ممدوح رزق
لا يستهدف هذا المقال الإشارة أو التلميح بأي مستوى إلى شبهة سرقة أو حتى إلى اقتباس، وإنما يريد فقط استعراض وتحليل القواسم المشتركة الملفتة، والجديرة بالتأمل في تصوّري بين مسلسل “قابيل الذي عُرض في رمضان 2019، ونوفيلا “جرثومة بو” التي نُشرت العام الماضي.
ـ لم يكن قابيل قاتلًا متواريًا في خفاء مجهول، يمرر من ظلامه إلى العالم فصول جرائمه المتعاقبة وحسب؛ وإنما كان هو نفسه أيضًا أحد ضحاياه “آدم”، وهذه الخدعة هي ما أعطت لذلك الخفاء هويته؛ إذ أن قابيل / آدم كان ضحية قاتلة، أو قاتلًا مختبئًا وراء قناع الضحية.. في نوفيلا “جرثومة بو” كان منصور عبد الرحيم مختفيًا أيضًا؛ إذ كان مسجونًا يتم تعذيبه بشكل متواصل في “المملكة”، وعلى الرغم من أن الخطابات المهرّبة التي كان يبعث بها من سجنه كانت تقدّم صورًا متتابعة لتطورات وضعيته الكابوسية داخل السجن؛ إلا أن خفاءه ظل غامضًا لأسباب جوهرية: السبب الأول عتمة الألغاز والشكوك التي تهيمن على حياة منصور قبل سفره إلى المملكة، وملابسات اعتقاله، ووجوده داخل السجن حيث لم تتوقف المعطيات المتاحة عن منصور خارج المعتقل عن دعم إبهامها، وإثارة ريبة متصاعدة حول شخصيته وماضيه.
السبب الثاني عدم القدرة على الوصول إلى منصور؛ إذ لم يتمكن أحد خارج السجن من مقابلته، وبالرغم من النجاح في التأكد بوسائل أخرى من أن كل التفاصيل والوقائع التي ذكرها منصور في خطاباته كانت صحيحة إلا أن هذا لم يضع نهاية للهواجس والافتراضات المتحيّرة حول حقيقة منصور والمكان الذي يوجد به، وهل هو على قيد الحياة بالفعل أم لا، وإذا كان ثمة استغلال لموته لو كانت حياته قد انتهت حقًا.
السبب الثالث ـ وربما هو الأهم ـ الإعلان النبوئي الذي تحمله صيغة العزاء الثابتة التي تتكرر في نهايات الخطابات المتوالية لمنصور عن موت متسلسل لأشخاص متباعدين بطرق مختلفة، لا توجد صلة واضحة تربطه بهم، ويعيشون بعيدًا للغاية عن مكان سجنه؛ الأمر الذي جعل الصحفي الذي كان يعمل على قضية منصور، ويطلّع على خطاباته؛ جعله يفكر في أن منصور لا يتنبأ بموت هؤلاء، وإنما يقتلهم على نحو غير مفهوم، ويبدو قدريًا تمامًا .. إذن كان منصور مثل قابيل ـ وهو الأساس مع تغيّر التفاصيل ـ كان يبدو كضحية وقاتل معًا مستغلًا خفائه المحكم.
ـ اعتمد قابيل على بوستات فيسبوك للإعلان عن جرائمه؛ إذ كان من الضروري ألا يترك ضحاياه دون تأكيد على وقوفه وراء قتلهم، وأيضًا لكتابة ما يشير إلى الأفكار التي تقوده لارتكاب هذه الجرائم .. كانت هناك حيرة في المسلسل لدى المحقق ومساعده ناجمة عن عدم إدراك الخيط الذي يربط بين هؤلاء الضحايا وقابيل، أو العامل المشترك الذي ينتقي على أساسه هؤلاء القتلى.. اعتمد منصور عبد الرحيم في نوفيلا “جرثومة بو” على الرسائل المهرّبة ـ فترة التسعينيات ـ ليقرر خلال كل رسالة الموت الغامض لأشخاص لا يعرف أحد طبيعة علاقته بهم، وكيف بمقدوره أن يتنبأ / يقتل هؤلاء وهو في سجنه البعيد، كما أن أسلوبه الساخر في إعلان موتهم قبل حدوثه، والمتمثل في صيغة العزاء التقليدية التي لا تتغير كان يعطي انطباعًا مستمرًا بوجود صلات قديمة مبهمة تربطه بتلك الشخصيات، وكذلك بطبيعة ما يضمره تجاههم.
ـ كان الانتقام هو الدافع الأساسي في مسلسل “قابيل”؛ حيث أنهى آدم حياة زوجته وشريكها في الخيانة “ما يُعتبر العذاب الخاص لآدم”، وهو أحد مظاهر الرغبات الانتقامية المتعددة عند أبطال المسلسل .. لكن الانتقام لم يكن بالسبب المتعلّق بشخصيات محددة، حتى وإن اقتصر القتل عليهم، وإنما كان نابعًا من فكرة ترتبط بالرغبة في الثأر الشامل من الوجود البشري، أي استخدام النماذج المستحقة للعقاب في حياة آدم للانتقام مما يمثله العالم نفسه فيهم، وهو الأمر الذي جعل من فكرة القتل في حد ذاتها يسيرة حد البداهة خارج هذه النماذج.. لعل أبرز ما يؤكد هذا هو المنشورات السوداوية لـ “خالد المصري” صاحب المدونة الذي اختلقه آدم كقناع آخر له، بالإضافة إلى كتابات قابيل نفسها المصاحبة لإعلانه عن قتل ضحية جديدة على فيسبوك.. خدعة البحث عن هدف، أو الأصل الشرير للإنسان “ممكن ياكل أخوه في أي لحظة” كما في المسلسل أمام الأصل الشيطاني للعالم أو الروح المبهمة القاتلة للكون في النوفيلا على سبيل المثال .. كان الانتقام عنصرًا رئيسيًا في نوفيلا “جرثومة بو” إذ يتضح في نهايتها أن الموت الذي تتنبأ به رسائل منصور هو ثمن لتواريخ متباينة من المهانات والاعتداءات النفسية لأصدقاء مختلفين وزملاء عمل.. لكن الموت في النوفيلا لا يقتصر على هؤلاء فحسب بل يمتد إلى التنبؤ بنهايات تتحقق بالفعل لأشخاص لا يمتلكون هذا الماضي المماثل، أي غير متورطين في ذكريات سيئة كان على الموت أن يكون جزاءً منطقيًا لتراكمها .. الشخص الذي يتم قتله بتنكيل لا يُنهي حياته، فيتحوّل التعذيب الشامل والقتل العام والمتلاحق للآخرين هما طريقته للتناغم مع العالم وتدميره في الوقت نفسه.
ـ كان التماهي سؤالًا أساسيًا للانتقام في مسلسل “قابيل” .. حينما يكون القاتل ومُطارده شخصًا واحدًا .. القاتل “آدم” الذي يحقق أمنية مُطارده “طارق” في الثأر التي عجز عن تحقيقها “قتل حمزة الكومي” .. في “جرثومة بو” كان التماهي بين منصور “المتنبيء بالموت / القاتل المتواري” والصحفي الذي يعمل على قضيته هو المحرّك الأقوى في النوفيلا .. تحوّل منصور والصحفي إلى شخص واحد .. أعلن منصور في خطاباته عن ميتات متوالية لأشخاص كانوا أعداءً للصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ كانت لدى “آدم” قناعة أساسية بأن ثمة “قابيل” يكمن داخل كل إنسان، أي ذلك القاتل الذي يقرر الانتقام من الذين يعتبرهم جديرين بذلك ـ يمكن الرجوع للحوار بين آدم والضابط طارق الذي يتحدث فيه بشكل مباشر عن هذا ـ وهو إن كان يفسر بهذا الطبيعة العامة للثأر، غير المقيّدة بالعناصر البشرية التي تحمل انتماءات مباشرة للقاتل، أو ربما حتى التي لا تخضع توجهاتها لأسباب ملموسة ومنطقية فهو في الوقت نفسه يتماثل تمامًا مع “جرثومة بو” التي تناولت النوفيلا امتلاك منصور عبد الرحيم لها بعذابه البعيد، أي التي كشفت عن نفسها كغريزة للانتقام بواسطة ما تعرّض له، وبالتالي قامت بتوزيع ثأرها على أعداء الصحفي المتماهي معه ليس باعتبارها ـ كما جاء في النوفيلا ـ عقيدة شخصية، وإنما أشبه بالقنبلة الموقوتة المحتجبة داخل كل جسد بشري .. “الظلام معتاد الإنكار في أعماق الجميع”.
