ممدوح رزق
في نص “غذاء السمك” لمؤمن سمير، الصادر حديثًا عن دار “الذهبية”؛ ثمة ذات تراقب دمارها المتلاحق عبر محاولات التماهي مع صور التناثر لهذا الدمار في ملامح الآخر .. تتخذ المراقبة طبيعة الإيجاد أي خلق الأشلاء / شذرات اللغة فتتحوّل إلى مُسيّر لهذا الآخر، أي أنها تتقمص وضعية التدمير الذاتي .. هي بتلك المسايرة التي تستبطن كيفية أن تكون قاتلة لنفسها؛ تراوغ صورتها الواضحة أمام موضوع القتل ذاته، وهذا يتيح لها أن تكتسب إمكانية الاختفاء من عتمة “المرآة” العالقة داخلها، والذوبان في الشظايا النهمة لتلك المرآة، الموزعة داخل الآخرين.
“بعد أن قرأت عن الفيلم حلمت حلمًا عابثًا، مستحيلًا، أنني كنت هناك، لكن حيث لا يرونني .. الجميع كان يبكي .. والبكاء هو الظرف التاريخي الرائع لممارسة أفعال تشي وتوهم بالقرب الإنساني .. كل ولد كان يضع يده على يد البنت التي بجواره ثم يلف ذراعه حولها”.
تكافح الذات لاكتشاف لعنتها من خلال هذه الأداءات التي تزاوج بين المراقبة والتوحد بأشكال تدميرها المتفرقة، كأنها في الوقت نفسه تسعى لاكتساب بصيرة بمقدورها التلصص على ما بعد النهايات المتكررة، التي تُشكل تدريجيًا الوجه الكامل للموت .. التلصص الذي يجعل من الألوان، ودرجات الإضاءة، وزوايا الرؤية، والحدس بواسطة الظلال؛ يجعل منها ممرات ملغّمة للذاكرة، أو مسارات لتشريح الماضي متخمة بالأشباح التي ينبغي عليها حينئذ أن تُغرق الخطوات المرتعشة “المتلصصة” بدمائها.
“المعلن أنه يحاول تهدئتها، لكنها تزداد انفعالًا، المسكينة!! ويزداد هو في محاولاته الاحتوائية الشريفة. المسكين الذي يجتهد في ممارسة اللعبة التواطئية يتأكد في هذه اللحظات أنه حقًا يريدها، وذلك بعد أن قالت هي أيضًا، ضمنيًا، عدة مرات، إنها “تموت فيه” … سينهشها الآن .. هذه الغبية .. القاتلة أيضًا”.
تستند الاستمرارية هنا على تعدد الآخر سواء في حضوره البشري أو الذهني أو المتوهم، حيث تُرد عناصر الواقع كافة إلى تلك الهيمنة الكامنة في ذلك الحضور المتعدد، ولكنها ليست الاستمرارية التي تُنتج الحاضر فحسب، بل تلك التي تُبطل عمل التاريخ على نحو أساسي أيضًا.
“لكن العجيب أن عيني بعدما ثبتت على وضعية الجحوظ انغلقت فجأة وغرقت في نوم مدبب وحاد .. أفقت على ملوحة العرق في عيني وبرودته تحت إبطي ووجدتني في مواجهة المسارات التي حفرها النمل في كومة الرمل ولمحت الدويبات تتحرك بطمأنينة وكل واحدة تحمل على رأسها شيئًا، جزءًا كبيرًا أو صغيرًا من الملامح”.
بهذا تحصل الذات على تعدديتها غير المحددة، التي تسمح لكابوسها الخاص أن يكون هو الزمن الكلي، القائم على التناثر، كما أنها بذلك تعيد تكوين الآخر بانشطاراته التراكمية المتباينة كأنما تستعمل المحو لتجعل هذا الآخر سرًا قابلًا للمعرفة .. المعرفة التي تحمل انتهاكًا مؤكدًا للموت كختام منطقي لتحوّل الأقنعة الوحشية إلى أصل كتابي، وتحوّل الكتابة إلى قناع شامل يتواطأ بولع طفولي “حيث كل جسد قاتل ومقتول” مع اللعبة الاستكشافية لتحطيم الغاية .. ربما هي طريقة أخرى لمحاولة حماية الخبرة العاطفية الأكثر سذاجة للذات من أن تكون تدميرًا غريزيًا.
