محمد عويس
“الفنان لا يصور المكان، بل يخلقه وينتجه” مقولة شهيرة لبول كلي ينطلق منها كتاب مي التلمساني «الحارة في السينما المـصـرية» الــصــادر عن المـركز القــومـي للترجـمة في ترجمة لرانـيا فتحي. ويتناول الكتاب مفاهيم الإبداع والإنـتــاج والـتـكـويــن المـرتـبـطة بـتـشـكـيـل الـخـطـاب الاجـتـمــاعي والسينمـائي عـن الحارة فـي السينما المصرية من خلال عينة اقتصرت على65 فــيـلماً تم اختيارها لتمثل الحقب المختلفة لتاريخ السينما المصرية والتيارات السائدة فيها. لكنه لا يقدم دراسة تاريخية للسينما المصرية، على رغم توقف التلمساني عند المراحل المختلفة لهذه السينما في محاولة لربطها بالأحداث التاريخية الكبرى في القرن العشرين. ومن البدهي ألا تكون هذه الدراسة عن صورة الحارة في السينما شاملة وحصرية، إذ إنه من إجمالي عدد 4200 فيلم تم إنتاجها منذ عام 1927 وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين، نجد أن الحارة موجودة بقوة في حوالى ألف فيلم، منها ما فُقد للأبد ومنها ما تعذرت مشاهدته.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول بهدف استكشاف الأوجه والمظاهر المختلفة لصورة الحارة في السينما، حيث يقدم الفصل الأول «إنتاج المكان» تحليل المكان الاجتماعي والفيلمي للحارة، ويستعرض الفصل الثاني «الأسطورة الشعبية وميثولوجيا الجماعة» الطقس الجماعي والأشكال الأسطورية التي تتبدى داخل الجماعات الشعبية، بينما يتناول الفصل الثالث «أنماط الحارة والهوية الجماعية» ثلاثة أنماط رئيسية في أفلام الحارة: ابن البلد والفتوة والأفندي.
حديث التحولات
وتتناول الكاتبة تاريخ أفلام الحارة والأفلام الممثلة لها، خلال ثلاث مراحل استناداً إلى معايير تاريخية وجمالية تُحيل إلى التحولات السياسية والسينمائية في التاريخ المصري المعاصر على النحو الآتي: المرحلة الأولى (1939 – 1953) التي يشير فيها معظم كُتب تاريخ السينما المصرية إلى أن فيلم «العزيمة» لكمال سليم هو الفيلم الواقعي المصري الأول الذي تدور أحداثه في حارة تم بناؤها داخل الاستوديو ومعظم الشخصيات فيها من أبناء تلك الحارة. غير أنه من الخطأ اعتبار هذا الفيلم أول الأفلام التي تناولت الحي الشعبي في السينما. فأحداث فيلمي «المعلم بحبح» (1937) و «لاشين» (1939) تدور أيضاً في أحياء شعبية. غير أن «العزيمة» يمثل الوعي السينمائي الأول في الحي الشعبي بصفته المكان الأصيل الذي تتجلى فيه الشخصية المصرية، وذلك في مقابل الأحياء السكنية الجديدة التي يطغى عليها الطابع الأوروبي ويسكنها الباشوات وأبناء الطبقة البرجوازية. وعلى رغم ما تنطوي عليه هذه الثنائية – سواء على مستوى التمثيل المكاني أو التصنيف الاجتماعي – من تبسيط زائد للأمور، ظل هذا الفيلم مصدر إلهام للكثير من السينمائيين كيوسف وهبي وحسين فوزي وصلاح أبو سيف.
أما صورة الحارة في السينما المصرية في هذه المرحلة فيمكن اعتبارها بناءً خيالياً للمكان الشعبي وللملامح التي تُميز سُكانه، بناء يقترن تخيله بالنزعة المثالية على الصعيد الجمالي والأخلاقي وهي نزعة مُغلفة بهمّ وطني وإنساني عميق: همّ الدفاع عن الفقراء والمطحونين ضد طغيان الأثرياء والساسة الفاسدين.
