قراءة في رواية “دنيازاد ” لمي التلمساني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 25
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د.عبدالجبار العلمي*

تنتمي رواية “دنيازاد ” للروائية المصرية مي التلمساني إلى ما يسميه الدكتور صبري حافظ برواية التسعينات ، فقد ظهرت أسماء عديدة لروائيات وروائيين في نهاية القرن الماضي في مصر عرفت كتاباتهم بنوع من القطيعة مع جماليات السرد الروائي السائدة لدى الأجيال السابقة من الروائيين، ومنهم أدباء الستينيات، وقد تراكمت جملة من الأعمال السردية ـ قصصية وروائية ـ جعلتها تشكل ” ظاهرة أدبية جديدة ” تتوفر على كل شروط الظاهرة الأدبية التي تحمل كثيراً من ملامح الاختلاف في جماليتها عن جماليات الأعمال الأدبية التي  سبقتها.( انظر : ” القطيعة الجمالية والمعرفية في رواية التسعينات في مصر ” ، الرواية العربية في نهاية قرن ، رؤى ومسارات ، منشورات وزارة الثقافة ، الرباط ، دار المناهل ، 2006 ، ص : 21 )

         ومن أبرز ممثلي الرواية التسعينية نذكر على سبيل المثال لا الحصر مي التلمساني ـ ميرال الطحاوي ـ مصطفى ذكري ـ منتصر القفاش ـ وحيد الطويلة ـ نورا أمين ـ منى برنس ـ بهيجة حسين ..

         تتألف رواية ” دنيازاد ” لمي التلمساني من من فصول قصيرة ذات عناوين هي كالتالي : سلة ورد ( من ص : 7 ـ 24 ) / جريدة الصباح ( من ص : 25 ـ 30 ) / ثوب جديد للمناسبة ( من ص : 31 ـ 37 ) / كان بيتاً في الحقول ( من ص : 39 ـ 45 ) / لعبة الموت ( من ص : 47 ـ 52 ) / سؤال ملح آخر الليل هكذا ( من ص : 53 ـ 56 ) / نافذة على الانتظار ( من ص : 57 ـ 62 ) / شهاب الدين يحب سلمى ( من ص : 63 ـ 72 ) / لو كانت بنتاً ) من ص : 73 ـ 79 ) / نقطة تحول ( من ص : 81 ـ 86 ) . وتتسربل هذه الفصول القصيرة المركزة بروح شعرية مليئة بالشجن والرقة وحنان الأمومة ووجع الفقد.إنها مواجهة مؤلمة مع الموت في وقت الميلاد. لقد ماتت دنيازاد جنيناً في رحم أمها ، وكان رحم الأم قبراً لها قبل أن توارى التراب في قبرها الحقيقي ” خرجت من مقبرتي إلى مقبرتها ولم تترك لي سوى ذكرى وجه أزرق ” ( ص : 22 )