“رجعت بمقعدي للوراء بعنف وفتحت باب الغرفة وعدوت .. وضعت رأسي تحت المياه ورجعت مرة أخرى .. كدت أفتح الباب بيدي المرتعشة التي تتساقط منها المياه لكنها شالت يدي ووضعتها على كتفها وسارت بي نحو الصالة ولكن بعد أن أغلقت الباب بساق خلفية .. طاوعتها واستسلمت تمامًا .. في الصباح رميت ببصري نحو الغرفة ثم أخذت أدلّك الحنجرة برفق كي يمر الهواء في مساراته المتعرجة بأمان”.
يتحقق في نص “غذاء السمك” نوع من المزج بين الغرابة الشبقة المرتجلة عند جورج باتاي، والمجاورة الحادة بين الوحدات اللغوية التي لا تخضع لعلاقات مكشوفة عند جيرترود شتاين، كما أن ملامح العنف السردي في هذا النص ربما تذكرنا بأسلوب بوهوميل هرابال في “عزلة صاخبة جدًا؛ فالسارد هانتا يخاطبنا طوّال الوقت كما لو كان ممسوسًا بحُمى التقويض، بهذيان الفصل بين اللغة وإحالاتها .. نجد في هذا التدفق العفوي المتوتر هوسًا “صاخبًا” بتحويل الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة إلى تناثر عشوائي من الأشلاء والأنقاض التي كافحت في الماضي لتكوين يقين ما أو إطار مرجعي غير قابل للشك .. إنه خطاب قد يعيدنا إلى كلمات “جاك دريدا” عن التفكيك: “لا! ليست للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد” .. بهذا يتقمص العامل هانتا آلته فيتحوّل إلى جسد هيدروليكي ينتهك الظواهر التي تسعى لإثبات نفسها، ويحطم بنهم طائش سلطة المتعة الجمالية، ويُبقي أمانها مرجئاً طوال الوقت .. هذا ما يبرر خشيته من أن تسحقه كالفأر أطنان الكتب التي يحتفظ بها انتقاماً من تاريخه.
لنقارن هذا الجزء من التحليل السابق لـ “عزلة صاخبة جدًا” بهذه الفقرة من “غذاء السمك”:
“كان جل اهتمامي بالأوراق لكنهم حملوني ونزعوا أطنان الملابس عني وربطوني بأسلاك الكهرباء التي أخرجوها من وراء ظهورهم وتندروا كثيرًا على جسدي الأملس ثم تناوبوا اغتصابي مستخدمين أدوات حادة .. أحسست أولًا بالرعب ثم بالألم ثم فقدت الإحساس نهائيًا وتهيأت للموت .. ويبدو أنهم أحسوا بذلك لأنهم بدأوا في إفاقتي بطعني بالمُدى الملوثة بدم الرجل المقتول وكأنهم يريدون إشراكه في الأمر .. الأول يسلم الثاني المُدية فيغرسها فيّ ويُسلمها للتالي الذي يختار بقعة أخرى وهكذا .. أصروا على ألا تخرج أي تفصيلة عن ترتيبهم .. كدت أخدعهم وأموت مرة أخرى لكنهم تداركوا الأمر وغيروا التكنيك فانتبهت .. مزقوا الأصابع ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم القدمين ثم الأذن اليمنى ثم اليسرى والأنف وسملوا العينين ومزقوا فروة الرأس وأخرجوا القلب والكبد والكليتين وأكلوهم”.
الجسد الذي يأخذ مسافات منتشية غير محكومة من نفسه “الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة” ـ كما كان الأمر عند هرابال ـ حين يُترك عاريًا في حفل تعذيبي، وفي نفس الوقت يحوّل خيال هذا الجسد الممزق مشاهد الحفل إلى طقوس طفولية متنافرة، تتبادل كائناتها ما يشبه القرابين المدنّسة، بوصفها الخام البشري الذي يجدر بالكتابة استعماله لتخريب أي فردوس محتمل.