وفي الخطاب النقدي المصري، عادة ما تتم مقابلة فيلم كمال سليم «العزيمة» وفيلم كامل التلمساني «السوق السوداء» (1945) وقد تنازعا لقب الفيلم الواقعي الأول في كتب تاريخ السينما، ويمكن تلخيص الجدل حولهما في جزئية الإيحاء بالواقع التي ميزت كل فيلم منهما بدرجات متفاوتة، في هذا الإطار يرى الناقد كمال رمزي أن حارة التلمساني أكثر قُرباً من واقع الحي الشعبي في الأربعينات من حارة كمال سليم التي أسبغ عليها المُخرج بُعداً مثالياً. بينما فرضت المرحلة الثانية (1954 – 1980) مع صلاح أبو سيف صورة جديدة للحارة بدت للمرة الأولى في فيلم «الفتوة» (7195) حيث طرأ الكثير من التغييرات على صورة الحارة في أعقاب ثورة 1952، وأصبحت صورة الوطني تُجسَّد من خلال شخصيات ابن البلد والموظف والمُفكر وبالطبع الرجل العسكري أو الضابط. ويصعد ابن البلد في أفلام هذه المرحلة إلى طبقة الموظفين، ويتحقق له صعود السلم الاجتماعي، فيما يحل رجل العسكرية محل الباشا،
أما الموظف الحكومي فيحتل مكان الأفندي الموظف في الشركات الخاصة. وتشير التلمساني إلى أنه ليس غريباً أن أحداث معظم الأفلام القيمة في الخمسينات والستينات تدور في ماض قريب من التاريخ المعاصر أي في الفترة ما بين 1910 – 1940 فتلك العودة إلى الماضي كانت من أجل نقد النظام الملكي وحلفائه من البريطانيين بهدف إحياء ذاكرة الخزي والتهميش ومن أجل إبراز قيمة النظام الجمهوري وفضل رجالاته على الشعب.
سكون السبعينات
أما بالنسبة لفترة السبعينات فلم تطرأ أثناءها تغييرات جذرية على صورة الحارة، لا على مستوى منظومة الشخصيات ولا على مستوى الديكور: إذ استمر صلاح أبو سيف في إنتاج أفلام ملتزمة («السقامات» 1973) ووظف شـــباب السينمائيين من أمثال حسام الدين مصطفى صورة الفتوة – وهو الذي تخـــصص في تقديم هذه الصورة – كما صاغها نجيب محفوظ في رواياته وسيـــناريواته من أجل التشديد على فكرة الصراع بين الطبقات الشعبية وطبقة الأثرياء الجدد التي أفرزتها سياسة الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات.
أما في المرحلة الثالثة (1981 – 2001) فقد فرض جيل جديد من السينمائيين نفسه بصفته بديلاً سينمائياً منذ نهاية السبعينات، وطرح رؤية جديدة حول الواقع الاجتماعي تقوم على فكرة تشظي التاريخ وكسر أفقية السرد السينمائي التقليدي، استناداً إلى ضياع قيم التماسك والتضامن واختفاء العقائد الأساسية للخطاب الماضوي.
وتبنى سينمائيو هذا الجيل بقوة تعددية وجهات النظر – بما فيها وجهات نظر الأقليات الدينية في مصر – داخل كتلة الغالبية التي أُدمجت في إطار متجانس. ويبرز من بين هؤلاء السينمائيين اسم على بدرخان مخرج فيلم «الجوع» (1986) الذي سلط الضوء على القضايا الداخلية في وطن تتنازعه أطماع النخبة الثرية وصمت الغالبية المقموعة، ويبرز أيضاً اسم خيري بشارة مخرج فيلم «يوم مر… يوم حلو» (1988) والذي أخرج فيه الحارة من الإطار الضيق لصورة حارة العصور الوسطى المركزية، وصوّر الأحداث في حي أحدث من أحياء القاهرة الفاطمية المعتادة في أفلام الحارة السابقة هو حي شبرا الشعبي الواقع على أعتاب القاهرة. وإلى جانب على بدرخان وخيري بشارة، يفرض اسم الراحل رضوان الكاشف نفسه من خلال فيلم «ليه يا بنفسج» (1993) الذي تناول تصيد فئة المهمشين للحظات سعادة عابرة داخل حارة مقطوعة الصلة بكل بُعد تاريخي قديم، حارة منسية على أطراف المدينة.