أول ما يلفت نظر المتلقي قبل الدخول إلى الكون الروائي غلاف الرواية. إنه محكي مواز للمحكي الروائي . في غلاف الرواية نجد أربع صور. وضعت بشكل أفقي من اليمين إلى اليسار تحت اسم المؤلفة مي التلمساني : الأولى صورة زهرة، والثانية صورة نيجاتيف لامرأة حامل غير واضحة الملامح ، والثالثة صورة جنين رسم بلون أبيض في أرضية حمراء غير بين الملامح أيضاً. أما الصورة الرابعة ، فهي لجنين يبدو رأسه وإحدى يديه مرفوعة نحو وجهه ، التقطت له بوساطة التصوير الإيكوغرافي ، ذات لون أسود. والملاحظ أن معالم جسده واضحة مكتملة، ويبدو من خلالها أنه على أهبة الخروج من ظلام الرحم ليستقبل نور الحياة. إن الغلاف من خلال هذه الصور ، يقدم لنا تكثيفاً للمحكي الروائي ابتداء من الأمل والاستبشار بالحمل الذي تتمنى الأم أن يكون ثمرته طفلة جميلة كالزهرة ، إلى حدوث الحمل وما يرتبط به من رعاية وتتبع مراحل نمو الوليد المقبل بالفحوصات الطبية اللازمة. هذا ما تؤكده الصورة الهلامية الأولى للجنين، والصورة الإيكوغرافية الواضحة المعالم التي ينتهي بها صف الصور الأربع.  وربما يشير موقع صورة الجنين في نهاية الصف على المصير الذي آل إليه الجنين داخل المحكي الروائي، وهو نهاية حياته أثناء الولادة دون أن يرى نور الحياة بانقطاع مشيمته.” جاء في تقرير الطبيب أن الوفاة قد حدثت داخل الرحم نتيجة انفصال تام في المشيمة ” ( ص : 16 ). ويقع تحت الصور الأربع المنوه إليها ، عنوان الرواية ” دنيازاد ” الذي كتب ببنط غليظ ، تفنن الخطاط في تشكيله وتلوينه بلون وردي زاه يرمز إلى عالم الأحلام الوردية. إنها أحلام أم حامل بأن ترزق بوليدة جميلة. إن الصور الأربع الواقعة في الغلاف مباشرة فوق اسم الرواية ، لم تتخذ ذلك الموقع اعتباطاً ، بل تصدرته لأداء وظيفة دلالية هي سرد مكثف لمحكي رواية دنيازاد كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفاً . أما الجانب الأيسر من أعلى الغلاف ، فقد خصص للإشارة إلى هوية الكتاب ، حيث نجد لفظ ( رواية ) وقد كتب بخط مطبعي عادي داخل مستطيل أبيض اللون ، بينما خصص الجانب الأيمن من أدنى الغلاف لشعار دار النشر الذائعة الصيت ( دار الآداب ) بطريقة تشكيلية على شكل مربع، وإلى جانبه اسم الدار بخط مطبعي عادي. أما أرضية الغلاف ، فلونت بلون بني غامق يوحي بجو الحزن والأسى والفجيعة الذي سنصادفه في عالم الرواية ، وإن كان اللون الوردي الذي لون به العنوان ( دنيازاد ) ، يشير إلى معاني الآمال والأحلام الجميلة التي يظل الإنسان دائماً تواقاً إلى تحقيقها بكل ما أوتي من قدرة على التحدي وتجاوز أحزانه وآلامه ومحنه.

 والملاحظ أن الكاتبة عمدت إلى تجنيس مؤلفها في إطار الرواية ، وليس في إطار السيرة الذاتية ، رغم أن الحدث الرئيس في النص حدث حقيقي ، وتجربة ذاتية عاشتها في واقع الحياة. وتفسر ذلك بقولها ” عندما نشرت ” دنيازاد” عام 1997 كان علي أن اختار صفة نوعية لإلصاقها بالنص على الغلاف الخارجي.اختار الناشر ووافقت على اختياره أن نطلق عليها “رواية”. المشروع الأول عند كتابتها كان تكوين مجموعة قصص عن الحدث المأساوي الذي كنت أعيشه آنذاك وهو فقد ابنتي لحظة ولادتها. المشروع الثاني عند إعادة الكتابة كان تكوين نص طويل له ثيمة واحدة (الفقد والموت ) وراوية أساسية (الأم) وشخصية محورية (دنيازاد الابنة ) (عن موقع بوابة المرأة الإليكتروني ) ، والحقيقة أن النص يعتمد على طرائق سردية تنقله من جنس السيرة الذاتية إلى جنس الرواية مثل تعدد الأصوات ، وتنويع الضمائر ، والابتعاد عن السرد الخطي الكرونولجي ، وإفساح المجال للخيال في العديد من المقاطع السردية.

