دنيا زاد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيرين أبو النجا

ولا زلت أكتب، وقد ادعيت أنها آخر الكتابة

مي التلمساني

 

الانجاب تجربة يتم فيها أعلى تكثيف لخصوصية المرأة، ومن البديهي أن النساء هن القادرات وحدهن على وصيف هذه التجربة، ولكن في نفس الوقت يتم استخدام هذه التجربة الفريدة كوسيلة لحصر دور المرأة بوصفها أما، وبهذا تتحول الأمومة إلى مؤسسة اجتماعيى ويتم تفريغ محتواها كتجربة بيولوجية ونفسية فريدة تمر بها المراة، و”دنيا زاد” رواية عن مغامرة الخلق الأمومی.

دنیا زاد هي أول الأعمال الروائية للكاتبة مي التلمساني وذلك بعد صدور مجموعتها القصصية الأولى “نحت متکرر”، وقد بدأت “دنیا زاد”، كما تقول الكاتبة كقصة قصيرة وهي الفصل الأول من الرواية الذي يحمل عنوان “سلة وردة”. وفي هذه القصة كان هناك التوثيق التفصيلي لتجربة ذاتية: الإنجاب تم موت دنیا زاد ثم العودة إلى المنزل،، وقد كتبت هذه القصة بعد ثلاثة أيام من مغادرة المستشفي أي يوم ۱۸ مايو ۱۹۹۰،  وهي تجربة كتابة مشابهة لتجربة نورا أميت في “قميص وردی فارغ” الذي بدأت أيضا كقصة قصيرة تحمل توثيقا لتجربة ذاتیة :

دنیا زاد هي أخت شهر زاد، وفي في هذا النص تحمل قدر اسمها في ألف ليلة وليلة، تموت دنیا زاد على مذبح العشق، فتحرك أختها شهرزاد لتفتدي الحياة بحکایاتها. أما في هذه الرواية، تموت دنیا زاد في رحم الراوية، فتدفعها لأن تحكي: “هنا تعود للكتابة احدى وظائفها الأولى: توليد الحياة من ظلمة الفقد”.

دنیا زاد هي الطفلة التي ماتت في رحم الأم وخرجت الى العالم بدون حياة، فقط بزرقة وجهها. دنیا زاد رواية تتساءل عن الموت والحياة من خلال رؤية ذاتية أنثوية، هي رؤية امرأة تموت طفلتها في رحمها..كيف تكتب هذا الرحم | العالم ؟.

كتابة الجسد المقبرة:

في أحد الأعداد الصادرة من مجلة إبداع جاء عنوان رئیسی علی الغلاف “البنات يكتبن أجسادهن في خمس عشرة قصة قصيرة”. وكان فصل – لعبة الموت من “دنیا زاد”، هو أحد هذه القصص: وداخل العدد كتب أحمد عبد المعطي حجازی مقدمة بعنوان “الجسد یکتب نفسه” يشرح فيها معني كتابة الحسد وهي مقدمة عامة جدا لا تعرف ولا تفصل مما أفضى الى الكثير من الاستياء فيما بين الكاتبات عموما. الا انني أستعير فقرة قد تكون مفيدة بشكل ما في هذه النقطة: “أن المرأة وهي تكتب جسدها، تكتب جسد الرجل أيضا. وهناك فرق كبير أن تكتب المرأة جسدها وأن تكتب المرأة عن جسدها. كتابة المرأة عن جسدها معناها أن المرأة طرف وجسدها طرف آخر، وبينهما حائل يتمثل في الأفكار والتصورات الموروثة التي تجعل المرأة عدوا لجسدها ولنفسها. أما كتابة الجسد في الكتابة التي يصبح فيها الموضوع هو الشكل، والكاتب هو المكتوب. المرأة تكتب جسدها معناها أنها تكتب نفسها، بعد أن استرد کیانها وحدته، ولم يعد هناك فاصل يفصل بين الكاتبة والموضوع”، وربما يكون مقال د. سمية رمضان بعنوان “رسائل الجسد عند نورا أمین و عفاف السيد”، محددا ومفصلا أكثر إذ تقول :”الكتابة الجديدة بعيدة عن التراث الايروتیکی العربي سواء كتبه رجال أو نساء لأن الجسد فيها لا يكتب من حيث هو أداة للمتعة الحسية وانما من منظور المعاناة الانسانية التي نتخلق وتتبلور من خلال العلاقات بين البشر داخل منظومة اجتماعية تحتقر التعبير الجسدي وتعرقل حتى فرص الانطلاق البريئة من الجنس ( ذلك الوحش ) تحت شعار الاحتشام والوقار”.

 في “دنیا زاد، تكتب مي التلمسمانی الجسد من منظور المعاناة الانسانية لامرأة ماتت طفلتها في رحمها. يتحول الرحم، مكان الحياة، الى مقبرة، مكان الموت، وبهذا يتم تفريغ الجسد من أية دلائل جنسية ويصبح الجسد في “دنیا زاد”، هو الجسد المقبرة.

في ألف ليلة وليلة قتل شهریار دنیا زاد وراحت شهرزاد تنتقم لأختها ولكل بنات جنسها. في « دنیا زاد، ماتت الطفلة وراحت أمها تكتب عنها لتتجاوز فقدها أو لتستحضر وجودها: “أمضيت في المستشفى ليلة واحدة.. والألف الباقية؟ أمضيها في ذكرى اسم لم أنطق به سوی مرة واحدة.. وربما مرتين، ( ص ۱۱).تكمل الراوية وجود دنیا زاد من مخيلتها وتكتبها وكأنها تحيا وتعيش تفاصيل الجسد الصغير وترسخ الألم في الرحم الخاوی و «لم تبق لدى سوى تلك الرغبة في اعادة تشكيل العالم، وفقا لقانون الغياب، (ص ۱۹): يبقى «ألم الرحم المنقبض والجرح الغائر والفراغ، ( ص ۱۹) ويتحول الجسد إلى أداة معرفية لرؤية وصياغة لعالم فهو قادر على منح الحياة وقادر على وأدها : “.. الآن يتدلى ثدیی بلا فائدة. وأخلع ثوبي مديرة ظهرى للمرآة ” ( ص ۲۰) تستنكر الراوية وجودها في العالم بعد موت الحياة في رحمها، وتسيطر عليها فكرة الموت بعد أن نبعت من جسدها.

ولأن ادراك العالم يتم من خلال الجسد المقبرة، تتحول كل الأشياء والعوالم حوله إلى لحظة موت كبيرة. ففي الفصل الثاني “جريدة الصباح” يطالع الراوية خبر موت صديق لها: “وقررت الا أذرف دموعا للمناسبة – هل مات هو أيضا؟ هكذا” ( ص ۲۳): ومن هنا تبدأ تنويعات فكرة الموت أو بمعنى أدق تفتيت لفكرة الموت. تقول می التلمسانی : “بعد الحادث الذي مررت به قررت أن أحاول تجاوز التجربة وقررت أن أقاوم بالكتابة. في لحظة معينة لا يمكن أن يفهمك أحد سوی الورقة البيضاء والقلم، ولم أنجح في الخروج من أسر الحادث: كتبت نصوصا كثيرة متفرقة كلها تدور حول فكرة الموت ودنیا زاد. تمت بتفتيت الموت الحقيقي بتخيل أشكال أخرى للموت، وهكذا وجدت أنني أقوم بعملية احالة – يتحول قصة موت دنیا زاد إلى موت آخر”.

كل التنويعات على فكرة الموت هي اذن محاولة لتجاوز لحظة الفقد الكبيرة. وكأن الراوية تدرب نفسها على قبول الفكرة. في “ثوب جديد للمناسبة” تقدم الراوية استقالتها من عملها وفي “كان بيتا في الحقول، تقوم عائلة زوجها ببيع المنزل الذي تزوجت فيه” وفيما بعد تقطع الراوية صلتها بصديقة لها. مشاهد تبدأ وتنتهي بالجسد المقبرة وبوجه دنیا زاد الذي تقاومة الكتابة. حتى عندما تجيء “لحظة انسلاخ بطيء من الماضي”، ( ص ۲) ترتد الراوية فورا الى جسدها لتسير في الطريق السری الآخر بين فتحة الحلق وفتحة الرحم. ذلك الذي صنعته ليست بطنی ويخترق عقبات الجسد ويمد خيوطا بين احساسی بالموت وبين كوني امرأة تلد. سؤال واحد يلح آخر الليل دائما.. هكذا.. (ص 43).

