أنه أول من فتح باب الحوار مع الشعر شعرًا، فجعل موضوع القصيدة هو القصيدة:
تظهر؟ أم تختفى
يا شعر.. يا خاطفى!
*** ***
حمَّلتنى ثقل هذه الأمانة
الطب.. والشعر.. والكهانة
أمنحة تلك؟ أم خيانة!
*** ***
هل خنتنى يا شعر؟
ما أفسدك!
يا لضياع من يبيع نفسه
ليعبدك!
لا شعر من يخون
نثرا تكون!
هذه اللمع المكثفة الباهرة، كتبها على قنديل فى الوقت الذى كان فيه حلمى سالم تقريبا يدندن لا يزال بمقاطع من: (شين.. عين.. راء).
لتكن ذكرى على قنديل مناسبة لإعادة نشر ديوانه الوحيد الصغير، ليكون بين أيدى الأجيال الجديدة من الشعراء ومحبى الشعر، ولتكن مناسبة أيضا لنظرة نقدية جادة ترفع الظلم عن هذا الشاعر الصغير الكبير!