  أما عنوان الرواية ، فيتضمن مفارقة لفظية ، ” والمفارقة اللفظية ـ  في أبسط تعريف لها ـ هي شكل من أشكال القول، يساق فيه معنى ما ، في حين يقصد منه معنى آخر ، غالباً ما يكون مخالفاً للمعنى السطحي الظاهر” ( سيزا قاسم ، المفارقة في القص العربي المعاصر ، مجلة فصول ، عدد 2 ، 1982 ، ص : 144 ) ، ولفظ العنوان ” دنيازاد ” اسم مكون من دنيا ، وهو يحيل على معنى الحياة ، وفعل زاد ويحيل على معنى الزيادة والازدياد واقتحام عالم الأحياء ، في حين أن الوليدة التي حملت هذا الاسم في العالم السردي ازدادت ميتة. ماتت في رحم الأم قبل أن تنزل  إلى الدنيا.

داخل النص الروائي ، نجد أن الأم لم يتح لها القدر رؤية ابنتها دنيازاد حية ترزق ، ولم تتمكن من إنجاب طفلة أخرى تعوضها عن فقدان طفلتها التي ازدادت ميتة ،رغم مساعيها من أجل أن ترزق بمولود آخر” العلامات تقول إن لعنة قد حلت بجسدي ، وإني غير قادرة على المنح بعد اليوم ” ( ص : 71 ) ، ولكن الأم الكاتبة مي التلمساني ، استطاعت أن تمنح الحياة لوليدتها ” دنيازاد ” الرواية ، العمل الإبداعي الذي سينعم بالحياة والبقاء. إن حياتها ستبقى مستمرة. وستزداد نمواً ووسامة وعافية كلما احتضنها صدر قارئ محتمل لبيب ، أو عانقها بمحبة ، يراعُ مترجم مُجيد ، مفسحاً لها المجال لتحيى في فضاءات أخرى شاسعة ليحضنها بعناية أكبر عدد من القراء من جنسيات مختلفة عبر أصقاع العالم ( والمعروف أن الرواية ترجمت إلى عدة لغات أجنبية ). إنه نوع من التحدي خاضته الأم الكاتبة لمواجهة الموت والفقد بالإبداع والفن، تحد نابع من إدراكها أن حياة طفلتها إلى زوال وفناء، بينما حياة وليدتها ( دنيازاد ) الرواية سيكتب لها البقاء والخلود. ” ومن المعروف أن الإبداع اقترن في دراسات علم النفس ودراسات علم الجمال ودراسات كثيرة مفادها بأن الإبداع عملية ولادة ” ( حسن غريب أحمد ، انعكاسات في مرآة الأدب ، قراءة

في رواية ” دنيازاد ” ( أنفاس نت ، الجمعة ، 28 يناير 2011 )

         وربما انطلاقا من هذا الوعي ، انكبت الأم الكاتبة على تسويد صفحات روايتها بعد ثلاثة أيام فقط من الولادة. تقول الكاتبة نفسها في حوار أجراه معها الصحافي محمد أبو زيد في جريدة الشرق الأوسط : ” إن ( دنيازاد ) كتبت بعد ثلاثة أيام فقط من موت الطفلة ” ( الاثنيـن 14 فبراير 2005 ، العدد 9575 ). لذلك يرى الناقد سمير اليوسف أن الكتابة  كانت وسيلة اتخذتها الكاتبة للانعتاق من أسر الحداد ، وفي نظري أن الأمر يتجاوز ما ذهب إليه الناقد ، فالكتابة  ( أو السرد الروائي )  كانت وسيلة لولادة مولودة جديدة عنيدة ، تتحدى  الموت والفناء ، هي رواية ” دنيازاد “. وقد عبرت الكاتبة عن هذا التحدي لهاجس الموت ، متأثرة بالكاتب الفرنسي ” مونتناي” ( ق 16 ) بقولها ” أعتقد أن هاجس الموت ليس محملاً عندي بالقيم السلبية التي ترتبط دائماً بالحزن أو بالنهايات ، لكنه مرتبط بواقع ينبغي أن نتعايش معه ، ويضم في داخله القطبين : الموجب والسالب معاً. في ” دنيازاد ” على سبيل المثال ، يبدأ النص بمجموعة من أحداث الفقد ، لكنه ينتهي بميلاد جديد ” ( نفس المرجع السابق ) .ماتت الطفلة أثناء الولادة فيزقياً ، ولكنها ظلت حية طيلة الرواية في ذاكرة الأم وفي قلبها. فهي غائبة على المستوى المحسوس ، ولكنها حاضرة حضوراً قوياً على مستوى التذكر الدائم ، إما عن طريق الحلم ” اليوم أتمت ” دنيازاد ” ثلاثة أسابع . أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة ” ( ص : 29 ) ، أو عن طريق التخيل  ” يجري نحوي شهاب الدين وتجري خلفه مثل ظله ” دنيازاد “. ويجري خلفهما طفل صغير بلا ملامح. وتتشابك الأذرع جميعاً حول رقبتي ” ( ص : 61 ) . لقد كان رحم أمها قبراً لها ، بينما كانت ذاكرتها وخيالها فضاء رحباً لحياتها.