في فصل « لعبة الموت، تتكتف لحظة شجن عميقة اذ تتحول ذكريات الطفولة إلى فكرة فلسفية تساهم في اعادة صياغة الخطاب المعرفي او تساعد الراوية على تجاوز موت دنیا زاد. تكتسب قصصا لاکی لوك

المصورة معنى جديدا :« أنت الآن لاكي لوك نفسه لا ينقصك سوى حصان هزيل وطيب يشاركك الصمت والتأمل والمغامرة والوحدة. أنت الآن قاهر هؤلاء الأوغاد المخبولين وسيدهم. لن يستطيع أحد أن يربطك من أطرافك الأربعة في شمس الصحراء. ويصب عليك العسل حتى يأكلك النمل ۰۰۰، ( ص ۳۷). وهكذا توظف الروية ذکريات الطفولة التروض نفسها على قبول فكرة الموت وتجاوزها كما تم ترويض او تدريب لاكي لوك ليخرج منتصرا، وربما أكون قد خضت حقا لعبة موت مشابهة. وطقوس اختبارات أخرى. تقتل الخوف والدهشة الفزعة : لم يبق سوى اكتساب مناعات الفقد والقدرية المستسلمة والترقب » ( ص ۳۸ ) كيف يستعيد الجسد قناعته على منح الحياة ؟ كيف يكرر مغامرة الخلق ؟ وتبدأ الراوية لعبة مقاومة الموت بقصدية واعية: « دفعني زوجی بحركة رقيقة من يديه.. كنت أتمدد عارية فوق جسده. وكانت حيات العرق تغطي صدرينا المتلاصقين. استلقي فوق ظهرى الى جواره. وأمد يدي الى بطني الذي تكور بین خائفا مرتعشا. ای لعبة نلعبها الآن ثانية ؟… » ( ص ۳۹ ). انتاج طفل جديد لمقاومة الموت: “لم تكن لحظة استمتاع بل لحظة مقاومة، كنت ألعب مع الموت لعبة لأنتج طفلا جديدا يخرجني من أزمتي” هي لعبة لمقاومة الموت وفي نفس الوقت الجنس يحمل غريزة الموت،. فالرغبة في الحياة تكمن في اللاوعي واللاوعى / الرغبة يعمل مثل اللغة فينتقل من شيء إلى آخر ومن موضوع الى آخر ومن دال الى دال دون الوصول إلى معنی نهائی، وهذا يعني أنه لا يوجد ارضاء تام للرغبة، في حالة الموت فقط يمكن اشباع الرغية بشكل كامل -. وبذلك يستمر الجسد في مقاومة الموت بكل الأشكال المتعددة واهمها المقاومة بحيوات أخرى : « حين يبسط شهاب الدین ذراعيه، تلف ذراعی حول جسد وحید نحيل شاملأ الفراغ الآخر بالرغبة » ( ص 47).

الرغبة وتحولاتها:

“وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة” (ص ۱۸) وتحول الجسد معرفيا وحسيا إلى مقبرة. هذا الانفصال الاجباري ينعكس على شعور الراوية تجاه أمها، تحمد الله على سلامتی. أنا ابنتها التي خرجت بها من الدنيا (وماذا عن ابنتي؟) “وتدفعني الى حافة الجنون” ( ص ۱۷ ) هي الحافة التي ينفصل عندها الطفل عن أمه فيهجر المتخيل وينضم إلى الرمزی ولكن انفصال دنیا زاد عن أمها لم يكن طبقا للقواعد، لا بل كان غيابا عن الوجود مما سبب فجوة عميقة في رؤية الراوية للعالم. انها حافة الجنون التي تدفع الراوية للعودة إلى المتخيل imaginary  لتلبي رغبة الاتساقی مع العالم مرة أخرى. أي أن الراوية تتبادل الأدوار مع دنيا زاد الغائبة “ارتحل محلها لترى بعينيها الاتساق الوجودی”، “أسمع وقع أقدام حافية – اقدام عارية فوق بلاط مصقول، في التصاقها بالسطح الناعم تصدر صوتا يحتوینی ‘ حين أفتح عيني أجدني صغيرة أمامي: لم أتعد الثالثة من العمر: صغيرة و نحيلة ومبتسمة كالشمس. أحتضنني وأقبلنی وأسميني دنیا زاد التي كانت تشبهنی، ( ص 34).