ـ في مسلسل “قابيل” كان الضابط طارق يعاني من أعراض المرض النفسي والمتمثلة في رؤية موتى يتكلمون معه ـ ومن ضمنهم آدم ـ فضلًا عن معاناته مع الأرق والكوابيس، كما تحدث عن زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي فشل في أن يُعالج بها مرضه، وانعكاس كل هذا على حياته المهنية .. في نوفيلا “جرثومة بو” كان الصحفي الذي يعمل على قضية منصور عبد الرحيم يعاني من أعراض المرض النفسي والمتجسّدة في الوساوس القهرية والضلالات والكوابيس التي كان لها تأثير كبير في سلوكياته وعلاقاته وحالته الجسدية إلى جانب تخيلاته عن تجسّد منصور عبد الرحيم أمام عينيه، وكذلك المعاناة من الأرق، وهو ما أدى إلى زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي لم تنجح في شفائه، وأيضًا تدهوره المهني .. كان وضوح التشابه في هذا الجانب بين طارق في المسلسل والصحفي في النوفيلا متمثلًا في انتفاضات الجسد، ورعشة اليدين، وارتباط الرجفات العصبية بتمثّل قابيل / منصور كما لو أنهما حاضران بالفعل .. يمكن أيضًا في هذا السياق مقارنة مشهد الضابط “طارق” وهو ينظر في مرآة الحمام في المسلسل، وكل التفاصيل النفسية والجسدية والتخيلية المقترنة به، ومشهد الصحفي الذي يعمل على قضية منصور وهو ينظر كذلك في مرآة الحمام في النوفيلا، والتفاصيل المقاربة للمشهد السابق.
ـ في مسلسل “قابيل” كان هناك اعتماد على فكرة تزييف القتل، أي تكوين مشاهد خادعة عن موت ضحايا ـ بخلاف آدم نفسه ـ لا يزالون على قيد الحياة .. في نوفيلا “جرثومة بو” يتبين في النهاية أن الأشخاص الذين تنبأ منصور عبد الرحيم بموتهم، أو بالأحرى قام بقتلهم بواسطة التنبؤ هم في الحقيقة مازالوا أحياءً، وأن جميع الطرق التي تم قتلهم من خلالها كانت مختلقة، بما فيها صور التعذيب التي سبقت هذا القتل إذ أنها لم تكن ناجمة إلا عن وعي التماهي بين منصور والصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ استخدم قابيل/ آدم لوصف ضحاياه صفات متماثلة لدرجة التطابق أحيانًا مع الصفات التي جاءت في النوفيلا لوصف القتلى من حيث الوضاعة وانعدام القيمة واستحقاق الموت كمسوخ، كما كان لهذه الصفات إطارًا فلسفيًا يربط العدمية بالتعرّض للانتهاك النفسي والجسدي سواء في المسلسل، أو في “جرثومة بو”.
“آدم: كل الناس تعرف بعض .. كلنا عندنا استعداد للقتل .. انتقمت من سلمي ورؤوف وانت من حمزة الكومي .. الحقيقة بتقول إن انا قابيل وانت كمان قابيل واللي سمعوا عننا زينا واكتر .. على الأقل أنا مقتلتش حد برئ .. كلهم ولاد كلب ظلمة .. بذمتك مفرحتش لما انا قتلت حمزة الكومي .. دور جواك يا طارق عشان أنا عملت حاجة إنت كان نفسك تعملها”… “قابيل”.
“لم يكن موت محمد الرفاعي سوى مجرد استهلال يقدم وعدًا بأن الانتقام سيكون شاملًا كما يجب بوصفه غريزة منطقية للوجود .. بعد ذلك كان عليّ توجيهه نحو الأشخاص الجديرين بذلك كما أعرف .. إلى المسوخ المضحكة التي لا يدرك أحد شيئًا عن الحكايات التي عذبتهم خلالها قبل فنائهم في حادث الأتوبيس، وانهيار البيت، والحريق الضخم .. إنها جرثومة إدجار آلن بو التي امتلكها منصور بعذابه البعيد، وإثر ذلك لم يعد مجرد فرد مؤقت خاضع للحياة والموت بل أصبح الحياة والموت نفسيهما”... “جرثومة بو”.