         يتناوب على السرد الروائي راويان أساسيان : الساردة ـ المشاركة الأم ، والسارد ـ المشارك الزوج أب ” دنيازاد ” ،  وذلك في فصلين : في الفصل الأول الذي يحمل عنوان ” سلة ورد ” ، الذي رُصِدَ من جهة ، لمحكي الولادة وفجيعة الأم بولادة ابنتها ميتة ” جاءت دنيازاد إلى الغرفة 401 للمرة الأولى والأخيرة ، تودعني ، في أكفانها البيضاء الصغيرة ” ( ص : 7 ) كما رصد من جهة ثانية ، لمعاناة الأب من ألم الفقد ، وتصوير حيرته وإشفاقه من إخبار الأم بالحقيقة المؤلمة ، بينما كانت هي  ما تزال تنتظر أن يُحضر لها الممرضات وليدتها من غرفة المواليد. إن مساهمة السارد ـ المشارك الأب في عملية السرد له دلالته هنا وهي مشاركة الأم محنتها ومعاناتها من الحادث المأساوي الذي عاشته. والملاحظ أنه يختفي في الفصول الأخرى باعتباره سارداً ، ولا يظهر إلاَّ في الفصل الموسوم بعنوان ” كان بيتاً في الحقول ” الذي يحكي فيه عن بيت عائلته القديم الجميل الذي قضت فيه أم دنيازاد خمس سنوات من حياتها الزوجية ، وعن عزم العائلة على بيعه ، كما فعل كل الجيران ، لتبنى على أرضه عمارة قبيحة المنظر.أما بقية فصول الرواية ، فتنفرد الساردة ـ المشاركة أم دنيازاد بسردها ، فترصدها لاجترار مأساتها ، والتفكير المستمر في مشكلة الموت ،  وتذكرها الدائم ابنتها ، وتفرغها لرعاية ابنها شهاب الدين ، وتوقها إلى حمل جديد، والتسلي باستحضار بعض ما قرأته من قصص مصورة  في سن الطفولة ( ص : 48 ) 

         تعنى الكاتبة بإطلاق أسماء على بعض شخصيات الرواية ، وتغفل ذكر أسماء بعضها ، وضمنها الزوج ، فلا تذكره باسمه ، وتكتفي بوصف ملامحه الخارجية ( ص : 85 ) ، وأهم الشخصيات التي تذكرها باسمها هو ابنها طفل الرابعة شهاب الدين وابنتها دنيازاد ، فالأول تحيى على ابتسامته ، والثانية تحيى على ذكراها. وإليهما توجه الكاتبة عتبة الإهداء : ” إلى ابتسامة شهاب الدين ووجه دنيازاد ”  

إن رواية ” دنيازاد ” تعبير صادق عن أعمق أحاسيس الأم الثكلى ، وإصرار على صناعة الحياة بواسطة الولادة والإبداع. وقد قال عنها الدكتور علي الراعي في مقال له بصحيفة الأهرام إن هذه الرواية تمثل تجربة فريدة لا يمكن أن تكتب عنها إلا امرأة ، لأن المرأة هي التي تلد وتشعر بألم الفقد بهذا المعنى.

…………………     

 

* كاتب من المغرب

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم