حسين عبد الرحيم
ها هوقلبي الشاب يدق بعنف طامحاً لمعرفة كل شيء. من أتى بي إلى هنا، ومن هؤلاء، في يدي حقيبة السفر، أعددتها منذ عقود، عقودا خمسة وأنا احملها، أطور من شكلها لتتناسب ومهمتي المستحيلة، أقف على أرض صلبة ولكنني خائف. نعم خائف ولكنني بكل قوة وعزم وبصيرة ارقب الشوارع في مدينتي. الريح رماد والعيد غبار ورمضان ينفلت كسحابة غائمة في قيظ ظهيرة في صيف أغسطس، أشعل سيجارتي وحدي واتامل تاريخ العائلة، حياة الكاتب. أفكر في المخرج ؟!
أفكر أن اكتب إليه رغم علمي بعدم وجوده في حياتنا، أتذكر آخر حديث من عل لمذيعة الصفاء وهو جالس في عليين على بحر عدن محاط ببحيرات من ماء عذب رقراق. تتعاظم ملامحه وهو بالرداء الابيض والحذاء الابيض ولون قميصه الأرجواني المخاتل، بعينيه الضيقتين ووجهة المنحوت الاسمر بفكيه البارزين وشعره المهوش، يتذكر آخر أيام الزمان، عمله وعلاقته بالعالم عبر الكاميرا، وحده كان القادر على تصويري في أحلك وأقسى مواقفي النفسية المريرة التي وصلت الآن لذروتها، في وقت لم يعد هناك جدوى للإنتظار ولا الصبر ولا التروي، فكم انتظرت كثيرا، وحدي على قارعة الطريق، وحدي في كل مرة، بقلم وورق أبيض مصفوف وذاكرة حية لا تموت، بمفردي وحقيبة سفر، وكاميرا فوتوغرافيا كوداك في طريق بلا علامات وقد طللت للشوارع والبيوت وسكن هناك، لم يعد لي لم يكن لي، لن يكون لي.
خمسة عقود وأنا أتنقل من بلد لآخر، شبه نائم، شبه يقظ، شبه مخدر، شبه حي، شبه ميت، يقظ بالحواس والبصيرة أفكر فيما آلت إليه الأحوال، أو قل المشيئة في سيرة العائلة والتي أوصاني سيدي بالكتابة عنهم فردا فردا، وكتبت قليلاً فلامني على قتلي للبطل وخاصة أنه لم يزل عائشا في الحقيقة. يتدبر أمر عمله وأسرته الصغيرة، كم كان عارفا بالكثير عن تلك السيرة، وأن أبي هو من يملك كل مفاتيح الحقيقة وبيده أن يعبر بنا جميعا شاطئ الامان وليس الحلم، أبي الذي سقط منذ ساعات منكفئاً على ظهره في طريق طرقه لعتبات باب الله في الارض، مسجد الشفاعة الذي تعاظمت درجات سلمه فزاغ عن بصر المتيم بلغة الآي آي، فصرخ من الغشم وطفح وهن عقوده التسعة في لحظات وتوقف العربة الغريبة ورؤية الغريب الساكن اعلانا بعد الدور السابع لملامحه وهو يبكي بلا تمثيل ساقطا بين السياراتين في شبه عتمة وقبل ثوان من دوي الآذان، كان يبوح بكل شيء فعله في مسيرته معنا وفي دروب الحياة.
حي على الفلاح.. ؟ّ أي فلاح يا ابي، وهل استيقظت وأنت الثائر البائس الفقير العظيم القاسي الغليظ الطيب الضاحك الباكي في ختام كل سيرة او حكاية تجترها من أزمنتك السحيقة في الحنايا والبحور والبراح والضيق في مخازن الشوك والأسى قرب محطات السكك الحديدية في مدينة الغرق والحرق.
أسأل نفسي وانا لم أزل حائرا بحملي، حقيبة سفر. زارني سيدي في المنام ليلة أمس وأفاض في الحديث همسا قبل الفجر وهو الذي لم يتعود على البوح قال لي اكتب لي من جديد، انني أعلم ما تفعله وما تقوم به وإياك أن تقتل بطلك في جديدك من السرد او الرسائل حتى ولو اصابه العمي، كن بالبصيرة رائيا فرؤياك نافذة أعلم ذلك، اكتب، قلت عيني كليلة سيدي وحطامي كثرت من خلف ظهري، ورأيت شخصا ما في شارعنا الطويل في المدينة البحرية يتعرف على نفسه من خلال ملامحي، كان ينظرني في البدء بريبة فأعقبها بدهشة وضحكة ساخرة اختتمت ببكاء حار وربت على كتفي وهذا من خشيته فأنا كاره للضعف.
ولكنني ياسيدي لا أخفيك سراً أنه وفور أن لامست أصابع كفه الأيمن كتفي فوجئت بأن الحقيبة تنزلق لأدني وجسدي يرتعد، قلبي مطمئن وأنا المغادر بعد قليل لبلاد كان لي فيها حلم ولعب وهوى وبحر وموت وألف وداع وآلاف الأصوات لسرائن مغادرة لمجرى الميناء والجو ساكن هنا ياسيدي بعد الغروب بلحظات.
عن أي الأشياء سأكتب له وانا قد عثرت أخيرا على حطام لظل. يشبهني في كل شيء حتى ملامحه وهذا البياض الرائق الودود في وجهة ولكنه اطول مني نسبيا ببوصات ثلاث، كان يقود دراجة نارية ويدور في فراغات شوارع الإسراء من حولي حتى استكان فؤاده عندما علم بقرب مغادرتي للبلاد الرمادية فجاء وتوقف في محاذاة مسجد الصخرة وأطفأ ماكينة دراجته وبات يرقبني فاستدرت بعد دقائق متجها لرجل الساعات الواقف قبل مدخل عمارات النور والتي انطفئت مصابيح مداخلها مع أول مغادرة لشهر الصيام فعوت الكلاب بالعشرات ترمح وتلهو في الظلمة بكل امان وقتما أحضر لها الطعام اللحمي الملفوف بالسيلوفان ورمى به برحمة رجل الساعات الطيب والذي لمحته للمرة الأولى يصرخ في الدعاء وقت ختم الصلاة، بل كاد أن يتشعلق في أحبال عمره التي اتلفتها التجربة ليصعد إلى الرب جهرا.
بعد عودته من المسجد، سيدي الغائب في متاهاته، ماذا اكتب وكم من الرسائل وصلتك منذ اختفائك من المدينة القاهرة، هل تعلم أنني سالتهم عنك منذ شهرين في شارع السراي فأكدوا موتك، ومنهم من قال بل جزم بمغادرتك للبلاد مع نهاية الالفية الثانية.
سيدي حسام الدين صاصا قل لي ماذا تفضل في سيرة الكاتب كي تتوافق وهواك وذائقتك بل حلمك ببطل فيلمك الجديد، المنتمي، اللا منتمي.
…………..
* مقطع من رواية بار توماس