منذ البداية كان الأهداء دالا: « إلى ابتسامة شهاب الدين ووجه دنیا زاد،. لم يسمح للراوية سوى برؤية وجه ابنتها و كان عليها نسج بقية التفاصيل « وجه أزرق اللون: أراه فوق صفحة السماء في الصباح. او في تموج أغطية الفراش إلى جواری حين يحل المساء. وجه نائم مختنق وجميل، ( ص ۱۸) ظل الوجه الأزرق مصاحبا للراوية ومجرا لرغبتها في الإبقاء على ذكرى طفل “ولد ولم يولد یکن له مثيلا أحد” ( ص 55). ويبقى اللون الأزرق من البداية وحتى النهاية وكأن درجاته ووضوح بريقه يحدد حجم الرغبة، يتعاظم اللون الأزرق مع الرغبة في الموت ويخف تدريجيا مع الرغبة في الحياة ومع لحظة المقاومة “أكتب أي شيء غير الموت الآن.. وقد نسيت عدد الأيام. ومرت سحابة بيضاء فوق صفحة الوجه الأزرق هناك. في سمائه الزرقاء تلك، جذبت زوجي إلى الفراش في حركة غير حقيقية. لأنتج طفلا جديدا لا يموت.. ها أنا.. أكتب يموت”. (ص 43). وبذلك يقاوم الانتاج الموت سواء كان انتاجا أدبيا أم انتاج طفل جديد

الا أن المقاومة الشديدة للموت رغبة في الحياة لا تنتج سوى صورة مشوهة من شخصية لاکی لوك: فبعد الترويض العنيف للنفس لمقاومة الموت وبعد القرار بانتاج طفل جديد تصبح الراوية قادرة على تصور أفلام الرعب “دون أن أشعر بالرعب حقا. وعلى اعداد شهاب الدين وحدی ليذهب الى المدرسة كل صباح. قادرة على التمرد واللامبالاة والاختيار والاشتراك في القرارات المصيرية دون أن تدمع لى عين أو يهتز لي جفن قادرة على حبس الدموع في المآقي عندما تطالعني النتيجة برقم 15 أو بيوم اثنين على حين غرة. ودون استعداد مسبق لتلقي الذكرى بين نهدي كالخنجر المسنون. قادرة على السأم أخيرا. كل شيء اذن مباح كل شيء بلا أهمية حقا”. (ص 12). لاكى لوك اللا مبالي الذي خبر لعبة الموت وتدرب عليها حتى تحولت الى لعبة الحياة. انها ذروة الوعي بالألم واللا مبالاة التي يحدث عندها نقطة تحول، يتحول الموت في الرحم والعالم الى حياة جديدة وكتابة جديدة ومرحلة جديدة – هی « نقطة تحول عند حافة الموت تفقد بعدها قدرتك على الاهتداء الى الطريق بمجرد النظر. تغمض عينيك. وتبسط ذراعيك. وتدور في فلكك المرسوم لعلك

تهتدى.. فان اهتدیت قیل “نقطة تحول” ( ص 12). ثم تجيء هذه الجملة في سطر منفصل : «هذه آخر الكتابة، هي آخر كتابة الفقد. نقطة تحول تنتقل بعدها الراوية من الموت إلى الحياة لتجاوز التجربة، لم تسقط في بئر التحول ولم تتحول الى مصاصة دماء”.

“دنیا زاد” تجربة دانية محاطة بالخيال متحرر النص من الذاتية المفرطة ليصبح عملا فنيا : “دنیا زاد، نص كتب الجسد الذي يقفد قدرته على الاستمتاع، الجسد الذي يحمل معه الموت، دنیا زاد نص يعيد صياغة تجربة الأمومة ويخلخل صورتها كمؤسسة تستخدم ضد المرأة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم