“دنيا زاد” لمي التلمساني: الموت يسرد صمته

القارىء الضُراط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

“طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولًا .. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيًا كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضًا. واتفقنا على تفاصيل أخرى .. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدًا. أحطنا جميعًا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضًا .. غدًا”.

ماذا لو أن دنيا زاد هي الموت الذي يتبادل شهريار وشهرذاد حكي تاريخ العالم من أجله بكيفية انتقائية؟ .. هذا يعني أن ثمة محاولة سردية لاستنطاق هذا الموت، أي كفاحًا لجعله يحكي “ألف ليلة وليلة” المجهولة، والكامنة في ظلامه، خاصة لو كان هذا الموت نقيًا، خالصًا من المرور المؤقت للحياة ممثلًا في طفلة لم تعش .. يعني أيضًا أن تاريخ العالم الذي يتم سرده من خلال الأب والأم لن يكون هو الذاكرة ذاتها التي سبقت هذا الموت، أو ما يُتصوّر أنه الوجود الذي تقدّم على الفقد بل سيكون حياة أخرى، أو الماضي المغاير الذي سينتج بالضرورة واقعًا مختلفًا، أو على نحو أدق إبهامًا مختلفًا.

“أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن … أقرأ: وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة”.

تتشكل عناصر العالم بعد الموت باعتبارها ظلالًا غامضة لتلك البنية المعتمة التي ذابت دنيا زاد داخلها .. كأنها تتحوّل إلى قرائن لحكمة مضادة، مراوغة، تشمل موجودات الحياة وأحلامها كافة، وتنبع من الثقل المهيمن الذي يفرضه غموض هذا الموت على الأجساد وعلاقاتها والتفاصيل المرصودة كحصار من الأسرار التي تتوعّد الغفلة .. بالتالي تصبح الأفكار والعواطف المتشابكة أقرب إلى الهواجس الاستشرافية فيما يشبه البحث عن الفضاء الخاص لنجاة غير مستوعبة داخل موت متجذّر في الماضي، ولابد أنه يرسم في ذلك الخفاء الذي يتم السعي لاستكشافه تلك الخطوات التدريجية لحدوثه في المستقبل.

“الحلم: اليوم أتمت دنيا زاد ثلاثة أسابيع. أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجي. أضع الشمعة إلى جواره. وأبكي مرة واحدة. في طقوس حب سرية، أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق”.

لكن الاستشراف يتضمن تلك الحاجة البديهية للحصول على الحياة التي لم تعشها دنيا زاد .. ليست حياتها ككائن يجرّب العالم بشكل اعتيادي، وإنما حيوّات الآخرين التي كانت ستمنحها لهم دنيا زاد لو لم تمت .. الوجود الذي لا ينبغي أن يتوقف عند الحدود التقليدية للبنوّة، وإنما ذلك الذي يجدر به التخلص من الألم المنطقي، أي يستبعد بصورة محصنة الجوهر العدائي المجهول الذي لم تختبره دنيا زاد، وبهذا يكون موعدًا مؤجلًا، متجرّدًا من الفناء.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم